بنفسج

على عتبات الوعد الحق.. وحيدًا بعد المجزرة

السبت 22 يوليو

بيتٌ لم يُترك فيه أيامى، وثكالى، لم يبق فيه أحدٌ ليبكي أحد، بقي الخبز المُغمس بالدم، واللبن الذي سالت عليه الحناء، يقول المشهد: بقي الطعام، ومائدة الإفطار، التي لم يكتب لها أن تُمسح، يقول المشهد: من عمره أطول أنحن أم أنتم، يقول المشهد: أصبحت المائدة أفضل صورة التقطت لهذا العام، بقيت المائدة، ورحل أصحابها، وكلاهما ينتظران من يزيلهما؛ أحدهما سيسجى التراب على عجل، لأن شهداء آخرون في الطريق، وأما المائدة التي توثق المجزرة، وتظهر بشاعتها، تُرمى بعيدًا دون النظر إليها، توزعت بقاياها في مكان لن يُهتدى إليه، عاجزون عن رؤية بشاعة ما حدث.

يا إلهي كيف كانت آخر لحظاتهم، ثواني الموت، كيف واجهوا الموت المكوم في رؤوس الصواريخ الهاطلة فوقهم. الموت يركض نحوهم فاغرًا فاه، يا الله ماذا رأوا، كيف خمدوا، كيف اُطْفِأت عيونهم، النار هي آخر ما رأوا والظلام، والغبار آخر ما تنفسوا، رئاتهم مليئة بحجارة البيت ورماله التي حوتهم لسنين.

نحن نتألم من بشاعة المجزرة، فكيف بمن عاشوها، أصحابها رحلوا دون أن ينهوها، ينادي أحدهم من بعيد: ادفنوا معهم خبزهم، فإنه خبز عزيز ثمين، امتلكوه بعد معاناة شديدة، خبزهم خبز مرّ حصلوا عليه بعد ضنك شديد، فلتجعلوا الخبز في أحضان أطفالهم، مع ملابس العيد، فكلاهما يأتيان من مكانٍ بعيد بعيد، يأتي مثل هدايا عيد الميلاد، كالضيف المفاجئ الغريب، لربما يدق الباب، ولربما يدق باب غيرهم، ضيف تحمله الرياح، وتذروه على أي باب، لم يبق في البيت المكلوم شيء، نافذة فقط تعانقه بخيطٍ رفيعٍ رفيع، تلاشت هي أيضًا بعد صاروخ سادي عنيد، أخبروه بأن حفلة الموت انتهت، ولكنه أبى إلا اللحاق بهم.

يُقال بأنه كانت هنالك عائلة في هذا المكان، رحلوا وفي المقبرة مكثت أجسادهم، وبالسماء تُحلق أرواحهم، مقبرة المقبورين فوق الأرض، ثم تحتها، مقبرة المبادين عن آخرهم، مقبرة العوائل المرحلين دفعة واحدة. الشهداء لا يتشابهون، لكل واحدٍ حكاية، لكل واحد رواية، لكل واحد عيناه وأذناه وأنفاسه المتقطعة، لكل واحد خواطر و خفايا.


اقرأ أيضًا: خراريف فلسطينية: الوطن في حقيبة سفر


يا إلهي كيف كانت آخر لحظاتهم، ثواني الموت، كيف واجهوا الموت المكوم في رؤوس الصواريخ الهاطلة فوقهم. الموت يركض نحوهم فاغرًا فاه، يا الله ماذا رأوا، كيف خمدوا، كيف اُطْفِأت عيونهم، النار هي آخر ما رأوا والظلام، والغبار آخر ما تنفسوا، رئاتهم مليئة بحجارة البيت ورماله التي حوتهم لسنين، لو أنهم اخترعوا تقنية تبث آخر ما يراه المبادون، أيعود الميتون، أيعود أحدهم ليخبرك كيف أقيمت قيامته، أسوأ ما حدث وما قد يحدث أنك لربما تكون أحدهم في إحدى الحروب المقبلة، أو لربما كنت واحدًا منهم.

 هنا في وطني، وفي غزة كل شيءٍ ممكن، رصاصةٌ أو صاروخ، اختناق بالغازات المسمومة المحرمة دوليًا، رشاشات وأشياء يعجر العقل عن وصفها، الشهداء مختلفون، لكل واحد حكاية، ولكن القتلة متشابهون، عبارة عن نسخٍ مصنعة في مصانع الموت الوحشية، مدربون لتنفيذ الأوامر، ولكن تبرز شخصية كل قاتل منهم حين يطلق صاروخه المسعور نحونا، حين يطلقه بتلذذ. وأما الأسوأ فليس الموت وإنما البقاء وحيدًا على أكوام بيتك.

هل بقيت بعد المجزرة وحيدًا؟ أتموت ألف مرة في الثانية؟ أيختلف الزمن في عقلك عن الزمان لديهم، أترى جميع الميتات كميتة الجِيَف تود الموت ولا ترى أي موتٍ يليق بك أموتُ دعسًا، لا أموتُ حرقًا، أموتُ من فوق بناية، لا أموتُ عرضًا، أموتُ قدرًا! لا، ولكن مثل شهيد، لا أرضى برتبةٍ أقل من رتبةِ عائلتي، أريد أن أحوز على وسام الشهادة، ألا نامت أعين الجبناء أعيش كل هذه الحروب، والمجازر، والاجتياحات، وحصار أعرفه منذ نعومة أظافري، ثم أموت كما يموت الجبناء!

لا أقبل بما دون الشهادة، وأن يكون دمي نازفًا حارًا منبجسًا من جسدي الذي ذهب فداءً لفلسطين، حين ينادي المنادي، وحين يُنفَخ بالبوق أود يا ربي أن أبعث بدمي وكأني نمت اللحظة واستيقظت أرى عدوي في قيامته يرجف خائفًا إنها القيامة، قائمة على أرضي، أرض المحشر، والمنشر. ها أنا ذا مقبل بصدري حاملًا معي دمي، على كفي روحي لا أبالي بإن قُتلْتُ، أو اعتُقلت، أو نُفيت. روحي تتخبط في جسدي، لا تسكن أهلي ينامون جانب بعضهم في لحود متراصة كيف يرفض عقلي هذا، ولكنه يقبل بأنهم عند ربهم أحياء.


اقرأ أيضًا: التعريف: أسير أو طالب جامعي مع وقف التنفيذ


لا يموت الشهداء، داهمهم الصاروخ، نزل المنزل عليهم دفعة واحدة، بقيت الأجساد ساكنة، وحلقت الأرواح إلى الرحمن على جناح السرعة، لم يعرفوا ما حدث قبل لحظاتٍ كنا في جحيم الدنيا: خوفٌ، ونيرانٌ، ونارٌ، وصواريخ، والآن في ملكوت الله حيث لا خوف عليهم ولا يحزنون، ظلٌ بارد وأرواحٌ تُحلق. في أعلى مرتبة تحت العرش سكنوا في قناديل معلقة، أما عن الدنيا؛ فالكل يندد بمقتلنا، يبكي فاجعتنا لا حزنٌ إلا على من بقي، يقولون: إنهم الناجون من المجزرة يريدون أخذ رواياتهم لما حدث، ولكننا نحن الناجون من الخوف، والجوع، والدمار، والحصار نحن أصحاب الثواني الأخيرة، نحن من عبرنا عبر بوابة العالم الآخر كنا في الدنيا وأصبحنا على عتبات الوعد الحق.