بنفسج

محاسن الخطيب: إرث فني شاهد على الإبادة

الأحد 05 أكتوبر

الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب
الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب

“عشان بس أموت تلاقوا صورة إلي”.. يا لقسوة الحياة حين تدفع المرء للتفكير في شكل موته، أن يختار صورة نعيه قبل أن يغادر، أن يرثي نفسه بصورة قبل الرحيل. أي وجع هذا الذي يجعل الإنسان ينتظر موته، ويخمن طريقته، ويوصي أصدقاءه بما يريد بعد أن يفارقهم؟ وما أشد قسوة أن يكون كل ما يتركه خلفه بضع صور وذكريات تتناثر بعده.

هذا ما فعلته الفنانة محاسن الخطيب، التي كانت تقاتل الاحتلال بالفن. كلما آلمها شيء ركضت لترسم؛ فكان التعبير بالفن أفضل وسيلة لها، لترسم حتى النفس الأخير في مخيم جباليا الذي رفضت النزوح منه.

هنا نحكي مع أنوار الخطيب، شقيقة الشهيدة محاسن، لتخبرنا عن الأخت والصديقة، الرسامة الموهوبة، الابنة البارة، ابنة المخيم المحبة لأزقته الضيقة، والخالة الحنون.

ابنة جباليا شهيدة

الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب

في 19 أكتوبر 2024، وتحديدًا في مخيم جباليا “تل الزعتر”، وبينما تسمع محاسن دوي الانفجارات في المخيم، سقط صاروخ إسرائيلي على منزل جيرانها، ليطالها وعائلتها، فتُستشهد على الفور وتُصاب العائلة جميعها.

تقول شقيقتها أنوار لـ”بنفسج”: “حوصرت عائلتي في جباليا قبل استهدافهم، فكان الوضع مأساويًا. استشهدت محاسن وتم انتشالها من بين الركام ونقلها إلى المشفى، ودُفنت دون أن يودعها أحد من عائلتي التي كانت جميعها مصابة.”

كانت أنوار نازحة في المحافظة الوسطى “دير البلح”، فوصل اتصال لزوجها بالخبر، لترتجف من هول الصدمة وتصرخ حتى بَحّ صوتها. فمن رحلت لم تكن أختها فحسب، بل صديقة وابنة عزيزة.

تضيف بصوت باكٍ: “رحلت من كانت أعز من بناتي. حتى اليوم لم أستوعب أنها غادرت الدنيا. أنتظر عودتها كل يوم. كانت تحادثني كل ليلة، فأسمع صوتها المرتجف من هول القصف، وسرعان ما تضحك وتقول: تقلقيش إحنا بخير.”


اقرأ أيضًا: الفنانة محاسن الخطيب ترسم آخر لوحاتها بالشهادة


قبل تسعة أيام من يوم الفراق كان يوم ميلاد محاسن، لتنشر صورًا لها عبر حسابها على “إنستجرام”، تستذكر فيه كيف كان يوم 10 أكتوبر من كل عام. لكنها اليوم محاصرة، تقف في طابور الموت، وتخاف المجهول.

وبعدها كتبت: “صرت بس أسمع الصاروخ ما أشرُد عند أمي ولا أقوم من مكاني ولا أغطي داني بإيديا ولا أغمض عيوني.. مش عارفة قوة ولا تعود ولا جبروت اللي إحنا فيه”.

رفضت ابنة المخيم البارة النزوح عن جباليا، وآثرت البقاء في بيتها الذي كان لها وطنًا وروحًا، حتى ارتقت شهيدة بين جدرانه. ليصير تاريخ ميلادها وتاريخ استشهادها في الشهر نفسه، تاركًا غصة في قلوب أحبتها الذين اعتادوا أن يكون أكتوبر شهر الهدايا واللقاءات الجميلة في ذكرى ميلاد رفيقتهم، فإذا به يتحول إلى شهر الحزن والقهر.

طيف محاسن الذي لا يغيب

الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب

خلال الحرب، لم تتوقف محاسن عن التوثيق بالصورة. كانت ترسم المأساة، النزوح المتجدد، دمار المخيم، المجاعة. لم تمل من الرسم الذي اعتبرته أمانة ورسالة عليها المضي قدمًا في طريقها. كانت ترى أن كل منا يقاوم بطريقته، فكان الرسم بالموشن جرافيك وسيلتها للتفريغ النفسي وتوثيق الحقيقة والشهادات الحية.

قبل استشهادها مباشرة، حرق الجيش الإسرائيلي خيام النازحين في مشفى شهداء الأقصى، فوثقت بالرسم الحدث، لتجسد صورة كرتونية للشخص الذي احترق بالنار، وتساءلت: “قل لي شعورك عندما ترى أي شخص يحترق؟”

تضيف أنوار وهي تتأمل صورها: “أُنهكت محاسن من الحرب، لكنها لم تتوقف عن توثيق قصص الناس ومعاناتهم بفيديوهات تحكي الألم والحرب، تحمل همي أنا وأطفالي وتوصيني عليهم، ولم تبخل يومًا علينا بأي شيء كان.”

كانت محاسن لبنات أنوار أكثر من خالة؛ كانت لهن قلبًا وأمًا ثانية تغمرهن بحنانها. لم يعتدن غيابها عن تفاصيل أيامهن. ومع رحيلها صار الفراغ أكبر من أن يُحتمل، وصارت الأسئلة عنها لا تنقطع كل ليلة.

تروي أنوار بوجع: “ابنتي سيلا، صاحبة السبع سنوات، تعاني جدًا منذ رحيل محاسن، ولا أعرف كيف أخفف عنها هذا الألم. تخبرني أنها تحلم بها في المنام بشكل دائم، وأنها تريد الشهادة حتى تلتقي بخالتها.”

الابنة المرضية

الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب

أما عن علاقتها بالعائلة، فلم تكن محاسن تخالفهم، فكانت تحرص على إرضائهم. درست الرياضيات بناء على رغبة والديها مع أن الفن كان رغبتها، لكن شغفها بالرسم لم يتوقف، فالتحقت بدورات في الموشن جرافيك، وبدأ اسمها يعلو في هذا العالم الفني.

عملت به وكانت تتلقى أجرًا بسيطًا حتى ارتفع تدريجيًا بعملها مع شركات خارجية، حتى أنها بدأت تعطي دورات فنية في المجال، ونشرت دورة مجانية عبر الإنترنت “عن روحها في حال استشهادها”.


اقرأ أيضًا: أمل أبو ركاب: أم لم تلد لأطفال شهداء


تقول أنوار: “أمي تقول عن محاسن سند العائلة. منذ عملها لم تحرمنا من شيء، كانت تحرص على جلب كل ما نريد، حتى أنها حققت لأمي حلم زيارة بيت الله الحرام ففاجأتها بتسجيلها للعمرة. أما والدي فتوفي قبل الحرب فشكل غيابه فراغًا في حياتنا، كان يقول عن محاسن: المطيعة المرضية.”

تستذكر أنوار خلال حديثها محاسن الطفلة المشاكسة، التي كانت تحب الأكل جدًا فظهر ذلك على وزنها. تروي: “كانت كتير تحب الكيك.. أمي تعطيها حصتها فتأكلها، وتاني يوم تروح تكمل باقي الكيك لحالها.”

رحلت محاسن وهي تشتاق للطعام بكل أنواعه، وللحياة العادية، تخاف الفقد، وتحمل هم النزوح، وشقيقتها التي تعيش في خيمة. فعلت جل ما تستطيع لتوفر لها ملابس شتوية وأغراضًا للصغار الذين تعلقت بهم جدًا. وكان فراقهم بين شمال وجنوب قاسيًا. غادرتنا وهي تقول لشقيقتها: “على ما يبدو رح نتوجع كتير والحرب بلا نهاية.”