بنفسج

في غياب الأب الأسير: كيف تغدو الأمومة؟

الأحد 07 يونيو

قالت مريم يوماً وقد استيأست: "لا دخل لي، أريد أبي على عيد الأضحى، لقد انتظرت كثيراً، أياما وأياما؛ وفي كل مرة تقولين لي: " لقد اقترب الفرج..." أنا بحاجة حنانه، أنا بحاجته!

قلت بنبرة معاتبة: "وحناني أنا ألا يكفي؟" فقالت: بلى، ولكنني أريد حنانه، أريده بجانبي، كلما رأيت أباً مع أبنائه غرت، نعم أنا أغار جداً.قلت لها: "هل تحبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ استغربَتْ؛ فما دخل ذلك بثورة حزنها التي زارتنا فجأة؟" قالت: نعم.

قلت لها: "كان مثلك يشتاق أباه ويفتقده، لا بل إنه أصبح يفتقد أمه وأباه بعد أن توفيت هي أيضاً. أنت لديك فرصة لأن يعود أبوك في أي لحظة من السجن، وها أنا هنا أعطيك كل الحب. تخيلي كم كنت لتكوني حزينة لو كنت مثله؟ كم من مرة احتاج والده أو والدته ولم يجدهما؟ كم مرة سمع كلمة بابا وماما ولم يكن يستطيع أن يقولها؟ أنت على الأقل تزورين والدك في السجن كل فترة، صحيح؟

عادت تبكي وتقول: " أنا مشتاقة، أنا حزينة .." فقلت لها: "الله لا يريدك كذلك، فهو الذي يقول لا تخافي ولا تحزني إنّا رادوه اليك، أي أنه سيعيده إليك يا مريم، فقط اصبري."

ألا تعلمين أنه سيكون بانتظارنا هناك في ذلك المكان الجميل الذي لا يشبه الدنيا أبدا، فلا فقد فيه ولا ألم.

ألا تثقين بكلامي، لقد بات الأمر قريباً جداً، حتى ولو كان والدك كوالد سيدنا محمد تحت التراب، ألا تعلمين أن الله سيعوضنا بلقائه في الجنة؟! و سنكون هناك سعداء حقاً في قصورنا الجميلة التي أعدها الله لنا إن صبرنا، ألا تعلمين أنه سيكون بانتظارنا هناك في ذلك المكان الجميل الذي لا يشبه الدنيا أبدا، فلا فقد فيه ولا ألم.

يحكم القدر حكمه فتجد الأم نفسها وحيدة في درب المسؤولية الزوجية تدير دفة القبطان الغائب، مع أن سفينة الحياة تحتاج قائدها قبطانها ورئيسها لتستمر.لا نتحدث هنا عن واقع الغرب الذي تكثر فيه الحالات المشابهة بحكم حياتهم ومعتقداتهم المختلفة عنا، بل نتحدث هنا عن كل أم غاب ملكها الذي كانت تعيش أميرة في ظل عرشه الدافئ.

يبدو الأمر صعباً مع ذلك الطفل الصامت الذي لا يعبر عن أحزانه، وكأن الأمور تسير على ما يرام. ولكنك تسمعين صريخه في أغوار نفسه، وتصعب أيضاً مع طفلك الذي يعبر عن مشاعره بكلمات قاتلة تذبح وتقطع أوصالك في الوقت الذي تحاولين بصعوبة أن تدفعيه للثبات.

وفي ظل غياب الدعم العائلي الذي يكون ناتجاً عن عدم القدرة على التصرف الصحيح في أوضاع مشابهة، وغياب مؤسسات الإسناد والدعم التي تكون مخصصة لمثل هذه الحالات، يزداد الأمر تعقيدا فوق تعقيده الذي لا يحتمل.

دائما بيدنا القرار أن نجعلهم أسوياء أقوياء مهما بدا الوقع صعباً عصياً، بتبسيط الأحداث، وتهوين الأمور. بالابتسامة والكلمة الدافئة المطمئنة تحل أصعب العقبات التي نمر بها نحن وأبناؤنا.

قد تطالع مشهد حلقات الدعم التي تقوم بها بعض المؤسسات الغربية القائمة أساساً على جمع حالات مشابهة من نفس المصاب، فيتحدث كل واحد عن ألمه ويدعمه ويؤيده البقية بإشراف من معالج مختص يقدم النصح. عدا عن استماع كل واحد لمصاب غيره فتهون عليه مصيبته، أو يشعر أن هناك من يدرك شيفرات المشاعر الصعبة التي يصفها صاحبها، فتسكن روحه لمجرد شعوره أن هناك من يفهمه.

ولكن مع كل ما سبق ما زال هناك بصيص أمل في كهوف هذه المعضلة، فالأم التي بفطرتها تدرك ما يحتاجه أبناؤها، وتعلم كل أنواع بكائهم ما قبل الكلام، فتميز صرخة الجوع عن التألم، عن تلك التي تشي بنعاسه؛ بنفس هذه الفطرة ستدرك دون أي جلسات توعية وحلقات دعم كيف تقود سفينتها وحدها، وإن ضلت الطريق مرات ومرات، بعيونها وقلبها ومشاعرها ستعلم كيف تمسك بيد ابنها الكتوم أو الذي يذبحها بوصف مشاعره.

يتأثر الأبناء عادة بأفكار آبائهم، ويتخذون منهم قدوة؛ حتى في حركاتهم وسكناتهم يقلدون طريقة كلامهم ومشيتهم وضحكتهم، فكيف لا يقلدونهم بقوتهم وتفاؤلهم، سيسمعون عبارات القوة التي نقولها لأنفسنا وعلى مسامعهم ثم يرددونها في عقولهم، وستسمعهم يقولونها لألعابهم وأقرانهم.

دائما بيدنا القرار أن نجعلهم أسوياء أقوياء مهما بدا الوقع صعباً عصياً، بتبسيط الأحداث، وتهوين الأمور. بالابتسامة والكلمة الدافئة المطمئنة تحل أصعب العقبات التي نمر بها نحن وأبناؤنا.

فتلك مريم تفاجئني يوما بقولها: "أعلم أن أبي سيخرج من السجن قريباً -رغم حكمه بمئتي عام في سجون الاحتلال- لأن الله يستجيب كل دعواتي التي أدعوها كل الوقت ولم يتبق إلا أن يستجيب لي هذه. مريم التي تبلغ من العمر تسع سنوات لم تصل لهذه القوة وحدها، إنما كان ذلك نتاج عبارات كثيرة وردود قوية أقدمها لها في كل مرة تأتي باكية تشكو شوقها لوالدها.

وينتظر عبادة عند خروج والده الكثير من الأجهزة الإلكترونية، وعندما يتمناها أقول له: "سيخرج والدك ويأتي لك بواحدة، لا لشي إلا لأشعره أن الأمر بات قريباً جدا فيبدأ مع أخته برسم أحلام وردية لمستقبل جميل قادم بدل السواد القاتم.

تلك الأحلام تبقيهم أحياء على بساطتها، تجعلهم يفكرون بإيجابية، تعينهم على أن يتقبلوا كل الأحداث الصعبة، التي تكون كفيلة بتحطيم بنيتهم وتهميشها تماماً، سيكون الأمر صعباً كل يوم عندما يخرجون من المنزل فيجدون أباً يمسك يد أبنائه في العيد الذي يأتي يتيماً دون سند، صعباً أيضاً في صرخة كلمة بابا التي يسمعونها عشرات المرات من أقربائهم، وتذكرهم في كل مرة بحجم الألم الذي يعيشونه.

ازرعوا في أبنائكم الأمل واجعلوهم يلجؤون إلى الله في كل مرة يشعرون فيها بالفقد، فأنتم لن تستطيعوا أن تغيروا واقعهم إنما يفعل ذلك سبحانه. كثيراً ما قلتها صراحة: "لا تشكو لي فلا أملك لك من الأمر شيئاً هيا ندعو معاً لواقع أفضل".