بنفسج

الطريق إلى ريمون: صحراء تفتك بالأفئدة

الخميس 11 يونيو

أتقلب في فراشي محاولة إقناع نفسي أنني بحاجة أن أنام لأكون قوية كفاية في الرحلة التي سأخوضها غدًا، أحضّر كلماتي وأحاول تقديرها لتتسق مع خمس وأربعين دقيقة من الزمن. أجمع في مخيلتي أهم الأحداث التي حصلت خلال الشهور الماضية والتي تستحق أن تعطى درجة الأولوية في الكلام!

فالذي اعتدتُ أن أحادثه أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، وسبع أيام في الأسبوع واختم يومي معه بنشرة تفصيلية قد توازي ثلاثون ألف كلمة أو يزيد، كيف لي أن أكون مُجملةً في حديثي معه؟

أصعد حافلة الصليب الأحمر برأس مثقل، فأنا لست كائنًا صباحيًا على الإطلاق؛ فالمرأة التي اعتادت أن تبدأ نهارها ظهرًا تستيقظ قبل الفجر الآن، تتزود بالكثير من طعام والشراب والصبر فالدرب طويل، طويل جدًا.

ولكن، كيف عرفتُ أن المسألة مزاجية؟ طبعًا لأن نفس هذه القطع تدخل في المرة القادمة دون أي مشاكل! نُفَتش مرة أخرى، ومرة بعدها، فلا نصل إلى مكان الانتظار الأخير إلا وقد جردنا من كل شيء حتى من منديل ورقي صغير.

إلى الصحراء إذا، تحديدًا إلى ريمون، على الحاجز الذي يفصل فلسطين عن فلسطين، تجد العمال فوق بعضهم البعض يمشون سراعًا، يخلعون أحزمتهم وساعاتهم متجهزين للتفتيش المذل، وكذلك نفعل، فأبسط الأزرار والاكسسوارات الزائدة، تجعلك تأخر طابورًا طويلًا روحه في أنفه.

باص جديد سيقلنا إلى السجن، حيث تتحول خضرة وسط فلسطين إلى الأصفر المقفر الصحراوي باتجاهنا جنوبًا، نصل السجن لنقف صفوفًا تحت أشعة الشمس الحارقة في مكان مخصص لأن تكون غير مرتاحٍ البتة، صف للتسجيل وآخر لإدخال المال أو فتات المال إن صح التعبير، وآخر للملابس التي تعود معنا في معظم الوقت لأن مزاج الجندي في ذلك اليوم قرر أن هذه القطع والألوان ممنوعة.

ولكن، كيف عرفتُ أن المسألة مزاجية؟ طبعًا لأن نفس هذه القطع تدخل في المرة القادمة دون أي مشاكل! نُفَتش مرة أخرى، ومرة بعدها، فلا نصل إلى مكان الانتظار الأخير إلا وقد جردنا من كل شيء حتى من منديل ورقي صغير.

وقد يمنع الأبناء -الذي كانوا كفرخ العصفور المنهك طوال الطريق- من الدخول إلى والدهم لأن سياسة ما تغيرت تمنعهم من ضم حبيبهم كل شهر.

إذلال متعمد وقهر مستبِد، تجدنا جميعًا نتمنى أن ينتهي هذا الحال، ودعوات أشبه بآهات متعبة ترتجي فرجًا، قد يعيد الاحتلال أحدهم على الحاجز مع أنه هو الذي أعطاه تصريح الزيارة في الأصل، يشقه أمامه لتبدأ رحلة المعاناة مع المحاكم ليفهم فقط ما الجرم الذي صنعه ليُعاقب! وقد تكون هذه سياسة عقاب للأسير نفسه أكثر من زائره، وربما يكون الجواب بعد محاكم طويلة أن المنع كان بالخطأ، والأصعب أن تمنع بعد أن تصل السجن ولا يكون بينكم إلا باب فقط!

وقد يمنع الأبناء -الذي كانوا كفرخ العصفور المنهك طوال الطريق- من الدخول إلى والدهم لأن سياسة ما تغيرت تمنعهم من ضم حبيبهم كل شهر، هي في النهاية قوانين بالية لا توضع إلا لزيادة مرارة السجن.

رغم هذه الظروف، ورغم أنك تشعر أنك إذا رأيت أسيرك، ستبكي دمًا يلخص دموية الطريق الذي مررت به حتى وصلته، تجدنا ما إن تبدأ تلك الساعة اللعينة بالعد حتى ننسى أنهم حولنا، وننسى ما كنا به، فتعلو ابتسامة الشوق وجوهنا وتغرد كلمات اليقين بالفرج في الأجواء، ونحاول في معظم الأحوال تصيير الوضع إلى مزحة، فلا نجد أمامنا أفضل من الجنود لتنفيذ هذه المهمة التي تستهوينا جميعًا.

مستعد أن أتحمل البوسطة كل أسبوع إن كنت سأرى العالم من بين هذه الثقوب التي لا تسمح لي إلا برؤيا مشوشة، ولكنها طبعًا أفضل من لا شيء.

البوسطة من جانب آخر سيارة الموت التي يركبها الأسرى هي زنازين مصغرة داخل حافلة بتكيف باردٍ شتاءً ودون تكيف صيفًا، ولك أن تتخيل مقعدًا حديديًا في حر صيف ما يصنع بك!

لا تتوقف الحافلة خلال الطريق مهما كان بك من حاجة أو حاجات مختلفة، سواء كنت مريضًا تنقل من المشفى للعيادة أو المحكمة، أو من سجن لسجن آخر، أو إلى العيادات خارجية، وربما سلكوا بك طريقًا بعيدًا رغم وجود طريق قريب جدًا، وإن وصلتْ تلك الحافلة أمام المحكمة لا ينزل الأسرى منها لقاعة انتظار أو ما شابه، ربما فكر أحدهم بالصراخ المتواصل على الجنود أو طرق جدران البوسطة، وهنا، سيكون مصيره الضرب أو الكلام البذيء والسباب السمّاوي القاتل، وسيكون جيدًا إذا لم يعزل عند عودته في سجن انفرادي أسودٍ عفن.

ولكن، ستجد أن الجانب المضيء الذي يحب أن يحدثك عنه كل أسير هو تلك الثقوب التي تكون على الزجاج المصفح للبوسطة، حيث تسمح له برؤية العالم والطرق التي لا يراها في سجنه، ستعجب من الأمور التي فرح الأسير لرؤيتها كالشمس أو الخيول أو الجمال إن صادفها، السماء والقليل من النباتات على جانب الطريق، رمال الصحراء أو بعض بيوت البدو في صحراء فلسطين، ستجده يصفها بسعادة لا يمكن لك أن تتخيلها أبدًا حتى أنه قد يقول: " مستعد أن أتحمل البوسطة كل أسبوع إن كنت سأرى العالم من بين هذه الثقوب التي لا تسمح لي إلا برؤيا مشوشة، ولكنها طبعًا أفضل من لا شيء".

لا يهم ذلك كله، فإن عائلات الأسرى في الزيارة والأسرى في البوسطة لا يرون العالم كما يراه الناس، فهم يعلمون أن كل هذا الألم يقربهم من الحرية كل يوم ويحسب لهم عند الله لا يضيع. يعلمون ببصيرة الموقن بنصر الله أن هذه المرحلة ستمضي وتستبدل ليكون مكانها فرج قريب!