بنفسج

أمًا وابنة: مشاعر الأنثى طوعتها الأسيرات بالحب [4]

الأربعاء 02 نوفمبر

الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي
الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي

عند الحديث عن فراق بين أمٍ وأبنائها لأي سبب، غالبًا ما يكون أقرب أوجه التعاطف هو التفكير في اشتياق كل طرف للآخر، لكن في الغياب ما هو أبعد من ذلك، فيه ألمٌ يظهر جليًّا عند النظر في أحوال الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، الأمهات وغير الأمهات منهن. تريد الأم أن تستمتع بممارسة أمومتها، تمسح على رأس صغيرها، وتطبع قبلة على وجنته، تتمنى أن تجهز له الإفطار ثم توقظه ليستعد لمدرسته، وتشتاق لجلسة تدردش فيها مع ابنها الجامعي عن أصدقائه ودراسته ودرجاته في الاختبار الأخير.

 يأسرها الحنين لفنجان قهوة من يد ابنتها الصبية، خلال شربه تتبادلان أطراف الحديث، تتكلمان عن كل شيء، عن الدراسة والعمل وتنظيف البيت وإعداد الطعام، عن أحوال الجيران، وفستان العروس في حفل زفاف قريبهم، تريد أن تسمع من ابنها سرًّا يرجوها ألا تخبر أباه به، وتجسّ نبض ابنتها حول موضوع ما لتطمئن عليها، وتراقب الصغار لتتأكد من حسن سلوكهم.

| أمهاتنا في سجون الاحتلال

مشهد اشتياق اسيرة لابنها.png
يعشن الأسيرات الأمهات مرارة الاشتياق ويعوضن الفقدان بالأسيرات القاصرات فيرين فيهن أبنائهن

باختصار، تريد الأسيرة الفلسطينية أن تكون أمًّا، تهتم، وتربّي، وتقلق، وتقدم الحب بلا قيد أو شرط، فهي لا تشتاق لأبنائها فقط، تشتاق أيضا لتقديم الأمومة. هذا عدا عن اشتياقها لأمها، فهي أمٌ محرومةٌ من أبنائها، وابنةٌ محرومةٌ من والدتها. الأسيرات غير الأمهات، يشتقنَ للحظة في أحضان أمهاتهن، يحتجن حنان الأم، ويتلهفن للحظة دلال، لسماع دعاء بالخير منها، لوقفة مطولة في المطبخ يصل الحديث فيها لأي موضوع، لجولة في السوق تنتهي بشرب كأس عصير على عجل في مطعمهما المفضل.

تريد الواحدة منهن أن تعيش دور الابنة البارة، تهتم بإخوتها الصغار لتنال أمها قسطًا من الراحة، أو تساعدها في أعمال البيت، أو تفاجئها بكأس شاي بالنعنع في نهاية يوم شاق، ومع بداية شهر مارس تفكر مطولًا في الهدية التي ستقدمها لها في يوم الأم. حاجة الأمهات للأبناء، وحاجة البنات للأمهات، التقتا لتصنعا شكلًا استثنائيًا من العلاقات الاجتماعية، في السجن، الأسيرة الأم ترى أبناءها في كل صبية، فتحنو عليها بفائض الأمومة المخزّن عندها، وتبادلها الأخرى مشاعر الابنة المشتاقة لوالدتها.


اقرأ أيضًا: هيفاء أبو صبيح: في أن تكوني أمًا وأسيرة


بداية الحديث، من عند ثلاثة أطفال أكبرهم بعمر سبع سنوات كانوا جزءًا من مشهد مؤلم، في المطار، أثناء العودة من خارج البلاد، حين اعتقلت قوات الاحتلال الأب والأم، وأخذت الإخوة لتسليمهم لعائلة جدّهم لأمهم. الأم في هذه القصة هي الأسيرة المحررة صابرين سالم، قضت في سجون الاحتلال أربع سنوات، وكان أصعب ما عانته خلالها التفريق بينها وبين أبنائها، خاصة أن والدهم أيضًا أسير.

تقول في حديثها لـ"بنفسج": "الاحتلال يستغل الأمومة للضغط على الأسيرة، يحاول أن يكسرنا بأي طريقة، لا تمر لحظة على الأم تنسى فيها ابنها، هي على الدوام تريد أن تراه، وتعانقه، وتعطيه حاجته من الحب والحنان والاهتمام، فمهما قدّم له الأقارب من مشاعر لا شيء يعوض غياب الأبوين، كما أن  قلق الأم على أبنائها يبلغ ذروته في بداية الأَسر، إذ من الممكن أن تقضي شهورا لا تعرف فيها شيئًا عنهم".


_______________________________-70.png

وتبين: "رغم انشغال الأسيرة بأمر اعتقالها، إلا أنها تفكر في كل تفاصيل حياة الأبناء، حلو حياتهم قبل مرّها، تتساءل عمّن يلبي احتياجاتهم، وصحتهم، ودراستهم، وتتألم إذا سمعت خبرا صعبا كمرض أحدهم، حتى الأخبار الجميلة تتحول إلى سبب للحزن، لأنها لا تعيش السعادة معهم".

ومن أكثر ما يرهق الأم، بحسب صابرين، أن يكبر صغارها بعيدًا عن عينيها، وتتطور حياتهم في غيابها، وتسمع أخبارهم من بعيد دون أن تكون شاهدة على ما يمرّون به. أما الزيارات، فتزيد النار لا تخمدها، هي قليلةٌ وعلى فتراتٍ متباعدة، وخلالها يفصل بين الأسير وأهله الزائرين حاجز زجاجي، ويكون التواصل عبر هاتفٍ ينقل الصوت مشوشًا ومتقطعًا، وهذا لا يلبي حاجة الأم المشتاقة، وفي حال سمحت إدارة السجون للأسيرة بلقاءٍ مباشر مع أبنائها، فهي دقائق معدودات يتفاقم في نهايتها ألم الأم، فكيف لها أن تترك صغيرها وهي لا تدري متى ستحتضنه مرةً أخرى؟.

تقول صابرين: "إنها كانت تسأل نفسها بعد كل زيارة: "وين راحوا أولادي؟"، وتسجل كل ما دار بينهم من حديث، وأصعب ما كانت توثقه مشاعر أبنائها التي باحوا بها، كأن تطلب منها أصغرهم: "بدي ياكي"، وأن تخبرها الكبيرة: "حلمت فيكِ بتبوسيني وتحضنيني". ما سبق، ليس حديثًا عن الفراق فقط، ولا عن حاجة الطفل لأمه، وإنما في ثناياه حاجة الأم للابن، ورغبتها بتقديم أمومتها، وهذا ما تؤكده صابرين بقولها: "كنت أعوّض حرماني من أبنائي بإعطاء الحب والحنان للأسيرات القاصرات".

فتيات وقاصرات في سجون الاحتلال

_______________________________-71.png

عند اعتقالها، كان في السجن 18 فتاة قاصر، كثيرًا ما كنّ يخبرنها بشعورهن بأنها مثل أمهن. تبين أنها كانت تحرص على معانقة القاصرات وتقبيلهن في كل صباح، وعند إغلاق الغرف مساء، حيث القاصرات في غرف منفصلة، وتتقرب منهن وتجلس معهن لتبادل الحديث في مختلف الأمور، وتساعدهن في تسريح شعورهن، وتعدّ لهن ما يشتهين من الطعام، وتهتم بالتفاصيل الصغيرة مثل المسح على رؤوسهن بحنان يشبه حنان الأم، وفور اعتقالها بدأت بتعليمهن اللغتين العبرية والإنجليزية.

_______________________________-73.png

حتى بعد التحرر، تجد بعض الأسيرات الصغيرات تلقبنّ غيرهن بـ"أمي الثانية"، وهذا لأن الأسيرة الأم تقدم للقاصرات والشابات غير المتزوجات كل ما تفعله الأم، بحسب صابرين. في المقابل، وكما تبيّن، فإن الأسيرات غير الأمهات تفعلن ما تفعله الابنة، مثل تنظيم حفلات في يوم الأم، وأعياد الميلاد، وتقديم الهدايات، حتى أنهن يطلبن المشورة ويطرحن ما لديهن من أسئلة عن الحياة والعمل والتعليم وكل ما سرقه منهن السجن حين دخلنه في مقتبل العمر.

بفضل هذا التكامل، تكون بعض الأسيرات أمًا في أحيان، وبنتًا في أحيانٍ أخرى، إذ يجدن حنان الأم عند الأسيرات كبيرات السن أو اللواتي قضين سنوات أطول في السجن. مثلا بالنسبة لـ"صابرين" كانت تشعر أن الأسيرة "خالدة جرار"، التي قضت معها سنتين، بمقام أمها في السجن، كانت تطيل الجلوس والحديث معها، وتستشيرها، وتبحث لديها عن الخبرة، حتى في الطعام، تتعلم منها كيفية إعداد بعد الوصفات أحيانا، أو تسألها كيف تفضل صنفا معيّنا لتصنعه كما يعجبها. تقول صابرين: "هذه العلاقة تخفف ضغطًا كبيرًا على الطرفين، فالمشاعر الصادقة التي نعطيها لبعضنا كانت بمثابة جرعات صبر على الفراق، الأم تشبع جوعها لأبنائها، والبنت تجد لمسات الأم الحانية".

| الأسيرة ناريمان التميمي "كلهنّ بناتي"

_______________________________-72.png

استثناءٌ عاشته الأسيرتان ناريمان التميمي وابنتها عهد، إذ اعتُقلتا معًا، وبقدر حاجتهما لبعضهما في السجن، بقدر ما كانتا تكبحا جماح علاقة الأم بالابنة، حرصًا على مشاعر المحرومات من ذويهن. تقول الأسيرة الأم ناريمان: "كانت تجربة صعبة جدًا بالنسبة لي، أثارت في نفسي مشاعر القهر والعجز، فكم هو مؤلمٌ رؤية طفلتي تمرّ بمعاناة السجن، لم أكُن أجرؤ على ممارسة أمومتي مع ابنتي كي لا أجرح باقي الأسيرات، ما أقسى أن أسيطر على مشاعري تجاه ابنتي وأبتعد عنها حتى لا نحرّك حزن غيرنا".

وتتابع: "كانت عهد قاصرًا وقت اعتقالنا، وللقاصرات غرفتان منفصلتان في نفس القسم، ويتم فتح الغرف وإغلاقها وفق المواعيد التي تحددها مصلحة السجون، لذا كنا نلتقي في أوقات الفورة، وفي هذه الساعات أطمئن عليها وأتحدث معها، وأحيانا نتواصل عبر نوافذ أبواب الغرف تنادي إحدانا الأخرى لتخبرها بشيء ما، حتى لو كان اقتراحًا بفتح التلفزيون لمتابعة برنامج ما".


اقرأ أيضًا: مذكرات أسيرات: فصل جديد لميس أبو غوش


ولا تنكر التميمي أن ثمة فائدة تحققت بفضل هذه التجربة المؤلمة، وهي أن علاقتها بـ"عهد" صارت أقوى. لم تكن عهد ابنتها الوحيدة في تلك الفترة، بل كانت كل الأسيرات صغيرات السن في نفس المكان، فمثلا إحداهن تنادي التميمي "أمي"، ولم تنفك عن مناداتها بذلك حتى بعد الحرية.

توضح: "مع توطد العلاقات، وفيض مشاعر الأمومة عند الأمهات، والشوق للأم عند الأخريات، تتحول علاقة الأسيرات ببعضهن لما يشبه علاقة الأم بالابنة، كما أن الأسيرة الأم تحيط الأخرى بالعناية والحب والعطف، والبنت تذكرها بأمومتها عندما تجهّز لها مفاجأة، أو تطلب منها صنفا من الطعام، أو تسألها عن رأيها". وتلفت التميمي أن الأسيرة الأم، عندما تشتاق لأمها قد تجد حاجتها عند أسيرة قاصر تمارس دور الأم، وهذا جزء من "المشاعر الغريبة والمختلطة في السجن"، حسب وصفها.

| منار الشويكي "الأسيرة الطفلة"

اشتياق ابنة لأمها (1).png
الأسيرات القاصرات داخل سجون الاحتلال يفتقدن حنان الأم فتحاول الأسيرات الأمهات إغداقهن بمشاعر الأمومة

منار الشويكي، دخلت السجن قبل أن تكمل عامها الخامس عشر، وقضت فيه أربع سنوات، بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن. وصلت الشويكي السجن في ساعة متأخرة بعد متصف الليل، حيث الغرف مغلقة على الأسيرات، وبعد ربع ساعة من وصولها كان موعد توجهها للمحكمة، وهذا ما حال دون استقبال الأسيرات لها بطريقةٍ تخفف عنها كما درجت العادة في سجون الاحتلال.

نحو عشرة أيام قضتها الطفلة على هذا الحال، تتنقل بين السجن والمحاكم، فصار صعبا على الأسيرات احتضانها، لكنهن كنّ يفعلن كل ما باستطاعتهن عندما تكون بينهن، يسألنها عن أحوالها وجلسات المحكمة، ويصنعن لها ما تحب من الأطعمة، ويوفرن حاجتها من الملابس. تقول: "اعتُقلت بينما أنا طفلة بحاجة لحضن أبويها، فلم أفهم كيف انقطعت عن أهلي فجأة، خاصة أني قريبة جدا من والداي و لي مكانتي في الأسرة كوني أكبر إخوتي".

وتضيف: "مع موعد كل زيارة، يشتد ألمي، أرى أمي من خلف الحاجز الزجاجي ولا أستطيع أن أمسك بيدها، كل ما أفكر فيه في تلك اللحظة أنني أريد معانقتها، وبعدها فليضعوني في السجن قدر ما شاؤوا". في فترة اعتقال الشويكي، كان للقاصرات غرفتين، يتراوح عدد المعتقلات فيها بين 12 إلى 18، وكانت هي مسؤولة الغرفتين.

_______________________________-74.png

عن العلاقة بين الأسيرات، توضح: "الأسيرات يمنحن بعضهن جوًا عائليًا، وهذا يخفف عنهن كثيرًا، لكنه بالطبع لا يغني الإنسان عن أهله، خاصة بالنسبة للقاصرات". الأسيرات الأمهات كنّ يتعاملن مع القاصرات والشابات في بداية العشرينات كما تتعامل الأم مع ابنتها، يطمئنن عليهن، ويسألنهن عن احتياجاتهن، ويوفرن لهن الملابس، ويفاجئنهن بأصناف الطعام التي يفضلنها، ويقدمن لهن النصائح، ويتابعن مواعيد نومهن، ويخصصن أوقاتًا لتدريسهن، كلٌ في التخصص الذي تجيده، ويحتفلن بأعياد ميلادهن، ويعاتبنهن بلطفٍ إن لزم الأمر، بحسب الشويكي.

وتبين: "حتى العتاب منهن كان جميلًا، لم يكن جارحًا أبدا، لأنه كان لمصلحتنا، وبه كنّ يقوّمن ما يرينه من خلل عندنا، كمعاتبنا إن أهملنا نظافة الغرف أو نظافتنا الشخصية، وإن قصّرنا في الدراسة، أو إذا اختلفنا معًا نحن القاصرات، وأحيانا كن يتخذن إجراءات عملية مثل سحب التلفزيون من الغرفة في فترة اختبارات الثانوية العامة". وتلفت إلى أن من أهم ما تعلّمه الأسيرات الأكبر عمرا للقاصرات، الاعتماد على النفس، فيعلمن طفلة في الرابعة عشر كيف تبني شخصيتها وتتصرف بوعي كإنسان راشد ناضح، لتتمكن من التأقلم مع حياتها خلف القضبان.


اقرأ أيضًا: تغريد جهشان: من عايشت الأسيرات من خلف الأسوار


خلال سنوات اعتقالها، تم اعتقال ناريمان وعهد التميمي، تتذكر تلك الفترة: "كانت الأسيرة ناريمان التميمي تتقرب من القاصرات، فمنحتنا شعورا كبيرا بأنها أمّنا، ولم تكن تشعرنا أبدا أنها مع ابنتها بينما نحن محرومات من أمهاتنا، لذا كانت في كل صباح تُقبّلنا جميعا قبل ابنتها، وتعاملنا أفضل مما تعاملها،  كنّا نقابل ذلك بأن نفعل ما نستطيع لنعوض الأمهات عن أبنائهن، فنتعمد أن نشعرهن بوجودنا، ونهتم لحزنهن، ونحتفل بهن في يوم الأم، فنشتري الحلوى من الكنتينة، ونرسم على الورق، ونجهّز هدايا بسيطة من صنع أيدينا، ونتجول في الغرف صباحا لنعطي كل أمٍ هديتها ونقول لها (كل عام وأنتِ بخير)، وأحيانا نصنع الحلوى بأنفسنا وننظم لهن حفلًا في الساحة خلال الفورة".

وتصف الشويكي غرفتا القاصرات بأنهن كانتا مصدرًا لسعادة قسم الأسيرات بالكامل؛مفسرة "فالأسيرة التي تشعر بالضيق تأتي لتجلس معنا، والتي تشتاق لأبنائها تأتي لتطفئ شوقها، كنّ يخبرننا دوما أننا بمثابة بناتهن وأخواتهن الصغيرات". القاصرات كنّ ملاذًا لبعضهن في بعض الأحيان، فمثلًا الشويكي التي كانت مسؤولة غرفتي القاصرات، كانت تحاول أن تعوض رفيقاتها الحرمان من الأهل رغم أنها تعيشه مثلهن، تطمئن عليهن وتوفر ما ينقصنهن وتهتم بكل أسيرةٍ جديدة، لذا كنّ يلقبنها "ماما ميكي".