بنفسج

مخيم جنين: بوابة انتظار لحين العودة

الخميس 06 يوليو

ربما يكون السؤال عن الطقس والحالة المناخية سؤالًا بديهيًا في حال كنت تخطط لنزهة أو تسوق خارجي أو ما شابه، غير أن السؤال عن الوضع الأمني والتأكد من وجود إضرابات من عدمها هي حالة يومية خاصة يعيشها الفلسطيني كأمر مفروغ منه، وللمصادفة كنت قد قررت أنا وأطفالي مساء يوم الأحد الذهاب إلى مدينة رام الله للتسوق.

 وفي صبيحة ذلك اليوم استيقظنا متأخرين، فلم يسعفنا الوقت أو حتى التذكر لتصفح الأخبار والسؤال عن الوضع الأمني إن كان مواتيًا، وهل هناك إضراب تجاري من غيره، وما أن أنجزنا بعض الأمور وبدأنا رحلة التسوق بالتنقل بين الدكاكين والمحال المتزاحمة على طرفي شوارع المدينة حتى تفاجأنا بحركات سريعة ومتتابعة لتبدأ المحال إغلاق أبوابها في حالة تناغم مترقبة، ولم يكن ذلك خبرًا سارًا لأطفالي لا سيما صغيرتي التي كانت قد وفرت عيديتها لشراء لعبة مميزة من المدينة، وتساءلت ماما ما الذي يحدث؟

كان يجب علي أن أروي لها حكاية فلسطين وسكانها الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها لاجئين في أوطانهم أو في الدول المجاورة، وكيف أنهم لم يكونوا يستوعبون تلك اللحظة بأنهم لن يعودوا، فخرجوا خفافًا على أمل العودة القريبة ونصبوا خيمًا كانت قد قدمتها المؤسسات الدولية، فلما طال البقاء وضعوا بدل الخيام حجارة بنوا منها بيوتنا متراصة يتشارك فيها الجيران.

لم أكن أعرف ما يجري في جنين بعد ولكني أعرف أنه إضراب، نعم إضراب تجاري، لم تكن كلمة إضراب غريبة عليهن وهن اللواتي يدرسن في مدارس حكومية، فبالكاد ينهين نصف المقرر أو أقل نظرًا لحركة إضراب المعلمين التي باتت أمرًا اعتياديًا أضيف إلى اعتياداتنا غير العادية؟ سارعت بالعودة لمتابعة الأحداث أمام شاشة التلفاز وأخبار المخيم تصل تباعًا، فتسألني ابنتي مرة أخرى أمي لماذا اسمه مخيم، أنا لا أرى الخيم؟

 فكان يجب علي أن أروي لها حكاية فلسطين وسكانها الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها لاجئين في أوطانهم أو في الدول المجاورة، وكيف أنهم لم يكونوا يستوعبون تلك اللحظة بأنهم لن يعودوا، فخرجوا خفافًا على أمل العودة القريبة، ونصبوا خيمًا كانت قد قدمتها المؤسسات الدولية، فلما طال البقاء وضعوا بدل الخيام حجارة بنوا منها بيوتًا متراصة يتشارك فيها الجيران بعض الجدارن، وأحيانًا النوافد أو الأبواب التي تفتح على الحوش الضيق لتلك البيوت التي مهما تعالت في العمران فإن ساكنيها على أهبة هجرانها إلى قرى ومدن سمعوا بها من أبائهم أو أجدادهم ولم تطأها أقدامهم كانوا قد أخرجوا منها عنوة، فانتزع معها الزمن الذي ظل واقفًا عند ذلك التاريخ عمرًا كاملًا.


اقرأ أيضًا: فلسطين كما صورتها التغريبة: هل غيرتنا النكبة؟ [3]


ولا زالوا أجدادنا على أهبة العودة إلى مسقط الرأس المنشود حتى وإن لم يبقى من أثاره سوى كومة حجارة على تلال فلسطين، حتى أن الكثير من أسماء العائلات بات يقترن باسم القرية والمكان الذي هجروا منه، فذلك الأمر وإن حدث عفويًا في بداية الأمر ولتسهيل تعرف الفلسطينيون على بعضهم بعد أن أحدثت الحرب حراكًا اجتماعيًا قسريًا غيّر كل شيء، فبات ما قبل النكبة وبعدها شيئان متمايزان.

وعلى الرغم من ذلك  يساهم هذا التعريف في إذكاء الذاكرة الجمعية لا سيما للأجيال الصغيرة من اللاجئين الذين يفاجئك أطفالهم بتعريف نفسه بمسقط رأس أجداده تحديًا لواقع أقره المحتل المغتصب، وهازئًا بدولة عمرها أقصر من عمر جده، وهو دليل آخر على فشل "دولة إسرائيل" التي  جاهدت لمحاولة خلق ذاكرة جديدة ينسى فيها اللاجئ تاريخه ويكف عن حلم العودة، وهو ما تسعى له جاهدة في محاربة التعليم الفلسطيني لا سيما في القدس.

كما تعمل على محاربة وجود مؤسسات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" وتجفيفها لمنابع الدعم المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية؛ متذرعة بالمناهج الفلسطينية ومدعية بأنها إرهابية عدوانية، مطالبة بتجميل صورة الاحتلال، وكأن الفلسطيني الذي يذل وتهان كرامته على المعابر سيعبئ بلوحة رخيصة وضعت على بوابة الحاجز الظالم التي كتب عليها "معبر....يرحب بكم"، أو كأن بعض الإضاءة الرمضانية التي تزين بها الأسلاك الشائكة ستنسيه تلك الأسلاك اللعينة والممرات الطويلة المضنية في تلك المعابر الغاشمة. 

هي حرب طويلة يتنقل فيها  الاحتلال بين التدخل العسكري المباشر كما حدث في مخيم جنين فأعادت إلى المشهد قصة اللجوء حية مرة أخرى عبر إجبارها عائلات بأكملها على إخلاء منازلها تحت وطأة التهديد بهدمها، فخرجت النساء يحملن أطفالهن والرجال يسندون العجائز ليعيدوا مرة أخرى قصة لجووئهم التي لا تنتهي إلا بانتهاء هذا الاحتلال، ومشاهد الغزاة المتسللين يحولون بيوت الحياة والسكنية إلى مصانع موت يستوطنها القناصة الجبناء.


اقرأ أيضًا:  اجتياح مخيم جنين: وحدة البارود الفلسطيني


 ورغم رائحة الموت التي فاحت مع الأدخنة المتصاعدة إلا أن رائحة النصر والتمكين كانت أقوى وأعمق، فتجسدت في هزيمة أهداف ذلك العدوان وتقلصها إلى اعتبار حفر الشوارع وتوسيع الطرق إنجاز إستراتيجي، وجاء على شكل صبر أهل المخيم واحتضانهم لأبنائهم المقاومين وفتحهم لبيوتهم وجعلها فداءً لهم، فأعادت لنا تجسيد قصص الأنصار والمهاجرين، لتمثل لنا حية في قصاصة ورق أثلجت صدور المقاومين الذين وجدوها ونشروها، وكذلك صدور كل الفلسطينيين وأحرار العالم وأذلت الاحتلال الذي يراهن على الانقسام ويعمق الفصائلية ويحارب الوطنية.