بنفسج

قصة "شيكل": شاهد على الاحتلال

الخميس 13 يوليو

مرحبا يا أصدقاء، أنا حبيب الجميع ولكنني بالأخص صديق الصغار، أما الكبار المملون فلا يعرفون قيمتي إلا عندما أنقص عليهم في أجرة المواصلات، تطبيقا لمقولة " في الليلة الظلماء يفتقد البدر "، فهل عرفتموني؟ قبل أن أخبركم من أنا، أريد أن أوضح أن أصلي الأول هو العراق كما اكتُشف في التاريخ القديم، بيد أن الاحتلال  سرق اسمي كما سرق الأرض والطعام والتراث ونسبه له، هذه سياستهم الخبيثة، نعم، إنني أنا الشيكل، وها هي قصتي.

تجولت في كثير من مدن فلسطين الحبيبة، وتعرفت على الكثير من الأشخاص في كل مكان، كنت مع العجوز والشاب والطفل، منهم من أحبني ومنهم من عاملني بلا قيمة. جلست في الكثير من الأماكن لسنوات وسنوات .. وقد بدأت الحكاية في مصنع صغير في مدينة يافا عام 1985، فكنت من أول العملات المعدنية التي صنعت، ومن هنا انطلقت في البنوك والمصارف وأيدي الناس.

كانت أول حكاياتي بيد عجوز لطيفة مليئة بالتجاعيد، تروي بها قصصًا لا تعد، تسكن في حي صغير بمدينة صفد، وتمتلك من الأحفاد ثمانية، تجمعهم كل ثلاثاء تروي لهم قصة من التاريخ تتبعها مسابقة خفيفة وكنت أنا الجائزة، تخبرهم عن شوارع المدينة العريقة، وكم من حضارة صنعت هذا المكان، وكم أسير وجريح وشهيد نحتت دماؤهم صخور الطريق.

تخبرهم عن سحر سور عكا وجبال حيفا وسهول الناقورة، وعن عنب الخليل وموز أريحا وفروالة غزة، ونقوش الجدران وأزقة الشوارع القديمة، فلسطين الساحرة بتفاصيلها الخلابة، كم حاربت وصمدت ونزفت وضحكت وأبكت، حكايات لا تروى، بل تعاش. حفيدها الأوسط "أحمد" هو من فاز بالمسابقة، فانتقلت من يد العجوز الحانية إلى الطفل الذكي المشاغب، كنت جديدا وألمع، وكما عينا أحمد التي تلمع كلما رآني، حتى قرر أن يحتفظ بلمعتي ولا يشتري بي شيئا، ولكنّ هذا القرار ما لبث بضعة أيام حتى هزمته عربة بوظة بطعم البندق.

انتقلت هنا وهناك بأيدٍ كثيرة حتى وصلت القدس، بصحبة شاب بعمر العشرين، بدا عليه الهم والحزن كما لم أرى من قبل، طيب القلب حسن الصوت، يتلو آيات من القرآن كل صباح بعد الفجر ويدعو الله حتى الصبح. عرفت بعد ذلك أنه الابن الوحيد لوالده الأسير المؤبد وأمه المريضة، يحاول جاهدًا علاجها ولا يملك الكثير، تمنيت لو كنت ألفاً لأنصره، تصدق بي في مسجد مجاور، وأكملت رحلتي نحو بيت لحم، حتى وصرت بيد رجل ثريّ، ووقعت عنده في زاوية أريكة جلدية فاخرة.

وبالطبع لم يلحظ غيابي من جيبه لأنني غير مهم بنظره، ورأيت هناك الكثير من الأصدقاء أمضوا سنوات في هذه الأريكة العريقة، كبطارية قديمة ومفتاح صغير وفتات خبز وجوارب برائحة غريبة، لكنني اعتدت عليها فيما بعد فأدركت هنا أن رحلتي ستتوقف لبعض الوقت.

كانت هذه الأريكة في وسط المنزل، أي أنني استطيع سماع كل الأحاديث، فتعرفت على الجميع من أصواتهم وحتى الطريقة التي يجلسون بها، مر الكثير من الضيوف ولكنّ أكثر مناقشة بينهم أوجعتني، من نعتني ذات مرة بالخائن، وبأن هذا الشعب خائن لاستخدامه عملات الاحتلال في حياته الطبيعية، أو لا يعلم أنني مسروق كغيري من التراث العريق؟

أمضيت في هذه الأريكة نحو ثلاث سنوات، حتى جاء يوم الفرج، يوم أن بيعت وتم تفكيكها، فرأيت السماء بعد طول انتظار، أهكذا يكون شعور الحرية ؟ آه ما أجمله.. انطلقت نحو غزة الحبيبة في جيب مقاوم صلب على الحدود الفلسطينية، ببزته العسكرية ووقفته القويمة وقبضته العصيّة، ينام الجميع فيستيقظ هو، مجهول لدى الجميع معروف عند الله، يقوّي نفسه ببعض أذكار تحميه، حتى صرت في جيب شهيد مضرج بالدماء.

ها أنا ذا، سنوات مرت بي وغيرتني، قصص لا تنتهي، لشعب لا ينحني، ولكنني بقيت شيئًا أحبه، فرحة للأطفال الصغار، حينما يجدونني ملقى على الأرض أو يأخذونني لمصروف للمدرسة، لهفتهم في كل مرة تعيد لي الأمل بأن الفرح لا ينتهي مهما بدا ظلام الليل حالكًا.