بنفسج

بين يوميات الحرب والهدنة: هكذا تشابهت الأيام في غزة

الأربعاء 17 ديسمبر

الحرب على غزة
الحرب على غزة

قد يظن البعض أن الحرب قد انتهت، ولكن الحقيقة أكثر قسوة من ذلك: الحرب لم تنتهِ بعد. فحتى بعد توقيع الهدنة، يواصل العدو اختراقها يوميًا، وتظل أصوات القلق والرهبة ترافق الناس، أشد تأثيرًا من أصوات القذائف التي كانت تهز المدينة في الماضي. في الشوارع، ترى البيوت مهدمة كليًا أو نصف مهدمة لا تصلح للسكن الآدمي، والمدارس مغلقة، والمستشفيات تكافح بأقل الموارد لتقديم ما تستطيع.

هذا فصل من فصول العذاب، وأما ما تخفيه الكاميرات عنكم فهو أشد عذابًا. ما زلنا نعيش في الخيام، نرتجف برد الشتاء ونتصبب عرقًا في حر الصيف. كيف لقطعة قماش أن تحمينا من برد الشتاء القارس؟ وكيف لها أن تمنع الغرق عنّا عند السيول؟ كيف لها أن تدفئ الأطفال وكبار السن؟

 

وفي الصيف، تأتي الحشرات لتزيد الوضع سوءًا، وكأن المعاناة لم تكفِ بعد. في كل زاوية من مخيماتنا، ترى العيون المنتظرة للطعام والماء، تسمع صرخات الأطفال الذين فقدوا أحبابهم، وتشاهد وجوه الأمهات اللواتي يحاولن التخفيف عن أولادهن وسط كل هذا الخراب. الكلمات تعجز عن وصف ما نعيشه؛ إنه والله أصعب وأمر حياةٍ يفرضها علينا الواقع يوميًا.

أما حسرتنا على مدينتنا، فكل الكلمات تعجز عن التعبير. كيف يمكنني أن أرثي ما فقدناه؟ أرثي أجمل ما كان فينا؟ أرثي حينا، أم بيتنا؟ ماذا أرثي بعد أن تلاشى كل شيء أمام أعيننا؟ إنها والله لحسرة تغص القلب، وتترك أثرًا لا يزول أبدًا، وكأننا نحمل مدينة بأكملها في صدورنا، نتذكرها كما كانت، قبل أن تتحول إلى أنقاض وذكريات موجعة.

ومن بين كل هذا الدمار، يظهر الناجي الوحيد رمزًا للأمل والقدرة على الصمود. قصته تحمل في طياتها قوة البقاء، وعيناه تنطق بما عجزت الكلمات عن قوله. كل خطوة يخطوها على الأرض المدمرة تروي قصة نضال من أجل الحياة وسط الركام.

أما المصابون، فهم يحملون آثار الحرب بكل تفاصيلها. أجسادهم مشوهة، بعضهم فقد أطرافه، والبعض الآخر يحمل جروحًا غائرة تروي قصص الألم يوميًا. كل ابتسامة منهم الآن تقاوم الألم، وكل حركة تحمل صراعًا مستمرًا للبقاء. هؤلاء الأشخاص ليسوا مجرد ناجين، بل أبطال صبروا على ما عجز عن احتماله الكثيرون، وما زالوا يحاولون أن يعيشوا حياة كريمة رغم الظروف الصعبة.


اقرأ أيضًا: شتاء يطرق أبواب النازحين: فصول الإبادة المتجددة


والأسوأ ليس فقط في فقدان المأوى، بل في فقدان الأمان النفسي. كل صوت غير مألوف، كل سيارة مسرعة، كل طائرة تحلق في السماء، يثير الرعب في النفوس. الأطفال أصبحوا يخشون النوم، والكبار يقفون على أهبة الاستعداد في كل لحظة، متذكرين أصوات الانفجارات الماضية. لم تعد الحرب مجرد أحداث على التلفاز، بل أصبحت ذاكرة حية تعيش معنا كل لحظة.

ومع كل هذا الألم والدمار، يبرز مشهد التكاتف الإنساني كضوء خافت في الظلام. الجيران يتقاسمون ما تبقى لديهم من طعام وماء، والمعلمون يحاولون تعليم الأطفال بأقل الامكانيات، حتى في الزوايا المهدمة للمدارس، مكتبات صغيرة تُقام بحكايا وقصص، ووجوه تبتسم رغم كل الجروح. هذه الروح التي لا تنكسر تعطي بصيص أمل في قلب المدينة، تذكرنا أن الحياة يمكن أن تستمر رغم كل شيء.

الأمل في إعادة البناء ليس مجرد حلم، بل إرادة حقيقية تتجسد في كل عمل صغير. كل خيمة تُصلح، كل طريق يُعاد فتحه، كل يد تُمد لمساعدة محتاج، تعكس قدرة البشر على الصمود. فحتى بعد الحرب، يبقى الإصرار على النهوض، والبحث عن لحظة فرح صغيرة، وإعادة ترتيب الحياة، هو ما يمنحنا القوة للمضي قدمًا.

إن قصص الناجين والمصابين، وحكايات أولئك الذين فقدوا أحبائهم، تذكرنا بأن الألم جزء من واقعنا، ولكن الإرادة والتكاتف هما ما يمنحنا القدرة على الاستمرار. حتى وسط الدمار، يبقى القلب ينبض بالأمل، واليد تمتد للمساعدة، والعين تبحث عن نور في نهاية النفق الطويل.

ومع كل هذه المعاناة، تظل الحياة تستمر، رغم أنقاض مدينتنا وذكرياتنا المؤلمة. ما بعد الحرب ليس مجرد إعادة بناء البيوت والطرق، بل إعادة بناء الأرواح والمجتمعات. كل لحظة فرح صغيرة بين الأطفال، كل ابتسامة تتجاوز الألم، وكل عمل تضامني بين الجيران، هو دليل على أن الإنسانية لا تنكسر، وأن الأمل يمكن أن يزهر في أكثر الأماكن خرابًا.

إن قصص الناجين والمصابين، وحكايات أولئك الذين فقدوا أحبائهم، تذكرنا بأن الألم جزء من واقعنا، ولكن الإرادة والتكاتف هما ما يمنحنا القدرة على الاستمرار. حتى وسط الدمار، يبقى القلب ينبض بالأمل، واليد تمتد للمساعدة، والعين تبحث عن نور في نهاية النفق الطويل.

لذلك، ما بعد الحرب ليس مجرد نهاية لصفحة سوداء، بل بداية جديدة، صعبة لكنها مليئة بالإصرار والعزيمة. الإنسان، مهما فقد الكثير، قادر على النهوض، وعلى إعادة بناء حياته وبيئته بروح لا تقهر، ومع كل خطوة نحو التعافي، نثبت أن الأمل أقوى من كل الانكسارات، وأن الحياة تستحق أن تُعاش رغم كل شيء.