بنفسج

في زيارة علية القوم: يتحول المُر شهدا

الأربعاء 10 يونيو

خمس سنوات مضت لي في زيارات متفرقة إلى سجون الاحتلال، أزور فيها زوجي وحبيبي الغالي الذي فارقنا دون اختيار منه، أمر يراه المثبطون جنونًا، ويراه العارفون وصولًا، فكل يرى بعين عقله، وهنا طبعًا ستختلف صحة العقول، وعليك أن تصغي لأسلمها، وأصحها لتستمر في درب الحرية. تلك التصاريح التي تُمنح لنا بلونها الأزرق، تعني أنها أمْنِيَّة، أي أنه لا يحق لنا الزيارة إلا مرة كل أربعة أو ستة شهور. حمدا لله، غيرنا حُكم عليه بالمنع الامني الدائم، فلا وصل ولا وصال!

القليل يمتاز بتصريح سنوي لونه بني، هو كحلم رجل مقفر بامتلاك منزل بالنسبة لنا، البعض يرى الزيارة همًا ونكدًا، والبعض يراها ألمًا، خاصة لمن ألمَّ به مرض. بعضهم يُجَمِد مشاعره، فتراه يهيم على وجهه لا يدري أين يساق. ولكنهم جميعًا يتفقون أن ٤٥ دقيقة مع أسراهم تساوي الدنيا بما فيها من نعم!

في كل مرة أذهب للزيارة، أعود مثقلةً بالقصص والمشاعر والأفكار، ربما أحتاج من يومين لأسبوع حتى أتخفف من أثر الزيارة الجسدي والنفسي المتعب، عدا ذلك الشعور بغمرة السعادة في دقائقي المعدودة مع زوجي، فتلك لا شأن لنا بها. أظنكم تفهمون قصدي، فتلك دقائق مقدسة كلَ ما تحدثنا عنها انتقصنا من قدسيتها قليلًا، أليس كذلك؟!

 | صحراء فلسطين

صحراء فلسطين.jpg
صحراء فلسطين

كنت أوثّق تلك الزيارات بكلمات أحيانًا، وأرفقها بصور وفيديو أحيانا أخرى سأذكر لك بعضها، فلا يمكننا أن نحشر خمس سنين في مقال طبعًا. في عام ٢٠١٦ قررت أن أكون مرشدًا سياحيًا متخصصًا بالسجون، فحّولت الأمر كله لأليس في بلاد العجائب. لا تسألوني لماذا، أو دعوني أخبركم شيئًا. أنا أرى الأمور من هذا المنظور.

رحلتي السياحية، تبدأ هذه الرحلة مساءً، حينما لا أستطيع النوم، فكيف أنام وقد أغفو عن موعد الحافلة، أستيقظ مع أذان الفجر، أجهز حقيبتي بما لذ وطاب، وانطلق بعد ذكر دعاء السفر. كم هي جميلة جبال فلسطين، خضرة رائعة، تنحصر تدريجيًا كلما اتجهنا جنوبًا وصولًا إلى الصحراء. صحراء فلسطين أيضًا جميلة، مساحات شاسعة من الصفاء وراحة العين، سبحان من أبدع!

توقفت بنا الحافلة ...ما هذا؟  لقد وصلنا! مضت أربع ساعات ونصف ونحن في هذه الطريق، لا يهم...أخيرًا، سندخل الزيارة. سأذهب الى ذلك الشباك لأسجل اسمي وآخذ تلك البطاقة، لن تصدقوا تدافع الناس على الشباك، هذا يدل على أن الأمر ممتع جدًا في الداخل.

أنتظر أن يصل دوري، صبري ينفذ... متى؟ متى؟ إنه أنا، نعم أنا...دوري أخيرًا! جهاز تفتيش آخر، جميل جدًا حرص هذا الجندي على سلامتي، لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فتلك المرأة التي تحرص دائما على تقديم تدليك مجاني لنا، لا أدري أظنها مهرجة؛ فهي تحمل معها عصًا سوداء تضيء بالأخضر والأحمر مصدرةً أصواتًا مختلفة.

وصلت إلى قاعة الانتظار، فتسارعت دقات قلبي، فكلما فتح أحدهم ذلك الباب اعتقدت أن دوري وصل، رفعت قدماي لتختلس النظر، لكن، دون جدوى. ها قد فُتح الباب أخيرًا، تسابقنا الى الداخل، لنرى علية القوم وأشرافهم، كم اشتقنا لعيونهم، لكلماتهم، لابتساماتهم الحرة.

كم جميلة هي هذه الزيارة! حتى وإن كانت سياحتي إلى السجن، فهي أجمل الأماكن التي أحب أن أراها، حتى لا يهزمني عدوي أبدا!كلنا نعلم أن أجهزة التفتيش تلك لتثبيطنا، والمجندة التي تفتشنا ليست مهرجة، بل وربما ظننت أن من كتب هذه الكلمات شخص بسيط يريد أن يضحك على نفسه ويوهمها بجمال لم يكن يومًا حقيقة!

  | عين المحب

كيف أُسعِد نفسي في هذا الجحيم علمًا، بأن التالي قسم منفصل عن موضوع رؤية أسيري الغالي. سأشتري رواية لتكون رفيقتي، أهرب إلى أحداثها في كل مرة يطول الانتظار ويطول. عندما أصل الحافلة صباحًا، سأقصد مخبز "القاضي" لأشتري ما أشتهي من مبدأ "دلل نفسك". ثم أردد أذكار الصباح، وأطالع شروق الشمس الذي يشرق بصفاء،
 
وكأن هذا الكون لم يلوث قط، على طريق الحاجز صباحًا سأبحث عن بائع الكعك ذاك، وأشتري منه فطوري. على الجزء الآخر من الحاجز، سأشتري القهوة -أحبها سادة مع قطعة شكولاتة، 

ولكن المحب يرى بعين تختلف عن العيون كلها...فعاشق دينه ووطنه يرى مُرَّهُم حلوًا عسلًا يطيب له ويبرأ... يقال: إن للحياة منكهات تضيف لها متعةً ولذة، ومن منكهات زيارة السجون ما دونته بكل حب عن أبرز شخصيات الزيارة من أهالي الأسرى:

 | عريف الزيارة: ذلك الشخص الذي ينصب نفسه مديرًا على الأهالي، يدور بيننا يشير بإصبعه ويقول: هل الجميع سجل اسمه هنا؟ الجميع أدخل المال؟ تأكدوا ممن هم معكم، هل هم في الباص؟

 | الكبار في السن:  خفيفو الظل الذين رأوا من الدنيا الكثير، ومع ذلك يضحكون ويتبادلون هنا وهناك؛ قصصهم الطريفة التي تفرح الجميع.

 | كثيرو الكلام:  مصدر الترفيه لمن حولهم بقصصهم التي لا تنتهي، أو مصدر ازعاج للبعض، لا نعلم!

 | الفئة الاجتماعية:  تلك التي تتمثل بكبير السن ذاك الذي يتحدث مع أسيرهِ مدة قصيرة، ثم يقوم بعدها بزيارة شباكًا شباكًا للسلام على الأسرى والحديث معهم، أما بالنسبة لشبابيك المتزوجين، يكون هذا الرجل مدعاة للتوتر غالبًا!

 | فئة المحبَطين:  الذين يستغلون كل موقف ليقولوا عباراتهم المشهورة: يبدو أننا لن نزور اليوم، يبدوا أن نهارنا طويل، وهكذا...

 | فئة المستبشرون بالخير:  تسمعهم يكررون كثيرًا: " إن شاء الله، هذه آخر زيارة لنا".

 | الفئة التي فهمت الدنيا:  وآثرت دلال نفسها رغم الظروف، تراهم يحضرون الطعام أشكالًا والوانًا، فيأكلون ويضحكون ويتعازمون وكأنهم تحت شجرة وحولهم المروج الخضراء والورود، ولا أكذب عليكم في إحدى الزيارات أحضر أحدهم (أرجيلته) والتفت حوله الجموع وتحول المكان لمقهى.

 | الفئة الضائعة: أولئك الذين بعد أن يتحرك الباص يتذكرون أنهم تركوا هويتهم وتصريحهم بالسيارة التي أوصلتهم، وتبدأ الاتصالات ليعود ذلك المسكين الذي أوصلهم لينقذهم.

مع الاحترام والحب لكل الفئات؛ لأنهم يصنعون ذلك الجو الجميل، والذكرى الجميلة في كل زيارة. أما إن كنتم تسألون عني أنا، فإنني من فئة كثيري الكلام، فقد أخبروني عندما قلت يا ليتني أتيت بروايتي: "أنتِ مسلية حالك لحالك، ومسلية كل الباص معك".

 | "والله ما بكره إلا يوم الزيارة"

من أحب اللحظات على قلبي، ذلك الشيخ -إمام الزيارة- الذي يتغير كل مرة حسب زوار هذا الشهر، سأنتظره لكي يقف وسط الساحة، يضع يديه خلف أذنيه وينادي للصلاة، سأحمل سجادتي، وأركض لأصطف بجانب عجوز تقية نقية أسمع دعواتها في السجود للأسرى والمسرى،
 
عندها أسجد وأستشعر كم نحن أقوياء معًا، وحينها سأدعو بكل ما عندي من يقين ورجاء واضطرار ( يا رب آخر زيارة)! وبإذن الله، بكل يقيني وأملي أقول: غدًا تنتهي الزيارات، بل وتدمر السجون...غدًا يحرر الأسرى وتحرر الأرض...أليس الصبح بقريب!

كثيرًا ما نقوم بالالتفاف على الحزن، فنضحك عليه مع ابتسامة منتصر، كثيرًا ما نحوّل صعوبات حياتنا إلى مجموعة تفاصيل صغيرة تدخل علينا البهجة والرضا. بعد إحدى الزيارات، تأملت كل تلك التفاصيل التي أقوم بها لأغير أصعب وأطول الساعات إلى دقائق منتظرة وكتبت هذه الكلمات: "صحيح أنني أنتظر هذا اللقاء انتظارًا طويلًا، إلا أن ذلك الشقاء أو الجحيم المرافق للرحلة يكون له ثِقَلٌ مُنَغِّص، يجعل الكثير من عائلات الأسرى يقولون: "والله ما بكره إلا يوم الزيارة"، وخاصة إن كانوا ممن يزور منذ سنوات طوال.

كيف أُسعِد نفسي في هذا الجحيم علمًا، بأن التالي قسم منفصل عن موضوع رؤية أسيري الغالي. سأشتري رواية لتكون رفيقتي، أهرب إلى أحداثها في كل مرة يطول الانتظار ويطول. عندما أصل الحافلة صباحًا، سأقصد مخبز "القاضي" لأشتري ما أشتهي من مبدأ "دلل نفسك". ثم أردد أذكار الصباح، وأطالع شروق الشمس الذي يشرق بصفاء، وكأن هذا الكون لم يلوث قط، على طريق الحاجز صباحًا سأبحث عن بائع الكعك ذاك، وأشتري منه فطوري.

جرعات سعادة صغيرة رويتها لكم، لم تكن لتسعدني من قبل أو حتى أراها كشيء عظيم، ولكن اعتياد النعم أصبح من الماضي فكل تفصيل مهم، كان صغيرًا وأصبح له أهمية بعد فقد!

على الجزء الآخر من الحاجز، سأشتري القهوة -أحبها سادة مع قطعة شكولاتة، وأسرع الخطى بسعادة إلى الحافلة حيث سأفتتح الرواية وأبدأ. سأجوع حتمًا، أضع الرواية، وأبدأ بذلك الفطور، مع تأمل اختفاء آثار الجبال واللون الأخضر وأَستَقبِل الأصفر وصحراء فلسطين. إذا وصلت السجن، فإنني أقف في طوابير كثيرة، كثيرة جدًا، وأستمع إلى قصص كثيرة أيضًا، وهنا أستغل وقتي بالاستغفار، فكم تحتاجه في تلك الطوابير الكثيرة والطويلة جدًا جدًا جدًا! 

من أحب اللحظات على قلبي، ذلك الشيخ -إمام الزيارة- الذي يتغير كل مرة حسب زوار هذا الشهر، سأنتظره لكي يقف وسط الساحة، يضع يديه خلف أذنيه وينادي للصلاة، سأحمل سجادتي، وأركض لأصطف بجانب عجوز تقية نقية أسمع دعواتها في السجود للأسرى والمسرى، عندها أسجد وأستشعر كم نحن أقوياء معًا، وحينها سأدعو بكل ما عندي من يقين ورجاء واضطرار ( يا رب آخر زيارة)!

قد أقوم من مكاني أُجلس عجوزًا بكل حنو وعطف، أو أمازح طفلةً وأضحكها، قد أُصَبِّرُ من زاره الشك، ثم والأهم من ذلك كله ستلتقي عيناي زوجي الغالي. جرعات سعادة صغيرة رويتها لكم، لم تكن لتسعدني من قبل أو حتى أراها كشيء عظيم، ولكن اعتياد النعم أصبح من الماضي فكل تفصيل مهم، كان صغيرًا وأصبح له أهمية بعد فقد! وبإذن الله، بكل يقيني وأملي أقول: غدًا تنتهي الزيارات، بل وتدمر السجون...غدًا يحرر الأسرى وتحرر الأرض...أليس الصبح بقريب!