بنفسج

نريد أطفالا لا أصناما !

الخميس 11 يونيو

قبل أيام، زرتُ صديقة لي في منزلها، كانتْ على أهبّة الاستعداد، تنسيق وترتيب وتزيين، بيتٌ بسيط لكنّه جميل، أحضرتُ معي هدية، وحينما دخلتُ بيتها، وضعتها في أقرب ركنٍ إليّ، كالعادة، تحدثنا قليلًا، جاء صغيرها ابن العام ونصف يركضُ إلينا، سلّمتُ عليه وأجلسته في حضني. 

لم تمضِ دقائق معدودة، حتى اكتشف الصغير أمر وجود الهدية المركونة جانبًا، وبسرعة البرق ركض ليعرف ماهيتها. في نظره شيء جديد يستحق محاولة البحث، وفي نظر الأمهات تصرفٌ محرج، يدفع بالدماء إلى الوجه خجلًا. سارعتْ أمه لتنهره بشدّة، تسحبه مرة تلو الأخرى، لم تُفلح طريقتها في ضبط أعصابها طويلًا، حتى ضربته على يده، حتمًا سيأخذ نصيبه من العقاب بعد مُغادرتنا أضعاف ذلك.

الصغير لم يفهم سببًا لسلوك المنع من والدته، هو لا يعرف عالم المجاملات والبروتوكولات، و(شو الضيوف يقولوا عنّا)، هو ببساطة لا يستطيع اصطناع ردة فعله كما نفعل نحن، هو فقط يُحاول أن يستكشف، ليس لأنه عديم التربية، أو طمّاع أو غلباوي أو فضولي زيادة، هو لا شي من كل تلك التُهم التي نُلصقها لصغارنا كي نبرر أفعالًا، ليستْ بحاجة إلى تبريراتنا المزيفة، سوى أنّنا نرسّخ بعض الصفات عن أطفالنا في أذهان من يزورونا فقط.

 | فضول طفل

عزيزاتي الأمهات، لا تكلفّوا أنفسكم ما لا طاقة لكم به من حرجٍ وتبرير، فحينما اخترتم قدوم أبنائكم، كان واجب عليكم فهم طبيعتهم جيدًا، فالله خلقهم أطفالًا، لكننا نُصّر على جعلهم أصنامًا، وهذا ما لن يحدث مطلقًا، إلا حينما يُقتل كل هذا الجمال فيهم، من شغف وفضول وحب لاستكشاف الحياة من حولهم.
 
والمجتمع كفيل بقتل كل ذلك، ولن يُقصّر بفعل ذلك حينما يكبر، فلا داعي لوأده مبكرًا، حاولي ما استطعتِ، أن تُبقي فيه تلك الجذوة مشتعلةً قدر الإمكان.

لم أشعر وقتها إلا بالإهانة، كنتُ وضعتُ نفسي مكان الطفل، وهذا ما أحاول فعله قبل أن أتصرف غالبًا مع الصغار، شعرتُ بعجزه وعدم قدرته للدفاع عن نفسه، وكم نستقوى على ضعفهم وعجزهم، فنفرّغ بهم غضبنا دون تفكير، لأنهم الطرف الأضعف في معادلة الحياة، متناسين أن الكسر يصعب جبره مع الأيام، بالفعل، لقد استسلم إلى جانبنا.

 تدخلتْ، لست لأني متطفلة أو مثالية، تدخلت فقط، لأني شعرتْ أنّ من الواجب عليّ فعل ذلك، لأجل الطفل الذي لا ذنب له، إلا أنه خُلق في منظومة وضعت "برستيجًا" للزيارات بين الناس، بغض النظر عن فهم طبيعة الأطفال، ويكأن المجتمع كُله ولد من بطن أمه كبيرًا، وعليه فهمها بالفطرة".

 ناديتْ على الصغير أمام أمه، وأخبرته أن يأتي بالهدية "طار فرحًا"، وهو يُقسّم ما فيه كي يستطيع حمله، وأخبرتها هذا كذا، وهذا كذا، أشبع فضوله، وذهب إلى طريقه للعب، لم أنتبه كثيرًا لتمتمات الأم وهي تذوب من الإحراج، كنتُ سعيدة جدًا، لأنني أشبعتْ فضول طفلٍ صغير لا يعي جيدًا ما الذي يجب عليه فعله حين يزور بيته أحد. أكملتُ جلستنا، عدنا للحديث، وأرحتُ أمه من التفاتاتٍ كانت ستتعب رقبتها، وأزلت معها شعورًا بالحرج قد يشتت حديثها أو يرهقها.

هذا الفضول الذي خُلقنا به، لكنّنا قوضّناه، ولطالما استخدمناه في غير محله، إلا أنّه يبقى موجودًا ولا يعيب أحدًا، إنما يُعيب من لا يوجد به، فلولا هذا الفضول لما عرفنا بوجود الله، واستسلمنا لفكرة وجودنا من العدم.

أتذكرون، ألم نكن صغارًا يومًا ما، كُنا نعدّ وقت الحاضرين بالدقائق، وما أن يغادروا حتى نسارع إلى فتح تلك المظاريف التي جاءت إلينا، ولنكن واقعيين أكثر، مع أننا كبرنا إلا أنه حينما تُقدّم لنا هديّة يدفعنا الفضول لمعرفة ما بداخلها، ولولا الحياء لكُنا فتحناها وهم جالسين، هذا ليس عيبًا، هذا الفضول الذي خُلقنا به، لكنّنا قوضّناه، ولطالما استخدمناه في غير محله، إلا أنّه يبقى موجودًا ولا يعيب أحدًا، إنما يُعيب من لا يوجد به، فلولا هذا الفضول لما عرفنا بوجود الله، واستسلمنا لفكرة وجودنا من العدم.

لم يتوقف الأمر هنا، لقد عاد الصغير، حاملًا أحذيتنا، سارعتْ أمه لكي تخبرنا كم هو "مشاغب" ويتعبها كثيرًا، حملتُ منه الحذاء وأخبرته حذاء جميل، هذا لصديقتي هذه. وأكمل حتى جلب لنا أحذيتنا كُلنا" ثم استراح، هو لا يقصدُ رغبته في مغادرتنا ولا يعرفُ معنى لفعلته تلك، إلا الفضول وحب الاستكشاف، فلماذا نُتعب أنفسنا بتأويل أفعالهم، لو أخذتْ منه أمه الحذاء وأرجعته مكانه، لما انتهتْ من الذهاب والإياب، حتى نغادر.

عزيزاتي الأمهات، لا تكلفّوا أنفسكم ما لا طاقة لكم به من حرجٍ وتبرير، فحينما اخترتم قدوم أبنائكم، كان واجب عليكم فهم طبيعتهم جيدًا، فالله خلقهم أطفالًا، لكننا نُصّر على جعلهم أصنامًا، وهذا ما لن يحدث مطلقًا، إلا حينما يُقتل كل هذا الجمال فيهم، من شغف وفضول وحب لاستكشاف الحياة من حولهم، والمجتمع كفيل بقتل كل ذلك، ولن يُقصّر بفعل ذلك حينما يكبر، فلا داعي لوأده مبكرًا، حاولي ما استطعتِ، أن تُبقي فيه تلك الجذوة مشتعلةً قدر الإمكان.

وشاءت الأقدار، حيث بُشرّت صديقتي بقدوم طفلتها الأولى، لكنْ حين ولادتها تعرضت لخطأ طبي غيّر مجرى حياة الصغيرة، تلفٌ بالدماغ، كبرتْ الصغيرة، لكنْ صديقتي، كانت تبكي كثيرًا حينما تستيقظ، وتجد البيت على حاله دون أن يتحرك فيه أي شيء، كانتْ تشتهي أن تجذب صغيرتها الأشياء، تُخربطِ أثاث منزلها، أي أمرٍ كان، المهم أن تُحدِث حراكًا في البيت، إنها النعمة التي يتذمر منها الكثيرون، دون أن يفكروا بعِظمها.

لذلك، استمتعوا مع أطفالكم، وتصرفاتهم العفوية، لا تتعجلوا الهدوء لمنازلكم، سيكبر الصغار، ويذهب كُل في عالمه، وستمضي كل تلك الأوقات، وسيفرغ البيتْ من أصحابه، وسيُصبح كُل شيء طيّ الذكريات، فعيشوها بحبٍ وصبرٍ ما استطعتم.