بنفسج

زينب الغنيمي: سيرة هتاف متواصل "كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية"

الأحد 16 يناير

مرّ أسبوع على ولادة الصبي الأول بعد سبع بنات، وجلست أخته ذات الخمس سنوات باكية على صندوق في زاوية الغرفة، وجلّه أصوات المهنئات اللاتي لا تستطيع رؤيتهن بعينيها المرمدتين، تنادي على أمها المشغولة بـ"ولي العهد"، فردَّ عليها صوت جدّتها المؤنِّب ليفسّر لها سبب إهمال الجميع لألمها: "خلص اخرسي، دموية توخدك إحنا فيك ولا في الصبي؟". وعلى مدى سنوات وعيها التالية، فهمت زينب الصغيرة لِمَ كان حضور الصبي مهمًا إلى هذا الحد، فهمت لِمَ أصبحت غير مرئية في حضوره. لم تكن كلمات جدّتها الصادمة فقط، بل همسات الجارات وتلميحاتهن البريئة واللئيمة على حد سواء، وأُمنية أمها الصريحة حين تستحسن عملًا لها: "يا ريتك يا زينب جيتي صبي". وتعرّضها هي وأخواتها للتنمّر والضرب في طريق المدرسة؛ أصبح كونهن بنات بلا أخ صبي قوي مبررًا لاستهدافهن.

أغضبها الأمر وكبر غضبها معها، ثم في لحظة فارقة قررت أنها لا تقلّ في شيء عن أي صبي حولها، إن كان الصبية أقوياء فستصبح قوية، وإن كانوا يلعبون في الشارع فستلعب معهم وتهزمهم، وإن كان الصبية يضربونها فستضربهم؛ وهكذا أصبحت تدافع بشراسة عن نفسها وعن أخواتها وحتى عن أخيها الصغير، هكذا نبتت بذرة التمرد النسوي في نفس الصبية الغضة. تحولت الغنيمي مع الوقت إلى زعيمة صغيرة في حارة بني عامر في حي الدرج، وفرضت سيطرتها على مناطق اللعب في ساحة الشوا وتحت شجرة السدرة، هذه المساحات الضيقة التي بدت لها أوسع وأكبر مما هي عليه لأنها اعترفت أخيرًا بجدارتها. ولم تكفّ عن محاولة إثبات هذه الجدارة بكل الطرق؛ أصبحت عريفة الحفلات المدرسية وانضمت للكشافة، ثم انضمت في تحول فارق في حياتها لزهرات منظمة التحرير حين بدأت نشاطها في غزة في العام 1965.

| الابنة المسترجلة

انفوجراف زينب الغنيمي.jpg
السيرة الذاتية لزينب الغنيمي

وخلال المرحلة الإعدادية والثانوية، كانت تقرأ الكتب وتتعرف على المذاهب الفلسفية وتُكوّن هويتها الفكرية، تجرّب وتختبر قناعاتها مع عدة مذاهب، ورجحت الفكر الإسلامي في المرحلة الثانوية، فكانت أول فتاة تلبس الحجاب في غزة وتبعتها أختها الأكبر لأنها كانت ذات تأثير كبير على محيطها الاجتماعي، وأسفر هذا الزخم الفكري عن عدة محاولات في الكتابة الأدبية أثارت إعجاب أساتذتها. لكن حياة اللجوء لم تكن تسمح بأن تنال هذه الاهتمامات حقها في حياة الأسر المهاجرة، شارف الأب على التقاعد، وفكرت بناته بأن عليهن المبادرة بتعلم مهنة تمكنهن من تأمين احتياجات أسرتهن محدودة الدخل، فتعلمت زينب الطباعة على الآلة الكاتبة في نهاية المرحلة الإعدادية، وتعلمت أختها الأكبر المحاسبة.

كان سلوكها يثير حفيظة أمها التي خافت أن يُقال عن ابنتها "مسترجلة"، وإعجاب أبوها الأستاذ عبد الفتاح الغنيمي الذي كان مثقفًا منفتحًا ومعلمًا قديرًا؛ رجل أسّس أول مدرسة في رفح بمبادرة فردية، وكان أحد أعمدة التعليم في غزة، لكن هذا الخلاف كان دائمًا يُحسم لصالح والدها الذي تمتع بتأثير كبير على كل أفراد العائلة. في عام النكسة كانت قد بلغت الرابعة عشر؛ فتاة قوية وجريئة لم تتردد في قطع المسافة من حارتها إلى مستشفى الشفاء ركضًا بشكل يومي لترى الشهداء الذين تسمع أسماءهم في الإذاعة، وتشارك في مظاهرات تشييعهم. وأصبحت الفتاة الشجاعة تثير الأحاديث حولها، وأصبحت من الوجوه المعروفة في المظاهرات حتى باتت تُحمل على الأكتاف.

زينب الغنيمي.jpg
زينب الغنيمي في السنة الثانية بالجامعة
برفقة أصدقائها؛ من اليمين  الأستاذ حسن خضر، وعلى يسارها د. معين القيشاوي، وبجواره المهندس عزمي الخازندار

احتج الأقارب والمعارف، فواجههم أبوها قائلًا: "إلّي مش عاجبه ينشر براءة في الجريدة"، وأخبرهم أنه ليس لديه أبناء كبار يناضلون في سبيل الوطن، ولا مانع عنده في تقديم إحدى بناته لهذا العمل النبيل، إن أرادت هي ذلك. أدت هذه الثقة إلى اصطفاف العائلة وراء الصبية ووالدها حين تم اعتقالها لأول مرة قبل أن تبلغ السادسة عشر. وحين طُلبت الكفالة تسابق خالها وعمها لكفالتها فخورين.

ففي العام 1969 أقدم الاحتلال الإسرائيلي على اعتقال ثلاث طالبات من معهد المعلمات، فاشتعلت غزة بالمظاهرات، وبرغم خروجهن خلال يومين، استمرت المظاهرات الاحتجاجية، ثم سجلت المناضلة عايدة سعد سبق أول فتاة تقوم بعملية فدائية حين هاجمت قوة عسكرية بقنبلة، وفجّرت هذه القنبلة حملة اعتقالات طالت خمس فتيات، من بينهن عايدة سعد وزينب الغنيمي. على صغر سنها، رفضت الغنيمي الاعتراف بالاتهامات التي أراد المحققون توريطها فيها، وخرجت من هذه التجربة أكثر عنادًا وإصرارًا، مع حكم ستة شهور حبس مع وقف التنفيذ، وغرامة مالية كبيرة وكفالة أكبر، ومنع من دخول القدس لمدة سنة. تزاحم الناس على استقبالها والاطمئنان عليها، وحل الاحترام محل الانتقادات بعد أن نالت مكانتها كفدائية ناجية من سجون الأعداء.

زينب مع عائلتها.jpg
زينب الغنيمي مع عائلتها

برغم تفوقها، حددت في وقت مبكر هدفها لدراسة القانون أو الصحافة؛ فدرست القانون وعملت في مجال الصحافة. في الجامعة انضمت للتنظيم الطلابي في تحالف القوميين العرب والحزب الشيوعي، ثم انضمت لحركة فتح في العام 1972، وأصبحت عضوًا في اتحاد طلاب فلسطين، وتلقّت تدريبًا عسكريًا في تل الزعتر في لبنان، ثم أصبحت تقوم بمهمات لصالح حركة فتح، ومنها نقل أموال لقطاع غزة.

وفي العام 1975 تم اعتقالها للمرة الثانية من بيت أبيها بتهم الانتماء لتنظيم إرهابي والشروع بعمل عسكري لتصبح مهددة بالسجن المؤبد، لكنها كانت حينها -في السنة الأخيرة من الحقوق؛ أكثر وعيًا ونضجًا وإدراكًا لحقوقها، فأصرَّت على التنصل من التهم وثبتت أمام شراسة التحقيق والتعذيب النفسي، ورفضت المحامي الذي عينته لها المحكمة، وقامت هي بالترافع عن نفسها، ثم خرجت مع حكم سنة مع التنفيذ وسنتين مع وقف التنفيذ، وبعد سفرها لاستكمال الدراسة لم يتم تجديد تصريح الخروج ومن ثم تم سحب هويتها.


اقرأ أيضًا: مها شحادة: أصالة التفكر في الاختيار والدور الرسالي


أكسبتها هذه التجربة خبرة جديدة في العمل السياسي والقدرة على الصمود في مواجهة المصاعب والإيمان العميق بضرورة استمرار دورها النضالي، وتنوعت أشكال نضالها بما فيها أنها واصلت نشاطها في العمل الطلابي، وكانت أول فتاة تشارك بصفة قيادية في المؤتمرات الطلابية.

| العمل النضالي

زينب الغنيمي2.jpg
زينب الغنيمي برفقة زميلاتها في العمل النضالي

في العام 1977، وفي أجواء اتفاقية كامب ديفيد، أصبحت قيادات الحركة الطلابية الفلسطينية مستهدفة، فانتقلت إلى لبنان لأنها أصبحت ممنوعة من دخول فلسطين، وعملت أولًا في القطاع الغربي مع القائد أبو جهاد، ثم في مؤسسة الإعلام الموحّد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية صحافية في مجلة فلسطين الثورة، ثم صحافية في وكالة وفا. أثناء إقامتها في لبنان التحقت بشكل غير معلن بحزب العمال الشيوعي الفلسطيني، الذي تشكّل من معارضي سياسات أحزاب وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وتزوجت في العام 1980 من رفيقها في الحزب وعضو المجلس الوطني الفلسطيني الدكتور عبد الرحمن برقاوي.

وفي حرب 1982 التزمت بلبس الزي العسكري وحمل السلاح - أثناء عملها الإعلامي - للدفاع عن نفسها في حال تعرضت لهجوم. واجهت خطر الاستهداف في الميدان، لكنها واصلت عملها في تغطية الأحداث. حين انتهت الحرب، تم تفكيك "قواعد الثورة" في لبنان وترحيل جميع كوادر الثورة الفلسطينية مدنيين وعسكريين وفقًا لاتفاقية وقف إطلاق النار "المخزية".

انطلاقًا من انتمائها الوطني والأيديولوجي اختارت الغنيمي وزوجها ورفاقهما الرحيل إلى سورية لأنها قريبة من فلسطين، ولأن فيها وجود شعبي فلسطيني كثيف في المخيمات التي أصبحت مكانًا ملائمًا لنشاط حزبهما "الثقافي والسياسي والتوعوي"، وتعاون الحزب مع فصائل العمل الوطني الفلسطيني والسوري مخفيًا نشاطه لأنه لم يكن مرحبًا به، وبعد أن تم منع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني من دخول سوريا إثر انشقاق حركة فتح نهاية عام 1982، لم يتمكن زوجها من العودة إلى سورية وبقيت هي هناك وهي حامل بمن ستكون ابنتها الوحيدة فرح.

زينب مع أبو علي مصطفى.jpg
زينب الغنيمي مع أبو علي مصطفى؛ الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مقابلة

كانت الغنيمي في تلك الفترة قد شهدت على تفكيك نواة الثورة الفلسطينية المسلحة في لبنان، وهو ما أدى إلى تفكيك الحشود التي شكّلت هذه النواة، ورأت كيف طال هذا التفكيك العلاقات الإنسانية، وطالها هي شخصيًا، وكانت أيضًا قد اختبرت أشكالًا كثيرة من الخذلان، جعلتها متعبة لكن قوية.

اختارت أن تبقى وحيدة في ظل غربة قاسية، ومجتمع يستنكر وحدتها، وتجاهلت كل هذا، وبدأت تنحت وجودها بأظافرها، زرعت نفسها في مخيم اليرموك أقرب المجتمعات لوطنها، وانخرطت في أنشطة اتحاد المرأة واتحاد الكتّاب، ثم غزلت شبكة علاقات توسعت لتوصلها لقلب الوسط الثقافي السوري ثم البحريني فالعراقي فاليمني، وأخيرًا تحول بيتها إلى ملتقى ثقافي؛ إلى بوتقة مزجت فيها كل العناصر اللازمة، لدعم حالة استقرارها المؤقت هناك.

| حين كانت "فرح"

زينب الغنيمي وفرح.jpg
زينب الغنيمي مع ابنتها فرح

خاضت تجربة الحمل وحدها لأن زوجها ممنوع من دخول سورية، قست على نفسها وواصلت عملها، ولم يمنعها حملها من السفر مرتين وهي حامل لحضور اجتماع المجلس الإداري للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، مرة في الإمارات وهي في الشهر الخامس، والثانية في تونس وهي في الشهر الأخير، وأنهت عملها ورجعت بسرعة لأنها لم تكن تريد الولادة في تونس، تقول: "وكأنني في تحدٍ لألمي وتعبي".

قدمت لها شبكة العلاقات التي كونتها العون والحماية، فوجدت حولها أصدقاء رائعين وداعمين شكلوا لها عائلة في غربتها، فوجدت من يقف بجانبها في لحظات الولادة التي وصفتها بالسهلة والسريعة، ولأنها لم ترد أن تأتي ابنتها في ذكرى اجتياح بيروت، ولا في ذكرى النكسة، قرر طبيبها تحديد يوم الولادة بتاريخ 7/6/1985، حيث أطلت فرح على الدنيا تستقبلها الكاميرا التي وثقت لحظات حياتها الأولى.

" صحيح كانت الغربة قاسية، لكنني عشت سنوات من الصعب نسيانها في الشام؛ أيام جميلة غنية بحب الناس ودعمهم"، أكدت الغنيمي مبتسمة، لقد ساعدتها صديقاتها في تربية فرح، فكانت السيدة علية حرز الله تعتني بالطفلة، وتعلمها الموسيقى، وترافقها في السفر لرؤية والدها حين يتعذر على الأم المغادرة بسبب حجز جواز سفرها، وكانت جارتها أم حسام -أم فرح بالرضاعة- تعتني بها وتحتضنها حين تضطر الأم للسفر خارج سورية.

سهَّل ذكاء ابنتها وسرعة بديهتها تربيتها؛ "كانت تفهم تمامًا أنها في غربة"، واستطاعت أن تتعود على الحياة المنفصلة التي يعيشها والداها، لكنها لم تستطع أن تمنع أسئلتها وفضولها ولهفتها لرؤية أهلها البعيدين في الوطن البعيد. كان عمرها خمس سنوات حين فقدت جدتها لأمها، وقفت تواسي أمها قائلة: "ما كان معها وقت تستنانا".

حرصت الغنيمي على إعطاء ابنتها مساحة للتعبير وتشجيعها على ممارسة حقها في الاختيار؛ كانت تحاول أن تُبقي علاقتها بها في خانة الصداقة قدر الإمكان، لكنها مع ذلك تعترف أنها كانت شديدة في تربيتها لأنها أرادت أن تُنشئ طفلة قوية تستطيع الاعتماد على نفسها، وهذا ما أدى في النهاية لأن تصبح شخصية مسؤولة ومتعاطفة ومراعية تشارك أصدقائها ألعابها وتهتم بمشاعر أقرانها.

سهَّل ذكاء ابنتها وسرعة بديهتها تربيتها؛ "كانت تفهم تمامًا أنها في غربة"، واستطاعت أن تتعود على الحياة المنفصلة التي يعيشها والداها، لكنها لم تستطع أن تمنع أسئلتها وفضولها ولهفتها لرؤية أهلها البعيدين في الوطن البعيد. كان عمرها خمس سنوات حين فقدت جدتها لأمها، وقفت تواسي أمها قائلة: "ما كان معها وقت تستنانا"، وحين سافرت لقبرص لتهاتف جدها قالت له متوسلة: "لا تتوفى متل تيتا نفسي أشوف وجهك قبل ما تموت".

عصفت تجربة فقد الأم بقلبها في صمت، لم يكن هناك طريقة معقولة لتعبر بها عن حزنها الذي لا يعني أحدًا في منفاها، لم تُرِد أن تقف أمامه وتراه بوضوح فتنهار في مكانٍ يحتضنها، لكنه لا يتسع لمأساتها الكبيرة بحجم اليتم؛ غيَّب الموت أمها بعد اثنتي عشرة سنة من الفراق. في أوقات كهذه كانت الغنيمي تستدعي كل طاقة وعنفوان سنوات تمردها الأولى، لتتصدى بها للحنين الجارف ووجع الفراق، تقول لنفسها أن كل هذا العذاب ليس عبثًا، كانت هذه ضريبة طريق النضال الذي اختارته، وكل ذلك يهون في سبيل نبل الهدف والقضية الكبيرة.

زينب وامال صيام.jpg
في احتفال الثامن من آذار عام 2016 مع السيدة آمال صيام مديرة مركز شؤون المرأة

خلال ثلاثة عشر عامًا في مخيم اليرموك لم تكن الحياة دائمًا سهلة؛ تعاملت خلالها مع تفاصيل الحياة الصغيرة وتحدياتها الكبيرة على حد سواء: "كان في داخلي دائمًا الأمل في أن كل هذا سينتهي وسأعود لوطني". كان عليها أن تجد دخلًا آخر إضافةً إلى العمل في الصحافة، لتستطيع تأمين احتياجات بيتها. فتحت مكتبة صغيرة لبيع القرطاسية والهدايا والتدريب على الطباعة على الآلة الكاتبة. وفي نفس الوقت واصلت عملها النسوي والثقافي، حتى في أسوأ الأوقات حين انشقت منظمة التحرير، شاركت في تشكيل لجنة لإدارة الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين.

| العودة إلى الوطن

 
عادت إلى غزة في العام 1993 بتصريح زيارة عن طريق جواز سفر أردني استصدرته بناءً على جواز سفر زوجها، لأنه من مدينة نابلس في الضفة الغربية، خافت أن يتم اعتقالها أو منعها من الدخول، فأرسلت ابنتها مع عمتها أولًا، ولدهشتها تم ختم جوازها ودخلت دون مشاكل. فسألت نفسها: "هل يُعقل أن كل تاريخي لا يستحق أن يوقفوني يسألوني سؤال؟". 
 
ثم تم تعيينها مديرة في وزارة العمل بناءً على عملها السابق في منظمة التحرير: "اهتم أبو عمار بجميع الكوادر التي كانت تعمل في المنظمة"، عملت عشر سنوات مديرة للعلاقات الدولية في وزارة العمل.

عادت إلى غزة في العام 1993 بتصريح زيارة عن طريق جواز سفر أردني استصدرته بناءً على جواز سفر زوجها، لأنه من مدينة نابلس في الضفة الغربية، خافت أن يتم اعتقالها أو منعها من الدخول، فأرسلت ابنتها مع عمتها أولًا، ولدهشتها تم ختم جوازها ودخلت دون مشاكل. فسألت نفسها: "هل يُعقل أن كل تاريخي لا يستحق أن يوقفوني يسألوني سؤال؟". لكن هذا تكرر هذا مع أصدقاء آخرين، ثم اكتشفوا أنه بسبب اتفاق السلام الذي يتم ترتيبه في أوسلو.

حين دخلت غزة، كانت ما تزال في وقت الانتفاضة، وحين سُئلت ابنتها عن انطباعها عن المدينة أجابت: "أرضها سودة وحيطانها سودة ونسوانها سودة"، في إشارة إلى آثار الإطارات المحترقة، ولون الجدران المغطاة بشعارات ورسومات الثورة، والزي النسائي الشائع في تلك الفترة "العبايات السوداء". عادت الغنيمي إلى غزة بشكل رسمي في العام 1995، كانت مترددة خلال العام السابق لأنها كانت عودة تفتقر للنصر الحقيقي، لكنها حسمت أمرها في النهاية: "لم نختر المنفى؛ من حقنا ونريد العودة لبلدنا".

تم تعيينها مديرة في وزارة العمل بناءً على عملها السابق في منظمة التحرير: "اهتم أبو عمار بجميع الكوادر التي كانت تعمل في المنظمة"، عملت عشر سنوات مديرة للعلاقات الدولية في وزارة العمل، وصقلت خبرات السفر وحضور المؤتمرات الدولية شخصيتها المهنية وهذا لعب دورًا كبيرًا في تحديد ملامح مستقبلها لاحقًا.

زينب الغنيمي3.jpg
زينب الغنيمي برفقة الرئيس الراحل ياسر عرفات

كما كانت مندوبة عن وزارة العمل في لجان إعداد القوانين في المجلس التشريعي، وساعدها ذلك على استعادة "لياقتها كقانونية". وسجلت في الماجستير في جامعة أبو ديس، وحصلت على الدرجة في العام 2001 بعد الموعد المحدد للمناقشة بعام: "دائمًا يجب أن يكون هناك عقبة؛ عندما وصلت لموعد المناقشة قامت انتفاضة الأقصى، فتأخرت المناقشة سنة حتى تفعّلت تقنية الفيديو كونفرانس وكانت أول رسالة تتم مناقشتها عبر هذه التقنية في فلسطين".

تواصل عملها مع اتحاد المرأة وتركزت جهودها على تعزيز حقوق الانسان وقانون الانتخابات، والكوتة النسوية، وأحقية المرأة في الأدوار القيادية، وكتطبيق عملي قررت خوض تجربة الانتخابات في عام 2006؛ استقالت من منصب مدير عام، ورشحت نفسها لنيابة المجلس التشريعي عن دائرة غزة "عش الدبابير". "كنت أعرف أنني لن أفوز" قالت ببساطة، ثم شرحت الوضع باختصار بأنها لا تملك قوة داعمة؛ عائلتها صغيرة، وإمكانياتها المادية محدودة، وليس هناك حزب سياسي يدعمها، ونزلت في منافسة مع "عتاولة" الشخصيات من حركة حماس وحركة فتح. وأكدت أن هدفها كان توجيه رسالة: "نحن النساء نستطيع أن نفعلها".

زينب الغنيمي4.jpg
زينب الغنيمي برفقة عضوات الأمانة العامة لاتحاد المرأة الفلسطينية (غزة والضفة)

وهكذا خسرت في المعركة الانتخابية هي وأربعة عشر سيدة ترشحن عن الدوائر الانتخابية، رغم وجود صاحبات تجربة سابقة في الانتخابات مثل السيدة جميلة صيدم، والسيدة دلال سلامة، والسيدة ماجدة المصري، وهي عضو مكتب سياسي في الجبهة الديمقراطية ومن عائلة كبيرة، ومع ذلك لم تفز. تم تسجيل فوز النساء اللواتي ترشحن ضمن قوائم الحركتين الكبيرتين، وهو خيار كان غير مطروح بالنسبة لها لأنها كانت مستقلة.

حصلت على التقاعد المبكر، وعملت رئيسة مجلس إدارة مركز شؤون المرأة، وكانت عضوًا في اللجنة القانونية لاتحاد المرأة؛ تقدم خدمات قانونية للنساء، وبعد أن رأت حجم الشكاوي التي تصلها طلبًا للمساعدة، قررت أن تعمل على إنشاء مركز يقدم هذه الخدمات بشكل متخصص، وبالفعل، أسست مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة في العام 2006، بالتعاون مع زميلات محاميات وناشطات نسويات وزملاء محامين.

أكدت الغنيمي أنها سعيدة جدًا بهذا الإنجاز: "تجربة عظيمة، رأينا حجم الاحتياج الكبير للخدمات المتخصصة التي نقدمها، ووفرنا الدعم القانوني المجاني في المحاكم الشرعية والنظامية، والحماية لمئات النساء والأسر، ونفذنا عشرات من حملات التوعية والتثقيف". وتفخر الغنيمي بمبدأ الشراكة الهادف الذي تتبناه مع طاقمها، حيث سعى المركز لتأسيس عيادات قانونية في مؤسسات أخرى من خلال الممولين، وأسس المركز أيضًا تحالف أمل مع المؤسسات الأخرى لمناهضة العنف ضد المرأة، وهو شريك أيضًا في أكثر من تحالف.

زينب الغنيمي5.jpg
زينب الغنيمي في زيارة لمكتب اللواء محمود صلاح المدير العام للشرطة الفلسطينية (غزة)

وفي نقلة مهمة تطور عمل المركز بشكل إيجابي منذ خمس سنوات بفتح قسم الإيواء لحماية للنساء المهددة حياتهن بالخطر في مقر مركز"حياة" لحماية وتمكين النساء والعائلات، كما تم بدء برنامج الملتقى الأسري لمشاهدة الأطفال المحضونين من أحد الأبوين، إضافة إلى الاستشارات النفسية والاجتماعية والقانونية للمعنفات والدفاع المجاني عنهن أمام المحاكم الشرعية.

وتعمل الغنيمي حاليًا على برنامج يسعى لتأمين النساء المعنفات عند الوصول للمستشفيات أو مراكز الشرطة على خلفية التعرض للتعنيف الجسدي، حيث تم تنفيذ عشرات التدريبات لأصحاب الواجب العاملين في القضاء والشرطة والنيابة ووزارة الصحة. أعربت الغنيمي لبنفسج عن اعتزازها بأنها تقوم بهذا العمل بشكل طوعي، متمنية أن يترك ذكرى طيبة في قلوب الناس: "أردت أن أقدم الدعم والمساعدة وأنا سعيدة بهذا العطاء".

نفت الغنيمي أنها ندمت على أي قرار اتخذته في حياتها: "ليس من الصواب أن أقيّم ما فات بخبرة ما أنا عليه الآن"، وأضافت أن فقدان الأحبة والصدمات التي تلقتها من المقربين منها في الماضي هي ما صنعت خبرتها اليوم، لكنها تقر بأن الزواج مهم لبناء أسرة متوازنة رغم انتهاء زواجها في مرحلة مبكرة من عمرها. وتؤكد أن أكثر ما تفتخر به هو: أولًا نجاحها في تربية ابنتها لتكون مبدعة ذات سيادة على ذاتها تعرف ما تريد، وأنها: "فتحت طريق لكثير من النساء ليكنَّ رياديات ويبدأن من جديد". وأخيرًا، عملها التراكمي مع زميلاتها في الحركة النسوية على مدار السنوات الطويلة، مشددة على أنه ما زال هناك الكثير يجب إنجازه.