بنفسج

نسيان عابر: طفلة ترقب الزمن وصورتها الثالثة

الخميس 11 يونيو

في جلسة مسائية مع والدتها في سريرها الوردي، وصور والدها المعتقل في السجون الإسرائيلية تتناثر حولها، تقول "ماما متى اتصورنا هاي، وشو بابا كان يحكيلي بالصورة، وليش كنت اضحك"، لا تتوقف عن إثارة الأسئلة وتخيل الأحداث حين يخرج والدها من المعتقل، وإذ بصورة لوالدها التقطت في مطعم ما وهو يطعمها بيديه، فتخبر والدتها" لما يطلع بابا بدنا نروح ع المطعم ويأكلني هيك، ونروح على الملاهي ويوصلني المدرسة، بكون صرت بصف أول"، لم تتوقف عن سرد أحلامها طوال مشاهدة ذكرياتها، متخيلة وضعيات صورها الجديدة مع حبيبها الأول.

 تحلم بأن تعيد كل ذكرى من جديد، وأن يروى لها الحكايات وقصصهم التي تبدأ بـ " كان يا مكان، في أب اسمه أسيد وبنت اسمها فطوم"، في فراشها الدافئ. وأن يأخذها بسيارته للتجول في الطرقات والضحك معه لحد السماء، وأن يلتقطها بين يديه ويقذفها في الهواء وهي واثقة كل الثقة بأنها ستعلو في أحضانه.

حب واعتقال

مقصص.jpg
أسيد أبو خضير برفقة ابنته فاطمة قبل اعتقاله

الأب يظل أبًا لطفلته حتى وإن نُفي إلى قاع الأرض. يظلّ أبًا وإن لم يعد يوصلها كأقرانها إلى مدرستها، وإن لم تتقفز عليه في صباحات أعياد الله طالبة عيدية. ويبقى حبيب طفلته الأول وضلعها الثابت وسندها الأبدي. صاحبة الأعوام الخمسة فاطمة أبو خضير، لم تشاكس والدها ككل أطفال العالم، ولم توقظه من نومة هانئة في منتصف الليل.

في صباح الثاني من رمضان، عام 2015 داهمت منزله قوة "إسرائيلية"، واعتقلت أسيد أبو خضير تاركةً خلفه الرضيعة فاطمة وأمّها. وبعد الحكم عليه بالسجن لمدة 6 سنوات، أصبح الأب وابنته يلتقيان بموعد سنوي تحدده إدارة السجون الإسرائيلية.

أما زوجته ضحى الهور، فقد ارتبطت به قبل اعتقاله بعامين، تروي لـ "بنفسج" عن رفيق دربها وعن طفلتها التي لا تعرف والدها، فتقول: "الحمد لله الذي جمعني بمحض الصدفة بأسيد، الزوج المثالي الذي لم أكن أؤمن بوجود رجال مثله في عالمنا".

على الرغم من أن الناس يقررون الزواج طالبين الاستقرار، إلا أنّ أسيد آثر تحقيق هدف زوجته وكان سندها الداعم. كانت ضحى ابنة الخليل، طالبة في جامعة أبو ديس، تدرس الصيدلة. تقدّم أسيد لخطبتها وتمّ زواجهما. واصلت ضحى مسيرتها التعليمية بعد الزواج، وكانت مضطرة للعيش في سكن الطالبات في تلك الفترة. وقد وضّحت هذه الفترة بجلاء مدى التفهّم الذي أبداه أسيد في قبول ذلك الحال؛ حتى تحقق هدفها في إتمام متطلبات تخرجها من الجامعة.

وبعد عام من زواجهما، أنهت ضحى دراستها الجامعية، وأنجبت فاطمة؛ طفلة والدها المدللة، التي رأى فيها جمال الكون كله، وكأن الحياة أعطته كل النعيم على هيئة طفلة. ولكن الفلسطيني الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال ويرى معاناة شعبه اليومية، لا يمكنه الانسلاخ عن مقاومة الاحتلال لحين دحضه وإنهاء عبوديته.

| نسيانٌ عابر

فااطمة.jpg
فطوم تحمل صورة والدها

حين اعتقلته قوات الاحتلال لم يكن قد تعرض لاعتقال مسبقًا، الأمر الذي قلب حياتهما رأسًا على عقب، من حياة هانئة، إلى حياة تضطر فيها ضحى إلى أن تلعب دور الأم والأب لطفلتها فاطمة 27. محكمة عسكرية مؤجلة كانت تحضرها ضحى مؤازرة لأسيد، مؤكدة أنها على عهد البقاء بجانبه مهما كلّفها الأمر من تعب وقلب وروح ومعاناة، إلى أن حُكم عليه بتهمة مقاومة الاحتلال. حينها أدت ضحى لأسيدها تحية الشرفاء العظام، وأدى لها ذات التحية حُبًا وشوقًا.

في قانون الدنيا، يمكن أن يتجاوز الكبار آلامهم ويمرون فوقها وجراحهم تنزف طوال الوقت بصمت، ولكن في عالم الأطفال، تكون الجراح غير قابلة للترجمة أو التمثل. فقد وضع الاحتلال ضحى زوجة الأسير في قائمة المنع الأمني؛ فهي ممنوعة من زيارته سوى مرتين في كل عام؛ مما تسبّب في نسيان فاطمة الطفلة ملامح والدها، فلم تعد قادرة على الجلوس في حضنه الحاني خلال الزيارة؛ لأن ملامحه غابت عنها أشهرًا طويلة، فأصابت سهام الحزن والحسرة قلب الوالد المحب.

ضحى التي لا تعرف الاستسلام، بعثرها حزن أسيد على طفلته التي تكبر بعيدة عنه، ولا تقبل احتضانه في الزيارات القليلة التي تراه فيها؛ فقررت ترسيخ وجود أسيد في قلب فاطمة بكل الطرق، حيث كثّفت من عرض صورهما عندما كانت رضيعة يطعمها، ويداعبها، ويلاعبها. تقول ضحى: " كنت ألتقط صورًا كثيرة لأسيد وفاطمة في طفولتها المبكرة، هذا ما ساعدني على أن أقنع فاطمة بأن والدها يحبها كثيرًا، ويحب أن تحتضنه كما كان يحتضنها سابقًا".

| حضن وشكوي

ومرة تلو أخرى، بدأت فاطمة تتقبل وجود والدها الغائب؛ أضحت تُحدّث صوره، تحتضنها، وتهذي إليها بشوقهاوفي مرة تلت، سمح لها الاحتلال بالزيارة، أقبلت فاطمة الصغيرة على حبيبها واحتضنته بشدة، بدا صوت قلب أسيد مسموعًا؛ فابنته التي لم تكن تتقبله أبدًا، راسية بين يديه بملء رغبتها. احتضنها برفق، وكأنه يحتضن الحياة ويعانق الحرية. تقول ضحى: "كان أمر إقناع فاطمة بأن والدها يحبها، مهمة شاقة استمرت عامين، ثم أصبحت الصغيرة إن رفضت لها طلبًا تشكوني لوالدها".

"ماما عاقبتني ومنعتني أروح على بيت خالو يا بابا"، هكذا قالت له في إحدى الزيارات شاكية والدتها، فضحكت ضحى وتدخل أسيد بين الأم والابنة كطرف وسيط لرفع العقاب عن الصغيرة.

فطوم كما يحب أن يناديها والدها، أمام أسيد تتغير شخصيتها تمامًا حتى أن والدتها تندهش من هدوئها التام، تقول ضحى: " فطوم طفلة مشاكسة جدًا ولكن أثناء زيارة والدها تصبح بمنتهى الرقة والهدوء والطاعة".

في العشر دقائق التي تكون فيها فاطمة بين يدي حبيبها تركض إليه وتطلب منه أن يطيرها لأعلى كما كان يفعل في طفولتها تمامًا التي شاهدتها عبر الصور فقط، "بابا شيلني وارفعني فوق فوق"، فيستجيب الأب وتبدأ لعبة القذف في الهواء بخفة. تحب الصغيرة أن يروي لها والدها الحكايات ولا تكف في كل زيارة عن قول "بابا احكيلي قصة"، فيبدأ بالحديث عن عائلته ومواقفه قبل الاعتقال، والابنة المطيعة تجلس في صمت تستمع لكل حرف لتحفظ صوته عن ظهر قلب في قلبها.

فطوم كما يحب أن يناديها والدها، أمام أسيد تتغير شخصيتها تمامًا حتى أن والدتها تندهش من هدوئها التام، تقول ضحى: " فطوم طفلة مشاكسة جدًا ولكن أثناء زيارة والدها تصبح بمنتهى الرقة والهدوء والطاعة".

 طوال العام الذي قضاه أسيد مع ابنته قبل اعتقاله لم يكن يتركها أبدًا خلال فترة وجوده بالمنزل تظل بين أحضانه لا يسمح لها بالبكاء، وحين تريد النوم يأخذها لسيارته ويقود مرة للأمام ومرة للخلف حتى تنام حبيبته الصغيرة.

| أمل طفلة بصورة

ص12.png
فطوم وتدرج حياتها ما بين صورة برفقة والدها وصورة وهي تحمل صورته وما زالت تحلم بالتقاط صورة التحرر

كل حديث الطفلة فاطمة عن والدها لا تترك جملة بدون أن تكملها بـ "بابا"، وحين تلتقي بعائلة والدها في الأردن تحدثهم عن كل لقاء لها بأسيد، متعلقة بأعمامها بالرغم من الحدود التي تفصلهم. تذهب لزيارتهم في عمان مرتين بالعام، ولا تنفك عن راوية الأحداث لهم عن خططها المستقبلية مع أسيد وعن ماهية الصورة القادمة.

ضحى تروي لنا عن أول مرة شاهدت الطفلة والدها وهو مكبل اليدين كانت صغيرة جدًا لا تتذكر الموقف، ولكن الأم والأب يتذكران جيدًا، تقول: "أسيد كان ملقى على الأرض مقيدًا، وإذ بفاطمة تركض لترتمي بين يديه كالعادة، ولكن أسيد لم يستطع احتضانها وحين حاول منعه جنود الاحتلال أخذت فاطمة بعيدًا عنه حتى لا يزداد بكاءها".

العزاء الوحيد لضحى وصغيرتها أن عامين ونصف تفصلانهما عن لمّ الشمل من جديد والتقاط صور بوضيعات مختلفة تارة، وهو يحكي لها قصة ما قبل النوم في سريرها، وتارة وهي تقفز في مدينة الألعاب، والعديد من الأمنيات والصور الجديدة المحفوظة في عقل الطفلة فاطمة.

يقولون البعيد عن العين، بعيد عن القلب أيضًا ولكن في حالة الطفلة فاطمة قريب جدًا، قريب منها في كل موقف وقصة لا تتوقف عن قول بابا طوال اليوم، وكأن الذي يفصله عنها خطوة، ولكن أسيد ينصت لها بقلبه جيدًا حتى وإن كان بينهم جدران وجنود وحواجز.

الأمل والصبر سلاح قلب الطفلة الرقيقة التي تبكي حين ترى زميلاتها في الروضة يحتضن آباءَهُن عند الذهاب والإياب، أما هي، فلا تستطيع احتضانه إلا داخل أسوار السجون الإسرائيلية، ولكن العزاء الوحيد لضحى وصغيرتها أن عامين ونصف تفصلانهما عن لمّ الشمل من جديد والتقاط صور بوضيعات مختلفة تارة، وهو يحكي لها قصة ما قبل النوم في سريرها، وتارة وهي تقفز في مدينة الألعاب، والعديد من الأمنيات والصور الجديدة المحفوظة في عقل الطفلة فاطمة.