بنفسج

من ظلمات السجن إلى نورِ مكة: أسيرةٌ تلمسُ الكعبة!

الأحد 25 يونيو

كنَّا قد عقدنا النَّية في ما بيننا، فلن نفوَّتَ أي يومٍ من هذه الأيام المباركة، فهي أيامٌ معدودة ستمضي، ونبقى نحن هنا، بين هذه الجدران، نعدُّ الأيام، ونكتمُ الحسرة. أو هكذا ظننّا، حتى جاءت إحدى الأخوات وقلبُها يطيرُ فرحًا، فقد علمتْ أنَّ أمَّها وأخيرًا ستذهب هذا العام إلى بيتِ الله الحرام. احتضناها جميعًا وبكينا فرحًا إلى أنْ علا صوت المذياع وهو ينقل تهاني الأهالي الحجاج إلى بناتهنَّ الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وليس لي أن أصف كيف فضحتْنا الدموع عندما جاءت النشيدة: "رايحة فين يا حجة يا أم الشال قطيفة". وكلنا بصوتٍ واحد اختلطتْ فيه دموعنا نجيب: "رايحة أزور النَّبي محمد والكعبة الشريفة".

ليسودَ الصمت وكلُّ واحدةٍ منَّا تتخيَّل نفسها وهي عروس ترتدي لباسَ الحج الأبيض الناصع، وتنتظرُ هبوطَ الطائرة ليُحلِّقَ قلبها نحو الكعبة. تركضُ كنسمةٍ خفيفة لتلمس الكعبة بيديها، وتطوفُ بصوتِها: "لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لبيك". ويا إلهي! ونحن نتخيَّل لحظة السعيِّ بين الصفا والمروة، فهنا تُركت السيدة هاجر وحدها، ليتكفَّلها الله بعزَّته ورحمته، وأنا أسألُ نفسي: من تكفَّل بسيدةٍ ضعيفة رفقة رضيعها، هل له أن يتركنا هنا، حاشاه حاشاه! لم يفسد حلوَ هذا الخيال سوى صوتٌ متعجرف بعربية ركيكة وهو يقول: عدد -أي جاء وقت عدَّ الأسيرات.

أسيرة لأول مرة تلمس الكعبة

كانت هذه الرؤية بمنزلة بشرى كبيرة لروضة، فبعد أشهرٍ معدودة كُتِبَ لها أن يكون اسمها ضمن الـ 20 أسيرة اللواتي أُطلِق سراحهنَّ ضمن صفقة الحرائر عام 2009. وقد اكتمل تمامُ رؤية روضة، عندما علمت أنَّ هدية الإفراج عنها ستكون "منحة حج". هل حقًّا ستصبح الأسيرة روضة الحاجَّة روضة؟! يا إلهي!
 
وقفتْ روضة تضحك وتسأل نفسها: هل سيغنون لي حقًّا: "رايحة فين يا حاجة؟! وهذه المرة سأجيب أنَّي سأزور النبي حقيقةً وليس مجازًا؟ لم تُصدَّق روضة كلَّ هذا الجبر، كانت ترى هذه الأسئلة كحلمٍ ما زال خلف القضبان، حتَّى جاءتْ اللحظة التي وجدتْ يديها تملس الكعبة الشريفة، وعيونها تبكي وتقول: "قد جعلها ربِّي حقًّا".

نظرت الأسيرة روضة حبيب (46 عامًا) إلى أخواتِها الأسيرات وهنَّ يضحكن، وكأنهنَّ يطمئنَّ بعضهنَّ: لا تقلقن فهذا الصوت المُزعج لن يكون في بلاد الله الحرام. كلُّ هذه التفاصيل كانتْ دعاءً يرافق الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فمن اللحظة التي يبدأ فيها الحجاج بالتوافد نحو أطهر البقاع، تبدأ الأسيرات بتجهيز غرفهن لاستقبال بركة العشر الأوائل من ذي الحجة. فما بين الصيام والصلاة وقيام الليل، كانت الأسيرة روضة تحرص على الجلوس برفقة الأسيرات بجانب المذياع ليسمعنَ تلبيةَ الحجاج، ويدرسن في ما بينهنَّ أركان الحج وسننه.

 ويروينَ الحكايات التي عشنَ تفاصيلها برفقة أهليهم الحجاج، ويصفنَ العرس الكبير الذي يصبح عليه البيت، فقبل أسبوعٍ من الحج يهلّ الضيوف ليسلِّموا على الحجاج طالبين منهم الدعاء والسَّلام على الحبيب المصطفى -صلّى الله عليه وسلَّم-. وفي هذا الوصف كانت بعض عائلات الأسيرات تتمكن من زيارة بناتهنَّ قبل ذهابهم إلى الحج، لتكون كلُّ أسيرة قد جهَّزتْ الأدعية التي تريدها، ليحفظها الأهل ويدعونَ لها بما طلبتْ.


اقرأ أيضًا: "لبيك اللهم لبيك": أنشطة تربوية تشرح مناسك الحج للأطفال


لكنَّ الأمرَ كان مُختلفًا تمامًا مع الأسيرة روضة، فمنذ لحظة الاعتقال الأولى عام 2007، حُرِمتْ من زيارة أهلها، وعوقبتْ بمنع زيارة أبنائها الأربعة بحكم أنَّها أسيرة من قطاع غزة. كانت روضة تحتضنُ دعواتها التي لم تستطعْ إرسالها إلى أهلها الحجاج، وفي كلِّ مرة يأتيها الجبر من الله بشكلٍ أجمل مما تمنَّت. فكانت روضة تمتازُ بصبرٍ عجيب، وثقةٍ كبيرة أنّها ستحمل دعواتها بنفسها إلى بيتِ الله الحرام، فكانت تقول لزميلاتِها وهنَّ يبكين لوعةً: "كلِّي ثقة برب العباد أنَّنا لا نموت قبل أن نرى الكعبة. وترفع سبَّابتها قائلةً: فوالله لن نموتَ قبل أن نرتويَ من ماء زمزم ونتوضأ هناك، ونصلي في الروضة الشريفة".

حلم تحقق "منحة حج"

1-13.jpg

كان عوض الله على قلبِ الأسيرات في كلِّ مرةٍ مختلف، ففي الوقت الذي يجلسنَ فيه يرفعنَ أيديهنَّ رجاءً، تُهدى إليهنَّ حجةً من أهلهم وأحبتهم بدلًا عنهن. فكانت الفرحة، وكأنَّ الأسيرة قد ذهبتْ للحج بجسدها وليس بروحها فقط. وأمَّا عن الجبر الذي عاشته روضة في تلك الأيام تقول: "في تلك الأيام المباركة كنتُ أردِّدُ كثيرًا هذا الذكر "لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له له لملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قدير"، وإن توقَّف لساني عن هذا الذكر، لم يكن لقلبي أن يتوقَّف عنه، حتَّى غلبني النعاس، ولم ييقظني سوى صوت منادٍ يقول: "حجًا مبرورًا"

كانت هذه الرؤية بمنزلة بشرى كبيرة لروضة، فبعد أشهرٍ معدودة كُتِبَ لها أن يكون اسمها ضمن الـ 20 أسيرة اللواتي أُطلِق سراحهنَّ ضمن صفقة الحرائر عام 2009. وقد اكتمل تمامُ رؤية روضة، عندما علمت أنَّ هدية الإفراج عنها ستكون "منحة حج". هل حقًّا ستصبح الأسيرة روضة الحاجَّة روضة؟! يا إلهي!! هل سيأتي الجيران قبل أسبوعٍ من الحج ليسلِّموا على روضة ويوصلوا سلامهم للحبيب المصطفى؟! وقفتْ روضة تضحك وتسأل نفسها: هل سيغنون لي حقًّا: "رايحة فين يا حاجة؟! وهذه المرة سأجيب أنَّي سأزور النبي حقيقةً وليس مجازًا؟!


اقرأ أيضًا: الحج وعيد الأضحى: العودة لأصل الحكاية


لم تُصدَّق روضة كلَّ هذا الجبر، كانت ترى هذه الأسئلة كحلمٍ ما زال خلف القضبان، حتَّى جاءتْ اللحظة التي وجدتْ يديها تملس الكعبة الشريفة، وعيونها تبكي وتقول: "قد جعلها ربِّي حقًّا". فمن ظلمات السجن إلى نور مكةَ والمدينة كانت تجري روضة بقدمين حرَّتين دون سلاسل تلتف حول معصمها أو قدميها، كانت تسعى بين الصفا والمروة وهي تقول: "لقد كان ظنَّي في الله أنَّه سيجبرني كما جبر السيدة هاجر ورضيعها".

في البلاد المباركة

2-18.jpg

لم تنكر روضة مشاعرها، وهي التي تُحرر دموعها كلَّما جاءت تلك الذكريات. ففي اليوم الذي صعدتْ فيه إلى جبل عرفة وهي ترفع يديها، تذكَّرتْ كل أيام الحسرة التي كتمتها في قلبها عندما كانت تتمنى رؤية أحدٍ من أهلها لترسل معهم دعواتها. لكنَّها اليوم على جبل عرفة، وحولها أممٌ مختلفة قد جاءوا من كلِّ حدبٍ وصوب، يسمعون قصتها، يبكون بجانبها ويرفعون أيديهم يدعون معها باختلاف وغرابة لغاتهم.

كانتْ روضة حريصةً على استغلال كل دقيقة، والتمعن بكلِّ شعيرةٍ من شعائر الله، فكلُّ شيءٍ حولها كان الحلم الذي تحقق بمعجزة، ورغم كل هذا الجمال لم تكن روضة لتنسى رفيقاتها اللواتي جلسن بجانبها في تلك الأيام، يتخيَّلن أنفسهن بلباس الإحرام. يطفنَ ويرددنْ تلبية الإحرام بقلوبهن قبل أصواتهن. لم تنسَ روضة أيًّا من صديقاتها، فكان هناك دعاءٌ مخصص لكلِّ أسيرةٍ لم يُكتبْ لهنَّ قدر الحرية.


اقرأ أيضًا: "وأذن في بالناس بالحج": في أسرار الحج


كان هذا الحديث بدموع الأسيرة المحررة روضة حبيب، وهي تروي تفاصيل بلاد الله المباركة التي حُرِمتْ منها كل الأسيرات الفلسطينيات. وإن كانت الكعبة الشريفة ميقاتًا مكانيًا لكلِّ الحجاج، إلَّا أن سجون الاحتلال تتحول في هذه الأيام إلى ميقاتٍ قلبي، يحجُّ منه كلُّ مشتاقٍ وترفع فيه دعوات كلِّ سائل، ويُرجَمُ فيه كل ظالمٍ وسجَّان.