بنفسج

الأمومة: فن ركوب الأمواج

الأربعاء 10 يونيو

غالبًا ما كنت أظن أن مهمتي كأم، أن أستطيع خلق بيئة مستقرة منسجمة متناغمة، تسير في مركب بديع في مجرى نهر هادئ لطيف. كنت أتخيل الروتين المنتظم، والترتيب الدائم والأطفال اللطفاء والعائلة المنسجمة. تمامًا مثل الصورة التي تغرق وسائل الإعلام، والكتب والمحاضرات التربوية الشهيرة.

لكن تجربتي كأم "لأكثر من 20 سنة" كشفت لي أن الحياة أبدًا لن تكون كنهر جار، إنها بحر متقلب بين مد وجزر، وعواصف وسكون، وأمواج هادرة وهادئة. وإن مهمتي تكمن في إتقان فن ركوب الأمواج، وإن استطعت أن أعلم أولادي ذلك أيضًا.

فن ركوب الأمواج؛ هو أن أدرك أن حياتي وحياة أبنائي هي سلسلة من التقلبات، لا يشبه يوم يومًا آخر، فهناك أيام سيكون فيها أمواج تُركب، وأيام أخرى ينحسر فيها الموج ويملؤها السكون.

| علاقات متغيرة

ركوب الموج يعني؛ أن يتغير شكل علاقة الأم مع أبنائها كما تتغير مراحل نموهم. ففي مرحلة الطفولة المبكرة يحتاج الصغار العناية الغامرة والحنان واللعب والضحك والأحضان.
 
وفي سنوات الدراسة الابتدائية يحتاجون الأم المعلمة المشرفة المتابعة، والمديرة، إن صح القول. وبعد البلوغ، يحتاجون الأم الصديقة الرفيقة الناصحة، مصدر السند والدعم المادي والعاطفي.

ركوب الموج يعني؛ أن يتغير شكل علاقة الأم مع أبنائها كما تتغير مراحل نموهم. من تجربتي، وجدت أن في مرحلة الطفولة المبكرة يحتاج الصغار العناية الغامرة والحنان واللعب والضحك والأحضان. وفي سنوات الدراسة الابتدائية يحتاجون الأم المعلمة المشرفة المتابعة، والمديرة، إن صح القول. وبعد البلوغ، يحتاجون الأم الصديقة الرفيقة الناصحة، مصدر السند والدعم المادي والعاطفي.

بالطبع، هذه الخطوط العريضة، ولكن حين الدخول إلى التفاصيل، نجد أن هذه الأدوار تكون موجودة في كل المراحل، ولكنها تأخذ تركيزًا معينًا في كل مرحلة. من المؤكد أنك ستلعبين وتحتضنين ابنك في الصف الثالث، ولكن شخصية المربية والمعلمة ستكون الأبرز والأهم. وقد يكون أصعب تحد واجهته، وجود أبناء لي من مراحل عمرية مختلفة في البيت.

وبالتالي، كان أبنائي الصغار مثلا يتساءلون: لماذا لا ينام إخوتنا الأكبر مبكرًا مثلنا؟ أو أن يعلق أبنائي الكبار على تدليل أخوهم الصغير أحيانًا. لكن من الميزات أيضًا؛ أن علاقتي مع أبنائي الصغار هي نسخة معدلة ومنقحة عن تلك التي كانت مع أبنائي الكبار. فالكثير من الأخطاء التي قمت بها مع أبنائي الكبار استطعت تجنبها لاحقًا، ولكن، ليس دائمًا.

وبالتالي، فإن الأم التي تتعامل مع ابنها في عمر التاسعة كما كانت تعامله وهو في الروضة لن تحصل إلا على طفل مدلل يرهقها ويرهق من حولها. ومن تعامل طفلًا في الروضة بنفس الصرامة التي تعامل بها ابن العاشرة، ستحصل على طفل كئيب معقد خائف. والأخطر حين تعامل أم ابنها في الثانوية كما تعامل ابنها في الصف الأول، وترسم له خطة الصباح والمساء، وتلزمه بها حرفيًا. هنا، تكون الأم قتلت شخصية ابنها تمامًا. إنها أم لم تنضج ابدًا، وهي تعاكس سنن الحياة المتغيرة التي تقول لك: "تكيّف وتغيّر" وإلا لن تنجح.

| الروتين(ات) المقدسة

عدد ليس بقليل من الأمهات اللواتي أعرفه مشاكلهن وعلاقتهن المضطربة مع أبنائهن اليافعين سببه الأساسي تشبثهن بروتين الطفولة الجميل. أنا لا أقول أن لا يكون للعائلة قيمها وقوانينها الخاصة مثل "ممنوع التأخر عن البيت بعد الثامنة مساء".
 
أنا لا أقول أن تكون العائلة بلا طقوسها الخاصة التي تكسبها هويتها الفريدة. ولكن هذه القوانين والطقوس والروتينات يجب أن تكون قابلة للتغير، وأن تلائم حالات المد والجزر وتقلبات الرياح وتغير الفصول.

ركوب الموج يعني أنه لا يوجد روتين مقدس (مهما حاولت). من تجربتي، فإن أي روتين تضعينه له "مدة صلاحية وتاريخ انتهاء". وعدم تقبلك أنت أولا لهذا المبدأ، يعني دخولك في صراعات لا طائل منها مع أولادك، وجعل حياتك أشبه بحلبة مصارعة أو عراك الديوك، واستنزاف عصبي ونفسي لكل أفراد الأسرة، فمثلًا، طفلك حديث الولادة يجب أن يرضع كل ساعتين، ولكن قبل أن يمر 4 أشهر على هذا الروتين يتوقع أن تكوني غيرت هذا الروتين لينام طفلك 4-6 ساعات متواصلة في الليل، وطبعًا هذا أيضا خاضع للتغيير.

من المفيد تعويد طفلك على نوم القيلولة قبل دخول المدرسة -إن نجحت- ولكن عليه أن يتخلى عن هذا الروتين ما إن يبدأ الدوام المدرسي الطويل. قد تستطيعين الجلوس وإجبار طفلك على الدراسة معك في الصف الثالث والرابع، ولكن يا ترى كم عدد الأمهات من حولك القادرات على إجبار أبنائهن في الثانوية على الخضوع لتلك الجلسات "العائلية العلمية"؟ لا يعقل أن تتوقع الأم من ابنها في الجامعة أو ابنتها في الثانوية، النوم في تمام الساعة التاسعة بعد شرب كأس الحليب كما كانا قبل 5 سنوات، -هذا السيناريو السنيمائي لم يحدث معي إطلاقا بالمناسبة-.

عدد ليس بقليل من الأمهات اللواتي أعرفه مشاكلهن وعلاقتهن المضطربة مع أبنائهن اليافعين سببه الأساسي تشبثهن بروتين الطفولة الجميل.

علمتني الحياة أن من السذاجة لأم أن تتصور أن اجتماع أبنائها الثلاثة مثلًا على مائدة الإفطار والغداء والعشاء وهم في المرحلة الابتدائية سيستمر حتى حين دخولهم في مرحلة المراهقة والثانوية والجامعة. لا ينبغي أن تستمر الأم بشعورها بانهيار ممتلكاتها لأن جميع أفراد العائلة لم يعودوا يجتمعون على طاولة الغداء كما كان الحال وهم صغار.

سيتأخر ابنك في المحاضرة، وتأكل ابنتك مع صديقاتها. وقد يكون شهر رمضان هو الشهر الوحيد في السنة الذي تجتمع فيه العائلة على المائدة مرتين في اليوم (طبعًا السحور أيضا لا يوجد عليه ضمانات). وبالتالي، فالوضع لا يلزم فقط تقبل هذا الوضع، وإنما أيضا تغيير "ستايلك" في الطبخ.

عدد ليس بقليل من الأمهات اللواتي أعرفه مشاكلهن وعلاقتهن المضطربة مع أبنائهن اليافعين سببه الأساسي تشبثهن بروتين الطفولة الجميل. أنا لا أقول أن لا يكون للعائلة قيمها وقوانينها الخاصة مثل "ممنوع التأخر عن البيت بعد الثامنة مساء"، أو أن "زيارة الجدة يوم في الأسبوع أمر مفروغ منه". أنا لا أقول أن تكون العائلة بلا طقوسها الخاصة التي تكسبها هويتها الفريدة. ولكن هذه القوانين والطقوس والروتينات يجب أن تكون قابلة للتغير، وأن تلائم حالات المد والجزر وتقلبات الرياح وتغير الفصول.

| الأمومة الانتهازية التي تعرف مواعيد المد والجزر

من الخطورة أن تظن الأم ساعتها أن تربيتها "ضاعت هباء" والأولاد "لا يسمعون الكلام". الأمر ببساطة، أن عليك أن تسعدي بتربيتك الناجحة، وأن أبنائك قادرين على بناء شخصيات مستقلة.
 
عليك أن تحولي هذا الجدال لمتعة فكرية، ونقاش مثمر يساعدك أكثر على فهم دواخل أبنائك العميقة. عليك أن تلاحظي كم أن أبنائك يشبهونك حين كنت في مثل عمرهم، وكنت تعتقدين أن والديك "لا يعرفون شيئا". بل إن عليك أن تخافي وتقلقي من ابن في التاسعة عشر يتحدث معك كطفل في الصف الثالث.

ركوب الأمواج يعني أن تمتلكي طبيعة انتهازية. لست أعرف حقيقة لماذا ترتبط كلمة انتهازية بمعنى سلبي، الانتهازية تعني هنا انتهاز الفرص، وهي مهارة أساسية في ركوب الأمواج. في كل مرحلة عليك أن تنتهزي الفرصة المتوفرة فيها، لأن الموجة التي تأتي للأسف لن تعود ثانية.

أبناؤك في مرحلة الدراسة الابتدائية "يحبون" الجلوس معك والاستماع لقصص قبل النوم. في تلك المرحلة يحب الصغار بناء قيم مثالية، وتكوين قدوات، والاستماع لوعظ الكبار وقصصهم. لكن لا تتوقعي أن يستمر الحال حين دخول أولادك مرحلة البلوغ. حينها "يستمتع" الأبناء بالجدل والمخالفة والنقاش والمعارضة، وتحدي قيمك ومفاهيمك وبناء قيمهم ومفاهيمهم الخاصة، فكل كلمة ستقولينها سيردون عليها ويناقشونها.

وكل أمر سيُتبع بتحد أو اعتراض على الأغلب. وسيكون من المضحك جدًا أن تتخيلي جلسة وعظية كتلك التي كنت تقومين بها معهم وهم صغار. إن معظم القيم والرسائل التي يمكنك تقديمها لأبنائك لن تمرر بلغة الوعظ، وإنما بلغة الحوار والنقاش والفكر.

ومن الخطورة أن تظن الأم ساعتها أن تربيتها "ضاعت هباء" والأولاد "لا يسمعون الكلام". الأمر ببساطة، أن عليك أن تسعدي بتربيتك الناجحة، وأن أبنائك قادرين على بناء شخصيات مستقلة. عليك أن تستمتعي بهذا الجدل وهذا النقاش. عليك أن تحولي هذا الجدال لمتعة فكرية، ونقاش مثمر يساعدك أكثر على فهم دواخل أبنائك العميقة. عليك أن تلاحظي كم أن أبنائك يشبهونك حين كنت في مثل عمرهم، وكنت تعتقدين أن والديك "لا يعرفون شيئا". بل إن عليك أن تخافي وتقلقي من ابن في التاسعة عشر يتحدث معك كطفل في الصف الثالث.

ركوب الموج يعني أنك تراقبين جيدًا مواعيد المد والجزر وارتفاع الموج. علمتني الحياة أن من أخطر الأمور هو البدء قبل الأوان، وأكثرها إضاعة للوقت وإثارة للندم البدء بعد فوات الأوان. حاولي أن تنتهزي طفولة صغارك ليناموا بجانبك وتستمعي بدفء أحضانهم الصغيرة، فهذه الأحضان لن تعود حين يكبرون ويصبحون أطول منك.

استغلي كونهم صغارًا للقيام بكل المشاريع المجنونة، من تلوين وأعمال يدوية وطبخات -مهما كانت نتيجتها سيأكلونها بسرور- فأبناؤك حين يكبرون ستبحثين عنهم في غرفهم المغلقة، ستجدينهم منشغلين بمشاريع التخرج وبرامج الكمبيوتر وأبحاث الجامعة والتعليق على الطعام. ابدئي مبكرًا بتعويدهم على الأعمال المنزلية لأنهم إن لم يعتادوا وهم صغار، فستتحول حياتك إلى معادلة واحد يخدم عشرة. لا تبدئي معهم تعلم الإعراب قبل أن يتعلموا القراءة وتذوق اللغة، ولا تبدئي معهم بالسنن قبل الفروض.

| وأخيرًا

الأمومة مهمة سهلة جدًا لأم اختارت أن تكون فقط منجبة ومطعمة وخادمة، وبالتالي، فهذه المقالة ستكون بمثابة "وجع رأس" لها، وهو ما يجعل هذه المقالة غير موجهة لها في الأساس. أما الأم المربية، فالمهمة أبدًا لن تكون سهلة، والطريق أمامها ليست معبدة، تمامًا مثل التدرب على ركوب أمواج البحر.

الأمومة مهمة سهلة جدًا لأم اختارت أن تكون فقط منجبة ومطعمة وخادمة، وبالتالي، فهذه المقالة ستكون بمثابة "وجع رأس" لها، وهو ما يجعل هذه المقالة غير موجهة لها في الأساس. أما الأم المربية، فالمهمة أبدًا لن تكون سهلة، والطريق أمامها ليست معبدة، تمامًا مثل التدرب على ركوب أمواج البحر. وكل ما كتبته في هذه المقالة هو مشاركتي لتجربتي المحدودة جدًا في رحلتي كأم، والتي أرجو أن تساعدك ولو قليلًا على توقع بعض أحداث هذه الرحلة والتحضير لها. وأخيرًا، لا تنسي قراءة الأحوال الجوية والتعرف على مواعيد المد والجزر وارتفاع الموج ليوم غد.