بنفسج

الأسيرة العروس... حين تُعتَقل "أجمل أيام العمر" [5]

الأربعاء 02 نوفمبر

الأسيرات الفلسطينيات
الأسيرات الفلسطينيات

عروسٌ فلسطينية، لكنها لا تتسوق لشراء "الجهاز"، لا تبحث عبر الإنترنت عن الديكورات الحديثة و"موضة" ألوان الطلاء، لا تتجول بين محلات "الموبيليا" لانتقاء قطعةٍ قطعة، ولا فرصة أمامها لاختيار التحف، حتى فستان الزفاف، ليس بيدها أكثر من تخيّل تصميم يعجبها وتودّ لو ترتديه، والتخطيط لحفل الزفاف مؤجل. عروسٌ، لكنها لا تملك أن تحقق أحلامها، ولا أن تكمل فرحتها، والسبب، أنها أسيرةٌ تقضي حكمًا في سجون الاحتلال.

عدة أسيرات مررن بالتجربة، قضين فترة خطبتهن، كلها، أو جزء منها، أسيرات، مثل الأسيرة منى قعدان التي عقدت قرانها على أسير في سجون الاحتلال واعتُقلت لاحقا، والأسيرة المحررة أحلام التميمي التي خُطبت لابن عمها عندما كان كلاهما أسيرا، قبل أن يتحررا في صفقة "وفاء الأحرار"، ومؤخرا تزوجت المحررة بيان فرعون بعد الإفراج عن خطيبها، الذي اعتقله الاحتلال قبل أشهرٍ قليلة من موعد زفافهما، ثم اعتقلها هي أيضًا. "بنفسج" حاورت الأسيرة المحررة بيان فرعون لتحكي لنا عن "الأسيرة العروس".

آمال عروس خلف القبضان

_______________________________-57.png

عندما كانا يدرسان في نفس الجامعة، تعرف الشاب أحمد عزام على الآنسة بيان فرعون، فتقدّم لطلب يدها، وكانت الخطبة في نهاية 2014. كأي عروسين، كانا يخططان لحياتها معًا، حدّدا موعد الزواج، وفكّرا في البيت، والعمل، والأولاد، وغير ذلك مما سيستجد عليهما عندما يعيشان تحت سقفٍ واحد. شهر إبريل من عام 2016 هو الموعد المتفق عليه للزواج، لكن الاحتلال غرس سكينه في قلب فرحة العروسين في سبتمبر 2015، عندما اعتقل العريس. في غمضة عين، وجدت بيان نفسها خطيبة أسير، وبعد أشهر قليلة، وفي غمضة عين أخرى، حصلت على لقب جديد "أسيرة"، إذ اعتقلها الاحتلال في مارس 2016. وبذلك، عندما حان موعد الزفاف، كان بطلا قصة الحب خلف القضبان، فطالت الخطبة سنوات عدّة في انتظار حرية العروسين.

"جلس على نفس الكرسي أحمد خطيبك"، هكذا استفتح المحقق أول جلسة تحقيق مع بيان، ففهمت أن "رحلة التعذيب النفسي باستخدام خطيبها" بدأت، وسرعان ما وجدت ما يثبت لها ذلك، إذ كان المحققون يشوهون صورته أمامها، ويشككون في حبه لها، كما تقول.

تكمل: "كما حاولوا تفريقنا بأساليب مختلفة، لكن ما بيننا من تضحيات ووفاء أكبر من أفعالهم، الله ألف بين قلبينا وهو أعلم بما فيها". هكذا كانت البداية، محاولاتٌ لجعل خطيبها سببًا للقلق، بدلا من أن يكون مصدرًا للأمان، لكنها تؤكد أنها لم تتأثر لثقتها به وبحبه لها".

_______________________________-60.png

السنة الأولى من الخطبة الطويلة، أي قبل بدء تجربة الأسر لكليهما، كانت كافية لتتعرف بيان على خطيبها، وتتفق معه على أعمدةٍ سيبنيا حياتهما عليها، لكن ما بعد تك السنة لم يكن سهلا أبدا، ففي السجن، لن يزورها خطيبها، ولن يدعوها لتناول الطعام في مطعمها المفضل، ولن تتحدث معه مطولا عبر الهاتف، ولن تنتظر رسالة يقول فيها "صباح الخير"، حتى تبادل الرسائل والأخبار لن يكون سلسلًا لكون كلاهما أسيرًا.

التواصل هنا لا يكون بالزيارات ولا الاتصالات، بل عبر المحامين والأهل، تسألهم عنه في الزيارات، وتخبرهم بما تريد أن توصله له، ويأتيها ردّه في الزيارة التالية، هكذا كانا يتبادلان كل أخبارهما، ويتناقشان، ويخططان، ويتحدثان في كل شيء، حتى لو كان وصفة طعام جديدة ابتكرها الأسرى، يعطيها أحدهما للآخر ليجربها.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


وعلى صعوبة التواصل، حصلت بيان على كل أشكال الدعم من خطيبها، خاصة عندما صارت ممثلة للأسيرات، كان يرسل لها النصائح والتوجيهات، وأحيانا تستشيره فيجيبها، فكان حسب وصفها: "الناصح الأمين، والسند المتين، وخير معين". البطء في تبادل الرسائل طوّر لدى العروسين شكلًا خاصًّا من التواصل، "تواصل الروح" كما تسمّيه بيان، حيث كانا يشعران ببعضهما، ويريا شيئا من أخبارهما في مناماتهما، فتجدها ترى في المنام أن خطيبها حزين، ثم تعرف أنه كان كذلك بالفعل، ويخبرها هو أنه شعر بضيقها في يومٍ ما، فتؤكد له شعوره.

| مذياع يحمل أجمل الهدايا

رسائل عبر الراديو.png
المذياع في السجن يحمل الرسائل من الأهل والأحبة للأسيرات وهو حلقة الوصل بينهم

هذا الانقطاع، كيف يؤثر على الشابة؟، تقول بيان: "قد تخشى العروس في هذه الحالة تراجع مشاعر خطيبها تجاهها، لكن هذا لم يحدث معي أبدًا، كنت واثقة أن البعد لن يزيدنا إلا حبًا وإخلاصًا ووفاءً، وبأن حبي في قلبه لن يقل، بل سيزيد، لم أقلق من جهة مشاعره، لكني كنت شديدة القلق عليه، ودائمة التفكير بحاله، كونه كان معتقلًا أيضًا، وخاصة عندما كان في سجن النقب الصحراوي، حيث الطقس الصعب، وكنت أفكر في حياتنا معًا بعد الحرية، أفكر في التفاصيل وأضع الخطط، وأشارك خطيبي أفكاري عبر الرسائل".

ومن حديث النفس الذي تحكي لنا عنه، أنها كانت تتخيل حواراتها مع خطيبها بعد الإفراج عنهما، وكيف سيكون تأثير السجن عليها،  فكلاهما خاض التجربة مما يسهل عليهما الحديث عنها واسترجاع ذكرياتها دون شرح بعض التفاصيل التي لا يفهمها إلا من جرّب الاعتقال، وكذلك تخيّلت المزاح بمصطلحات السجن، وهذا ما حدث بالفعل.

رغم السجن، حصلت بيان على أجمل هدية في حياتها، فذات مساء، بينما تستمع الأسيرات لـ"إذاعة الأسرى"، كانت المفاجأة، المذيع يقول إنه سيُلقي قصيدة كتبها الأسير أحمد عزام لخطيبته الأسيرة بيان فرعون، ثم بدأ ببيتها الأول: "قل للحبيبة بالحديد تسوّرت... شلّت يمين البغي عن يُمناك".


اقرأ أيضًا: فوبيا الارتباط بالأسيرات... حقيقة أم خرافة؟


في تلك اللحظة، استنفرت الأسيرات، أخذن ينادين بصوتٍ واحد: "بياااان تعالي اسمعي"، منهن من أسرعت في البحث عن ورقة وقلم لتدوين القصيدة، ليتسنى لـ"بيان قراءتها وقتما شاءت، ومع أول كلمة من القصيدة، عمّ الصمت القسم، الكل يسمع بسعادةٍ لأجل صديقتهن العروس. مهما تماسكت، إلا أن "مشاعر الإنسان تتغير وتتقلب، ولا بد من نوبات حزن، لكن المؤمن بالله يعود للصواب بسرعة، فيصبح وأقوى وأشجع"، كما تؤكد.

وتوضح: "الأمل دومًا موجود، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، عندما يعطينا الله البلاء، يرزقنا معه الصبر، وكذلك يرسل لنا من يخفف ألمنا، وهذا حال الأسيرات اللواتي خففن عني كثيرًا". اعتقال العروس، ليس صادمًا لها فقط، بل ولأهلها الذين كانوا ينتظرون طلّتها بالأبيض، تقول بيان: "اعتقال الأنثى صعب جدا على الأهل، بغض النظر عن حالتها الاجتماعية، لكن أن تكون الابنة المُعتقلة عروسًا تستعد لزفافها، فهو قاسٍ جدًا، فالسعادة، وتجهيزات الزواج، والتفكير في شكل حفل الزفاف، وكل مظاهر الفرح تنقلب في لحظة إلى قلق، وخوف، وحزن.

_______________________________-61.png

وتضيف: "بالنسبة لي، كنت وأهلي مهيئين لتأجيل الزواج بسبب اعتقال خطيبي، ومع ذلك كان اعتقالي مؤلمًا لهم، فبعد أن كنا نخطط لما بعد الإفراج عن أحمد، صاروا يفكرون في مصيري، ووضعي داخل السجن، وعدد السنوات التي سأقضيها فيه، وحالي بعد الخروج منه". أمّا خطيبها، ما تزال آثار الخبر ترافقه، فعندما أخبره ضابط الشاباك: "اعتقلنا خطيبتك"، فقد السمع والبصر، تعطّلت الحواس لفترة، وحتى الآن تتألم عيناه من حين لآخر بسبب مروره بالصدمة، لكنه كان ثابتًا عندما أخبره الضابط: "حكمها طويل"، إذ رد: "والله أنتظرها لو حكمتوها مؤبد".

| حين انكسر القيد ..لقاء مرتقب

_______________________________-59-1.png

وعمّا بعد السجن، توضح بيان: "هو ثمن غالٍ ندفعه من حياتنا، يقتطع من زهرة شبابنا، لكنه يعطينا خبرات وتجارب لا تكفي عشرات السنين خارجه للحصول عليها، ننهض من تحت التجربة المؤلمة لنواصل الطريق ونعوّض ما فاتنا، وفي العادة، من يجرّب الأَسر يدرك قيمة الأهل، والمشاعر، وأصغر الأشياء من حوله، لذا نزل سقف رغباتي جدًا، أكثر مما أنا عليه، فأنا أصلا قبل اعتقالي أرضى بالقليل ولم أطلب الكثير لحفل الزفاف وبيتي".

من أهم إيجابيات الاعتقال بالنسبة لبيان، انعكاساته الجيدة على علاقاتها، إذ تقول: "أنا وأحمد ارتبطنا ببعضنا أكثر، وصار حبّنا أقوى، وأصبحت أرواحنا في تواصل دائم، حتى بعد الحرية"، مضيفة: "كذلك الحال بالنسبة لأهل زوجي، كانوا لي أهلًا، ولطالما أخبروني أنني ابنة لا كنّة". لأجل ذلك، فإن سنوات الخطبة كان أجمل أيام العمر بالنسبة لبيان، تجاوزت ما فيها من ألم وفراق وقلق، وركّزت على نتائجها؛ حبٌ أكبر، وعلاقاتٌ أقوى، وعقلٌ أوعى. تقول: "من أجمل فترات الحياة، حتى مع السجن، رغم الألم والقهر والوجع، هذا قضاء الله، اختبر حبنا، فكنَا أهلا للحب والوفاء".


اقرأ أيضًا: أمًا وابنة: مشاعر الأنثى طوعتها الأسيرات بالحب [4]


بعد الإفراج عنها، في يوليو من العام الماضي، لم تتمكن من تحقيق أحلامها مباشرة، كان عليها انتظار حريّة خطبيها، لذا كانت فرحتها منقوصة، بينما أخبرها هو أنه شعر بالحرية بعد حريتها، ظلّا يتواصلان ويخططان، هي في الخارج تجهز بيت الزوجية، وترسل له كل التفاصيل، وهو في الداخل ويقرأ رسائلها ويشاركها مخططاتها. بعد تأخيرٍ زاد عن خمس سنوات، تمكن العروسان من إقامة حفل زفاهما في الرابع عشر من أغسطس الماضي.