بنفسج

أبناء الأسرى: ما بين الانكسار والأمل

الأحد 19 يونيو

متناقضات الكون توقفنا وتصدمنا أحيانًا، فنشعر بالعجز إزاء تصرفاتنا ومشاعرنا تجاه ما يحصل، ولكن من يمتلك المرونة يعيش المتناقضات، فيفهمها ويربط بينها، فيحصل على نتيجة جميلة تسمى النضج، والتي تقودنا كي نعيش مرحلة ملكية في الحياة تسمى السكينة! فهل استكانت قلوبكم، كما استكانت قلوبنا؟ ذهبت مريم لتزور والدها في السجن مع جديّها، كان عمرها ست سنوات، فمنعها الاحتلال من الدخول. خافت وبكت ولم تدر من سيعيدها إلى حضني، فطفلة مثلها لا تأمن الغرباء، بين لحظة تلقي الخبر وتأكده، كررت كثيرًا على الله وألححت: مريم، لا يا رب، مريم طفلة لن يحتمل قلبها، ولن يحتمل والدها حزنه عليها، ولكن قضاء الله نفذ.

لا أنكر أنني في ذلك الوقت لم أستطع تحليل الحكمة من حرقة القلب هذه، ألا يكفينا بلاءً أن زوجي حُكم بمئتي عام، وهُدم بيتنا، وقُلبت حياتنا رأس على عقب، كنت أظن أننا وصلنا القاع من البلاء، فلا قاع بعده، ولكنني فوجئت بأودية وكهوف في كل مرة تسحبنا إلى العمق أكثر، فلم يكتف الاحتلال بمنعها ذلك اليوم، بل منعها وأخوها من الزيارة لمدة عام ونصف العام. وقَّفتُ عقلي عن التفكير تلك الفترة؛ فلا أجوبة تساعدني على النهوض، ولا منطق يساعدني على الربط بين هذه الأحداث. إلى أن تمعنت في قصة سيدنا ابراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام؛ فرأيت اليقين الذي تعاملا به مع قضاء الله والعوض الذي حصّلاه بعد التسليم، جاءت الأجوبة على رأسي تباعًا، فغيرت نظرتي للكون.

اليوم بت أكثر هدوءًا تجاه تقلبات الدنيا ومتناقضاتها، فها أنا بالأمس أشتري لمريم أجمل الثياب لتزور والدها، تذهب فرحة متشوقه للقائه، ولكنها تعود باكية من رحلة زيارة السجن التي كانت عقباتها فوق طاقة احتمال طفلة عمرها ١٢ سنة، فقد نسيت عمتها ورقة الوكالة التي كان عليها أخذها مسبقًا، فجلست في ساحة السجن ساعات تحاول إقناع الجنود أن تدخل.

أحيانًا ليرى الله تمام عبوديتنا، يختبرنا بما لا حكمة ظاهرة فيه، يختبرنا من دون أن نفهم لم يحصل معنا كل هذا؟ فلو أطْلَعَنا الله على حكمته فرضينا، ما كان هذا من الرضا، وقت ذاك أخذت عهدًا على نفسي ألا أتساءل كثيرًا، وأن أعيش بمعطيات الله لي، وبها أكتفي، وبعد تسليمي المطلق هذا سأرى حكمته سبحانه، وحتى لو لم أرها، فالمؤكد أنه كل الخير.

اليوم بت أكثر هدوءًا تجاه تقلبات الدنيا ومتناقضاتها، فها أنا بالأمس أشتري لمريم أجمل الثياب لتزور والدها، تذهب فرحة متشوقه للقائه، ولكنها تعود باكية من رحلة زيارة السجن التي كانت عقباتها فوق طاقة احتمال طفلة عمرها ١٢ سنة، فقد نسيت عمتها ورقة الوكالة التي كان عليها أخذها مسبقًا، فجلست في ساحة السجن ساعات تحاول إقناع الجنود أن تدخل، كانت عمتها ستزور وحدها وتبقى مريم بالساحة، بينها وبين والدها تفتيش وجنود وزجاج عازل وورقة، تخيلوا...نعم ورقة! قطعت كل تلك المسافة ولكنها لن تراه، ستعود لي مكسورة الخاطر، ولكنها وكما علّمتها أن نعيش التناقضات بين الانكسار والأمل، هاتفتني بصوت مرتجف ضائع، فكلمتها بكل قوة كما عودتها.

قلت بحدة: كلّموا الصليب الأحمر بسرعة، وأجبروهم أن يرسلوا وكالة، ولا تدع عمتك تدخل وحدها مهما حصل، تغير صوتها وعاد الأمل، وفعلًا رغم أنها بكت بكاءً عميقًا عند عودتها إلا أنها حافظت على الأمل حتى آخر لحظة في الزيارة، وتحملت سباب وشتم وغضب مسؤولة السجن، تحملت أن تبقى لآخر فوج عقابًا على نسيان الورقة، تحملت السفر من الخامسة فجرًا حتى السابعة مساءً، بكت في البيت ولكنها تمسكت بالأمل بعد انكسار، وزارت والدها، توقفت عن البكاء عندما سألتها: المهم كيف كان والدك بالزيارة؟ ابتسمت. وقالت: بجنن... قلت: هذا المهم...

المهم ما حصل داخل الزيارة، اشطبي من ذاكرتك ما قبلها وما بعدها -حيث كانت طريق رجوعها للبيت مؤلمة أيضًا- واذهبي للمطبخ، فقد أعددت لك (كاساديّا) تعدت مرحلة اللذاذة وبوظة صنعتها بنفسي، وصلي المغرب حتى نُحضر البوشار ونشاهد مسلسنا معًا، مسحت دموعها وابتسمت. ألم أخبركم أننا بتنا نتقن فن المتناقضات جدًا، وأصبحنا أكثر هدوءًا تجاه تقلبات الحياة!

اليوم ظهرت شهادات أبنائي في المدرسة معدل مريم ٩٤، وعبادة ٩١.٤. ولكن الفرحة منقوصة، لأن والدهم تعرض للقمع والتنكيل في سجنه، فقد اقتحمت الوحدات السجن صباحًا بحثًا عن هواتف مهربة، وهذا يعني أنها ستضع بيدهم الكلبشات وتفلت عليهم كلابها المسعورة، وسيتعرض للضرب كل من نطق، سيدمرون القسم، الطعام والمؤونة ستختلط ببعضها، والصور والذكريات والكتابات ستتناثر، والملابس الغالية والأحذية والساعات ستسرق.

عرفنا أننا لن نتمكن من التواصل معه ليشاركنا الفرحة مجددًا، وقلقنا على حاله وصحته النفسية والجسدية، فها نحن مجددًا بين الانكسار والأمل، ولكننا لم نسمح إلا للأمل بأن يستقر في قلوبنا ففي كل خير. فرحنا ولم ننهزم، عشنا الفرح، ورمينا بالانكسار بعيدًا، لم نضع اليد على الخد نندب حظنا، ونحلل ونتساءل، لم هذا ولم ذاك؟ بل بتنا ننتظر تواصله معنا لنكمل الفرحة ونبشره بالعلامات التي تعتبر بالنسبة له أهم وأكبر فرحة.


اقرأ أيضًا: ماهر وبهية: مؤبدان وحب واحد


في الأعياد لا تستهين باللحظات التي تأتي بعد صلاة العيد، فزوجي ماهر يقبع وحيدًا في زنزانته ونحن هنا!! لا يمكننا أن ننكر أن عيدنا ناقص كله، مجددًا نعيش التناقضات نفرح ونعيش الأمل أم ننكسر، أشياء مختلطة، أقصد متناقضات مختلطة!! ولكننا نعيشها معًا بنضج وتسليم وسكينة فنفرح وهو معنا يفرح لفرحنا، يسمع أخبار عيدنا وما خططنا له من خروجات، ويربت على كتفنا من بعيد، ويقترح علينا سبل أخرى للسعادة كعوض منه لغيابه القسري عنا!

هكذا ندمج بين المتناقضين، نجمع بين الشتيتين، حتى يأذن الله لنا بجمع شتاتنا، وترتيب أوراقنا المتناقضة هذه، فهل فهمتم الحكمة من هذه التناقضات التي تمر بأيامكم كما فهمتها أنا؟ إن كانت إجابتكم كما أتوقع بالإيجاب، فإليكم هذه الزيادة التي حصلت عليها بعد تجربة وخبرة، ما كانت عودة مريم من زيارة والدها حزينة عندما كانت في السادسة، ولا عندما كانت في الثانية عشر إلا ليصنعها الله على عينه ويربيها كما يريد، فكلما مررت على آية: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}.

بكيت ورأيت حكمة الله في الاصطفاء والارتقاء وحمدت الله أن صنع مريم ابنتي على عينه، فهي اليوم ذات حكمة وهدوء، ووعي وتقوى، يشهد لها بها الجميع، وما كانت لتكون بهذه القوة والتقوى لولا تجاربها التي فاقت سنها منذ الصغر، وتعاملنا جميعًا مع هذه التجارب بتسليم ورضا كسيدنا إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، والأنبياء والسابقين بالإيمان والصبر والعمل، ولا أنسى كلمة عبادة لي عندما قال: بتعرفي يما إني مرات كتير بحمد ربنا إنه أبوي بالسجن، لأنه هاد الحكي خلاني أكون قد حالي مش مدلع، مش تافه، اليوم لما بشوف اللي قدي مدلعين بعرف كرم ربنا علي والله! قد أنطق الله أولادي بالحكمة، وزادهم نضجًا ووعيًا وسكينة، وهكذا فككنا لغز المتناقضات، وعرفنا أنها في ظاهرها التناقض، وفي داخلها كل الترابط من حيث العِبَر.