بنفسج

انتهت زيارة الأسرى: هذا الباص مثقل بالحكايا

السبت 15 أكتوبر

في ساعات العصر، والطريق طويل، تطوى أمامي صفحات الجبال؛ فالأودية؛ فالصحراء؛ فسهول الزرع الأخضر. الشمس، برتقالية اللون، تقصد الغرب لتختبئ من تلك العيون الدامعة داخل الحافلة، ولكنها تصرّ قبل أن تغادر أن تنير الحافلة بدفء شعاعها، وكأنها تضع يدًا حانية على أكتاف منهكة! جزء من الرؤوس اتخذت حافة نافذة الحافلة وسادة، وجزء آخر أمسك الكرسي الذي أمامه بيديه، ومد رأسه مشرئبًا يطالع الطريق، وكأن خياله يسبقه إلى البيت، لا تدري هل هو هارب من واقع هذه الحافلة، أم أنه خائف من أن يغير وضعيته، فيحن ويشتاق لحبيبه الذي خَلَّفَه خَلْفه في صحراء ريمون بعيدًا.

البعض قد اتخذ كرسيه حُجرة انزوى فيها ليبكي بصمت، يبكي دموعًا كابر على إبقائها حبيسة المقل طوال اليوم داخل ساحات زيارة السجن، هذه الحافلة متعبة، حافلة العودة من السجن، من بين كل الحافلات التي تَنقُلنا في ذلك اليوم من مدينتنا حتى الحاجز إلى السجن ذهابًا وإيابًا هذه حافلة ثقيلة الحمل، مرهقة، تسوق بتسارع نحو البيت، وبطىء شديد بالنسبة للقلوب التي انهكت روحها، بين مشقة الطريق، وتعب القلب، والشوق الذي لا ينطفئ، وألف حكاية صبر وألف رواية.

| أهالي الأسرى في الباص

البعض قد اتخذ كرسيه حُجرة انزوى فيها ليبكي بصمت، يبكي دموعًا كابر على إبقائها حبيسة المقل طوال اليوم داخل ساحات زيارة السجن، هذه الحافلة متعبة، حافلة العودة من السجن، من بين كل الحافلات التي تَنقُلنا في ذلك اليوم من مدينتنا حتى الحاجز إلى السجن ذهابًا وإيابًا هذه حافلة ثقيلة الحمل، مرهقة، تسوق بتسارع نحو البيت، وبطىء شديد بالنسبة للقلوب التي انهكت روحها.

في كل مرة أقول لنفسي سأنام، أريد أن أهرب من أي قصة سأسمعها في هذه الحافلة، لأنني أعرف أنها ستحفر في قلبي وعقلي خنادق متأججة بلهب المشاعر ونيران الآهات المكبوتة، وسيعميني دخان العجز الذي أشعر به كل مرة يخبرني أحد قصة دمعته، أو سكوته، أو هيامه! ولكنني لا أتقن الهرب، وأنا شخص يتقن الحضور بكله عندما يحدثه أحد، وحتى لو لم يحدثني أحد تراني أتأمل تلك الرؤوس التي تركت الطريق تهزها يمينًا ويسارًا باستسلام، وكأن الروح لا زالت في أقسام السجن لم تغادر، وهذا الجسد استسلم لانحناءات الطريق، لا يكتثر أين تودي به، تجدني أتأملهم وأسبر غور أرواحهم بصمت، أتخيل كل شخص وحمله، ومسؤولياته، وتطلعاته إلى المستقبل.

-هل إلى لقاء من سبيل؟ -هل سأكون على قدر المسؤولية؟ -عليّ أن أكمل ما تركته خلفي من مهمات الليلة، ولكن هل سيكون بمقدوري ذلك بعد سفر يصل إلى خمسة عشر ساعة؟ أتخيل الحوارات وأحاول إسكات عقلي عن التفكير، لأنه شيء يدفعك إلى الجنون حقًا، عندما تجد امرأة تزور منذ ٢٠ سنة، وعجوز تزور ابنها تتعكز على مرافق لها، لا تدري هل ستراها الزيارة القادمة أم لا؟


اقرأ أيضًا: أبناء الأسرى: ما بين الانكسار والأمل


حاج كبير يتوكأ عصاه يحمل بيده أدويته، يتصبب عرقًا، ويمشي خطواته مثقلة، تسمعه يهمهم ويقول: "إن شاء الله آخر زيارة". فتاة في مقتبل العمر تزور خطيبها، وامرأة مع طفل صغير لم يمض على زواجها سوى بضع ذكريات جميلة والكثير الكثير من الألم والتضحية، وطفل لم يعرف والده سوى من خلف الجدران والتفتيش وحراس السجن، ينام في كل مكان، وإذا استيقظ، فملاعبته تطفي الروح على كل من في المكان!

أصناف من الآهات على هيئة بشر هم ركاب هذه الحافلة، أذكر أنني حاولت أن لا أسألها ما بها، وأنا قد لاحظت أنها في طوابير تسجيل الزيارة بكت بصمت ومسحت دمعتها بكبرياء، ما أن وقعت عيناي عليها في الحافلة حتى تنهدت وكتمت دمعتها مجددًا، لم أستطع أن أوقف نفسي عن سؤالها ما بها، لا من باب الفضول بل من باب الرحمة، فأنا من أقل الناس فضولًا في ما يتعلق بالآخر.

| حكايات الوجع في عيون أهالي الأسرى

بهية1.png
أهالي الأسرى في الطريق لزيارة أبنائهم الأسرى "صورة أرشيفية"

أجابت وأتعبتني، تعبت أيامًا من جوابها، حين قالت: "في أواخر رمضان ذهب ابني -متزوج وله أبناء صغار- ليفطر عند أحد أصدقائه، في الطريق وقع حادث معهم وتوفاه الله، بكيت في زيارة اليوم لأن هذه أول زيارة لي لابني الأسير بعد وفاة أخيه، تخيلي لم يستطع أن يودعه، لم يلق عليه آخر نظرة، كان الحمل ثقيلًا، أن أدخل على ابن لي أسير، حرمني منه المحتل، لأحدثه عن ابني الآخر الذي فارق الحياة، فبكت وبكيت، حبست دمعتي ولكنها أبت إلا أن تخرج في ذلك اليوم، واليوم وأنا أكتب هذه الكلمات.

في زيارة بعد أشهر، ركبنا حافلة العودة الثقيلة التي لا أحب مجددًا كالعادة، كان السائق في عالم آخر، وعلى مستوى عال من عدم الإحساس بالتعب الذي نشعر به، واختناق حناجرنا بغصات ألم الفراق، فقد وضع على أعلى صوت أغاني أفراح ورقص لم نستطع تحملها، وعندما تبرع شخص أن يطلب منه خفض الصوت، نستطيع أن نقول أنه خفضه ولم يخفضه، فقد أبقاه على درجة لا زالت تصرع رؤوسنا للأسف، التفتُ لأضاحك الحاجة التي ورائي، فقد كانت رفيقتي في هذه الزيارة منذ بدايتها، لاحظت خلال الرحلة تقلبات مشاعرها، راقبت تلهفها وخطوتها السريعة، ضحكاتها ونحن على كرسي الانتظار، تبادلنا الكثير من الأحاديث، والأطعمة والشراب، شكت لي صحتها وضعف ركبتيها و نظرها، ولكن كان هذا كله بروح مشرقة.


اقرأ أيضًا: خارج أسوار السجن: ماذا عن زوجات الأسرى؟


 رأيتها تصلي على عجل الظهر والعصر جمعًا وقصرًا عندما نادوا على اسم ابنها الأسير للزيارة، عندما خرجت كانت شخصًا آخرًا، روحًا جديدة، رأيت أعينها تهرب من أن تلتقي بعين أحد، رأيت الكثير منها قد انطفئ، لازمها الصمت، وهذا ما جعلني التفت في الحافلة لأضاحكها، ولكنني تفاجئت بها وابنتها تبكيان، مسكْتُ يدها، وحادثتها بأن الله أحن عليه منا، لم تتركيه خلفك إلا والله كفيله، أرجوكي لا تبكي، كانت تهز رأسها لا تسعفها الكلمات.

 وشعرت أن وجودي والتفاتي لم يكن مرحبًا به، فقد كابرت طوال الزيارة كي لا يرى أحد دمعها، وهي الآن تريد البكاء بعزة وكبرياء وصمت، كانت عيونها تهرب مني باتجاه نافذة الحافلة، فمسحْتُ على يدها وعدت لجلستي أغالب دمعتي وأحاول تشتيت تفكيري بأي شيء آخر، ولكن كما أخبرتكم فهذه الحافلة ثقيلة ومتعبة، دقت ابنتها على كتفي، أحنيت رأسي فقط، لم أكن قادرة على مقابلتها وجه لوجه، فإذا بها كمعظم الناس في الزيارة يسهبون في سرد قصتهم دون سؤال، وكأنهم قد أرهقهم الكتمان؛ فقرروا إخراج كل شيء مرة واحدة.

قالت: أمي تبكي لأن أخي – وهو المحكوم بالمؤبد ووقضى في السجن ١١ سنة- طلب صورة لأختي التي توفت منذ سنتين، ولم نستطع أن نجلب له الصورة اليوم لظروف حصلت، فهي لا تدري: أتبكي على حالها وقد حل كبر السن عليها ضيفًا ثقيلًا، أم أن ابنها السجين الذي اشتاق أخته التي لم يستطع أن يقول لها كلمة وداع، أم ابنتها المتوفاة، أم من هم في الغربة من أخوتي!

أظن أنك تشعر بما شعرت وقتها، خانتك الكلمات كما خانتني، وتوقف عقلك عن الشعور بالزمان والمكان، وشعرت بالتيه في هذا العالم الموازي من الأحزان التي لا نجد لا وصفًا مناسبًا. ولكنني سأعيد لنفسي كلمات قلتها مرارًا لمن هم معي في الزيارة: "الله أحن علينا منا، الله أرحم بنا منا، حاشاه أن يطلع على قلوبنا المنهكة هذه ولا يخبئ لنا من الخير أحسنه، ومن الفرج أعظمه، ومن السعادة ما يدوم في الدنيا والآخرة".