بنفسج

كيف تغيرنا القراءة؟

السبت 06 مايو

إن كنتِ من معشرِ القرّاء فمقالي موجَه إليك،  كثيرًا ما نقول _نحن القرّاء_ بأن القراءة أنقذت حياتنا، فنهتمّ بدعوة معارفنا إليها، ومن هنا سأنطلق إلى أول أسئلتي: هل القراءة للجميع فعلًا؟ تختلف الآراء، فهل القراءة هواية أم ضرورة؟ هل ميل الإنسان للقراءة أو عدم ميله يُؤخذ بعين الاعتبار أم أنه يجب أن يقرأ سواء رغب أم لم يرغب؟ هل القراءة إجبارية؟

هل القراءة هواية أم ضرورة؟

 

صحيح أن القراءة ليست رفاهية أو متعة، لكنّ ما علينا معرفته أن المتلقّين للمعلومات يختلفون في مقدراتهم، وبعضهم لا يفلحون في تلقّي الثقافة عبر القراءة، وربما لا يحتاجون لهذا النوع من التلقّي، لستُ أدعو لعدم القراءة ولكنني كنت _سابقًا_ متعصبة للقرّاء، ونافرة ممن لا يقرؤون، ثم لانت نظرتي وفهمت أن القراءة بوصفها ممارسةً مستمرةً ودائمة هي هواية فعلًا وليست ضرورة أو إجبارية، فكان لا بد أن أتخلى عن التصور القائل بأن القارئ وحده هو المثقف.

هناك حَدّ أدنى من القراءة يُفضَل أن يُحرِزه الجميع، وأعني بالحدّ الأدنى أن يحقّق كل فرد قدرًا معقولًا من القراءة في مجاله على الأقل، وكذلك في المجالات العامة حتى إن لم يملك النية للاستمرار في القراءة دائمًا. مقدرة الإنسان على التعامل مع النص المكتوب وتحليله والبحث عن المصادر والمعلومة المقروءة، يُحدِث فارقًا يختلف عن أي فارقٍ آخر تُحدِثه الهوايات، أو مصادر المعلومات المختلفة عن القراءة.

القادر على القراءة سيستطيع أن يكتب ويعبّر بالحدّ الأدنى عن أفكاره ومشاعره ونفسه (شخصيته)، وهذا التعبير مهم وضروري للجميع حتى ما لم يكونوا كتّابًا. لكن، هل الجميع مجبورون على حب القراءة حبًا حقيقيًا؟

صحيح أن القراءة ليست رفاهية أو متعة، لكنّ ما علينا معرفته أن المتلقّين للمعلومات يختلفون في مقدراتهم، وبعضهم لا يفلحون في تلقّي الثقافة عبر القراءة، وربما لا يحتاجون لهذا النوع من التلقّي، لستُ أدعو لعدم القراءة ولكنني كنت _سابقًا_ متعصبة للقرّاء، ونافرة ممن لا يقرؤون، ثم لانت نظرتي وفهمت أن القراءة بوصفها ممارسةً مستمرةً ودائمة هي هواية فعلًا وليست ضرورة أو إجبارية، فكان لا بد أن أتخلى عن التصور القائل بأن القارئ وحده هو المثقف.


اقرأ أيضًا: القراءة كعادة يومية...خطوات عملية


 لكل إنسان طريقته في تحصيل ثقافته، وقد كثرت أساليب التحصيل، فمن الخطأ أن نَحجُر على الناس ونجبرهم على القراءة فحسب كوسيلة للتثقف والارتقاء بالذهن، والكتب الصوتية والمحاضرات الصوتية والبودكاست الذي يبحث قضايا مجتمعية وثقافية، خيرُ دليل على أنه قد كانت هناك حاجة لهذا النوع من إيصال الأفكار، فربما كنا نفقد شريحة واسعة ممن يودون الارتقاء بعقولهم عندما نصر على أن مثل هذه الوظائف المعرفية والعقلية العليا لا تُؤتى إلا بالقراءة، وذاك حسب رأيي الحالي غير صحيح، بل ومجحف في حق من لا يتناغم مع القراءة.

ما هو تأثير القراءة؟

القراءة2.jpg
إن القراءة لها تأثير عظيم على رقي الإنسان وفكره وعمقه

وأعود للتأكيد أنه لا بد من تحقيق حد أدنى من الانسجام مع الكتاب قدر المستطاع لأنني لا أنكر فائدته. لماذا يُعد الحدّ الأدنى من القراءة ضروريًا لكل فرد؟ وكيف نحدّد هذا الحدّ ونقيسه؟ من الملحوظ في ختام كل سنة أن القرّاء يعتبرون حصيلة قراءتهم جزءًا من إنجازاتهم، ولعل القارئ المشغول بظروف الحياة يُصاب بالإحباط حين يقارن قراءاته بقراءات غيره، فما هو المقياس الصحيح؟

الحدّ الأدنى من القراءة نسبي، تابعٌ لحاجة كل شخص للمعلومات المقروءة، كما أنه قد لا يكون سنويًا أصلًا، وما لم يكن القارئ متفرغًا أو عاملًا في مجالات القراءة نفسِها، فقد يصعب عليه الإتيان بكمية القراءة التي يأتيها سواه.

القراءة وتماسّ الإنسان مع لغته أولًا، ثم مع لغات أخرى تُعتبَر مهارة من المهارات الإنسانية التي لا يشاركنا فيها مخلوق آخر، وكشأن جميع المهارات، فإنها تخفَت وتضمر ما لم نستخدمها، ومن لم يجرب _أيّ مهارات من مهاراته_ لمرة واحدة على الأقل، سيبقى ناقصًا في جانبٍ منه وغيرَ مكتملِ الاطلاعِ والتجريب لمهارات وجوانب الحياة.

وهنا نعود للنصيحة التقليدية حول خطأ المقارنة، رغم أن المقارنة الواعية لها فوائد تحفيزية أحيانًا، لكنني لا أميل إليها في تحديد حصيلة القراءات السنوية أو الشهرية، ذلك أن القراءة _على أهميتها_ تُعتبَر ضمن الحاجات العليا، وهي حاجات قلّما يلحق الإنسان العربي _بالذات_ الوفاءَ بها لأسباب كثيرة، وكي لا يقعَ في فخ الإعراض عن القراءة، فمن الحكمة أن يقرأ كما وعندما يشاء، بدلًا من أن يتهم نفسه بالتقصير فيقلع عن القراءة.

ما السر وراء تشجيعنا على تحقيق نسبة مقبولة من القراءات على مدى عمر الفرد وحسب حاجته؟ القراءة وتماسّ الإنسان مع لغته أولًا، ثم مع لغات أخرى تُعتبَر مهارة من المهارات الإنسانية التي لا يشاركنا فيها مخلوق آخر، وكشأن جميع المهارات، فإنها تخفَت وتضمر ما لم نستخدمها، ومن لم يجرب _أيّ مهارات من مهاراته_ لمرة واحدة على الأقل، سيبقى ناقصًا في جانبٍ منه وغيرَ مكتملِ الاطلاعِ والتجريب لمهارات وجوانب الحياة.


اقرأ أيضًا: لنا جميعا : لهذه الأسباب علينا أن ندّون خبراتنا وتجاربنا


وكذلك فإنّ: القراءة لها تأثير عظيم على رقي الإنسان وفكره وعمقه، هو ليس تأثيرًا سحريًا، ولا يُرى بالعين المجردة، تأثيرها تراكمي، يضيف لمساته إلى الشخصية لمسةً لمسة وعلى مدار الوقت، وربما لذلك ينصح البعض بأن تكون القراءة دائمةً لا مجرد هواية، لأن تأثيرها الحقيقي لا ينتج عن كتاب واحد، ولا صحة لوجود الكتاب الذي يغير حياة قارئه، فالقراءة لا تحدث صواعق عاجلة، بل شرارات متلاحقة تؤدي في نهايتها وبعد تضافرها وتكاملها إلى ضوء فعليّ. بناء على النقطتين السابقتين حول تحقيق حد أدنى من القراءة دون المقارنة مع أحد وحول تأثير القراءة العميق:

هل أشجع فكرة القراءة السريعة؟

 
لا بد أن نحقق حدًا معقولًا من القراءة، وفي ذات الوقت أن نحقق تنوعًا معقولًا بين أنواع القراءات، ثم إن رغب أحدٌ في أن يستمر بقراءة الروايات وحدها، فتلك رغبته التي لا يصح أن يُجادَل عليها. إن تدني مستوى بعض الروايات لا يعني أن قراءة الروايات خطأ.
 
 البعض لا تصلهم العبرة إلا إن قُدمت ضمن قصة، ولنا في القرآن الكريم مثال، فكثير من العظات وصلتنا عبر قصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأقوام السابقة.

ما دمنا لسنا في سباق، وليس علينا المقارنة مع غيرنا، فمِن الطبيعي أننا لسنا مجبرين على الإسراع في القراءة، سرعة القراءة مهارة أيضًا، إلا أن اكتسابها مِن كثرة القراءات، وتوقّد الذهن، واعتياد العين على فهم ما يمر بين السطور شيء، والسعي لاكتسابها قبل بناء صلة متناغمة مع القراءة شيء آخر، ربما تكون السرعة ضرورية ومفيدة لكنّ من يكتسبونها على مدار وقت طويل وصبر ربما يحظون بالفائدة الأكبر، لأن ذلك سيعني أنهم كانوا على تماسٍ أطول وأعمق مع الكتب.

والحقيقة أن سرعة القراءة ليست المشكلة، بل تبرز المشكلة إن كانت النية هي دخول السباق الذي نفينا أهميته، والتّشاوف بأعداد الكتب وتصويرها وما إلى هنالك. ليس لأن تصوير الكتب مرفوض، لكن المقصد ألّا تصبح السرعة من أجل التصوير غايةً بدلًا من الفهم والوعي، فلتكن الأولوية للفهم، فإن جاءت بعدها السرعة فلا بأس.

من يحدِث تغييرَ القراءة (التراكمي) الكتب؟ أم الروايات؟ كلما أقبل معرض كتابٍ نشب جدال حول أفضلية الكتب على الروايات، وبعد اتهام العرب أنهم لا يقرؤون، انتقل اللائمون إلى اتهام جديد وهو أننا نقرأ، لكننا نقرأ رواياتٍ لا تفيد، بل ربما تخفِض ذائقة المتلقي ولا تختلف عن التسلية التي يمنحها مسلسل أو فيلم.


اقرأ أيضًا: كيف تربي طفلك على حب القراءة؟


وهنا سنستعير الفكرة السابقة، وهي أننا لا بد أن نحقق حدًا معقولًا من القراءة، وفي ذات الوقت أن نحقق تنوعًا معقولًا بين أنواع القراءات، ثم إن رغب أحدٌ في أن يستمر بقراءة الروايات وحدها، فتلك رغبته التي لا يصح أن يُجادَل عليها. إن تدني مستوى بعض الروايات لا يعني أن قراءة الروايات خطأ، البعض لا تصلهم العبرة إلا إن قُدمت ضمن قصة، ولنا في القرآن الكريم مثال، فكثير من العظات وصلتنا عبر قصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأقوام السابقة.

فإن كان باستطاعة القارئ أن يوسّع قراءاته ويستوعب الكتب وعرضها للمواضيع بأسلوب أعمق فبها ونِعم، لكنني أرفض تنفير مشروع قارئ واعد من القراءة بلومِه على قراءة الروايات وتقريعه على ذلك، لأنه قد يستمر في قراءتها مُعاندَةً فلا يتقدّم في رحلته القرائية بسبب تدخلٍ كنا في غنى عنه في نوعية قراءاته.

هل هناك سلبيات للقراءة؟

received_1156326658373221.jpeg
من سلبيات القراءة أن يزهو القارئ بنفسه أو أن يغترب وينزوي بشكل زائدٍ لذلك عليك الموازنة

| الانعزال التام: حتى إن كانت القراءة أرقى الهوايات، فهذا لا يعفيها من القاعدة القائلة بأنّ لكل شيء سلبياته، ومن سلبيات القراءة أن يزهو القارئ بنفسه أو أن يغترب وينزوي بشكل زائدٍ، فالانعزال للقراءة هو عَرَضٌ لمشكلة ودلالة انعدامِ تأقلم وتكيف مع العالم، فإن وجد القارئ أنه لا يرغب بحل هذه المشكلة فهو حر وله أسبابه، إلّا أن الترويج للوحدة والتماهي مع الكتب غير محمود من ناحية الصحة النفسية، مع أنه يبدو جميلًا عندما نمدحه في النصوص الأدبية.

إن من سلبيات القراءة أنها قد ترتقي بالإنسان إلى حدّ ألّا يستطيع الانسجام مع غيره، فهي هواية أكثر ندرةً من غيرها، وليس سهلًا أن يلتقي القارئ بأشباهه ما لم يبحث عنهم، وأدقُّ سلبية للقراءة تكمن في طريقة استخدام القارئ لثقافته، فالبعضُ عندما تعلو ثقافتهم يستخدمونها لتحريف الحقائق.

| الاستخدام الخطأ كتحريف الحقائق:  إن من سلبيات القراءة أنها قد ترتقي بالإنسان إلى حدّ ألّا يستطيع الانسجام مع غيره، فهي هواية أكثر ندرةً من غيرها، وليس سهلًا أن يلتقي القارئ بأشباهه ما لم يبحث عنهم، وأدقُّ سلبية للقراءة تكمن في طريقة استخدام القارئ لثقافته، فالبعضُ عندما تعلو ثقافتهم يستخدمونها لتحريف الحقائق، وجعلها دومًا في صفهم بسبب قدرتهم على الجدال وإثبات وجهات نظرهم، وذاك استخدام سيئ لمهارة جيدة. ولا بد من الإشارة إلى أن هدف الكتاب له تأثيره، فكم من كتابٍ هدم أكثر من عشر مسلسلات فاضحة!

ختامًا، وعلى ذكر المسلسلات والأفلام، ما يزال لدينا جدل حول النسخة الأفضل من أي فكرة، أهي الرواية؟ أم الفيلم؟ شخصيًا أرى أن الرواية تسلط الضوء على جوانب، والأفلام تسلطه على أخرى، عرض الفكرة يختلف بين المرئي المسموع وبين المقروء، والشرائح المستهدفَة بالرواية مختلفة عن المستهدفة بالأفلام، فما الضرر مِن الاستمتاع بالنسختين بدلًا من الجدال؟ أتتفقين؟