بنفسج

رضوى عاشور: في السيرة والمسيرة

الأربعاء 30 اغسطس

"عند موت من نحب نكفِّنه. نلفّه برحمة ونحفر في الأرض عميقًا، نبكي. نعرف أننا ندفنه لنمضي إلى مواصلة الحياة. أيّ عاقل ينبش قبور أحبابه؟".

كل نص كانت تكتبه كان يلعب على أوتار الفؤاد، فهي بارعة في اختيار المفردات، مرهفة الإحساس، أحبت الكتابة منذ صباها، رافقت القلم الرصاص فكتبت به النصوص البديعة، ولكنها حين قرأت لتشيخوف داهمتها الشكوك حول جمال نصوصها فتوقفت عن فعل الكتابة، دمجها جدها في عالم الشعر، فكان لها أذنًا شعرية وقلمًا أيضًا، ولكن فور سماعها لشاب على مدرجات جامعة القاهرة يقول الشعر، توقفت عن كتابته وقالت: "فلنترك الشعر لخبازه". ولم يكن الخباز إلا مريد البرغوثي الذي وهبته عمرها كله فيما بعد.

الكتابة عن رضوى عاشور وسرد سيرتها أمر صعب؛ فكيف سنجمل كل الحكايات والإنجازات. ولكننا نعود بالعمر أعوامًا وأعوامًا في حياتها، سنحكي عن رفيق دربها مريد وابنهما تميم الذي يعيش لوعة الفراق عليهما.

رضوى عاشور: السيرة

4-9.jpg

رضوى عاشور ابنة عائلة أدبية؛ فوالدها المحامي مصطفى عاشور كان مهتمًا بالأدب وبالقراءة بشكل عام، ووالدتها ميّ عزام، شاعرة لها صيت كبير بالزمن القديم. مكتبة منزلها كان لها دورًا في إقبالها على قراءة كل أنواع الكتب بلا استثناء، وكان لها حظ كبير كون جدها الدبلوماسي عبد الوهاب عزام الذي يعمل أستاذًا في الأدب المقارن في جامعة القاهرة يعمل أيضًا مترجمًا، وترجم أعمال أدبية عدة خلال حياته المليئة بالكتب أبرزها كتاب المملوك الفارسي، وعود حفيدته على قراءة النصوص الشعرية فأحبتها وشغلت حيزًا من حياتها.

كان خيار الفتاة القارئة أن تدخل كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة، ولم تنتظر طويلًا لتكمل الماجستير، ولكن غيرت دفتها من الإنجليزية إلى الأدب المقارن ونالت درجة الماجستير في العام 1972، ثم انتقلت لدارسة الدكتوراه بقسم الأدب المقارن في جامعة ماساتشوستس في أمريكا؛ وكانت رسالتها عن الأدب الأمريكي الأفريقي، اجتهدت في رسالتها حتى حصلت عليها في العام 1975، ثم عادت نحو مسقط رأسها لتعمل محاضرة في جامعة عين شمس.


اقرأ أيضًا: "فدوى طوقان" تؤرخ الحياة النسائية في رحلتيها الصعبة والأصعب


أما في السلك العملي؛ فقد عملت رضوى مديرة لقسم اللغة الإنجليزية في جامعة عين شمس، وعملت محاضرة، وأشرفت على رسائل الماجسيتر والدكتوراه لطلاب كثر. تقول رضوى عاشور: "أنا بنت واقع قاسٍ، حجرة نومي وأنا طفلة كانت مطلة على كوبري عباس. بما يعنيه كوبري عباس بالنسبة إلى العارفين بتاريخ مصر". "وكوبري عباس هو الذي تظاهر فيه الطلاب المصريين عام 1946 احتجاجًا على الاحتلال الإنجليزي الذي قابلهم بالعنف، وأطلق وابل الرصاص عليهم ليسقط بعضهم في نهر النيل".

أعمال رضوى عاشور الأدبية

3-18.jpg
كتب رضوى عاشور

في عام 1977 كان باكورة إنتاجها الأدبي "مع فريال غزول وآخرين" وهو عبارة عن كتاب بين دفتيه أربعة مجلدات عن بعض الكاتبات العربيات. تلاه مباشرة العمل النقدي "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، الذي كان يدور حول تجربة غسان كنفاني الأدبية. ثم صدر كتابها باللغة الإنجليزية "جبران وبليك".

أبدعت رضوى عاشور في الجانب القصصي؛ فكتبت في البدايات عام 1983 رواية "أيام طالبة مصرية في أمريكا"، وألحقتها برواية "حجر دافئ" و"سراج" و"رأيت النخل". وفي رواية فرج التي أصدرتها في عام 2003، سلطت الضوء على الاعتقال السياسي الذي طال ثلاثة أفراد من عائلة واحدة: الأب والابنة والأخ. وتميزت في رواية "أطياف"، و"تقارير السيدة راء" ورواية "قطعة من أوروبا"، هذه بضع من أعمالها الروائية والقصصية التي لا يتسع المجال لذكرها جميعًا هنا.

على الرغم من الروايات التي أصدرتها رضوى عاشور إلى أن رواية الطنطورية التي صدرت في عام 2011 كان لها وقع خاص، فهي تحكي التاريخ الفلسطيني والتهجير والمجازر واللجوء الذي عانى منه أهل البلاد. ولا ننسى أن نذكر ثلاثية غرناطة التي أصدرتها في عام 1994، وقسمتها لثلاثية أولها "غرناطة"، "مريمة"، "الرحيل". وصنفها اتحاد الكتاب العرب باعتبارها أفضل رواية في القرن العشرين. ومما كتبته فيها "لم يودعوا الزيتون ولا اقتربوا من الحقول، فمن يملك قلبًا مدرعًا ليحدق في جذع زيتونة غرس شتلتها ورعاها وكبرها ورأى عقد الثمار عليها عامًا بعد عام، تهربوا من الزيتون، وغادروا في صمت وبلا سلام".

نالت رضوى  العديد من الجوائز، منها جائزة أفضل كاتب عن "ثلاثية غرناطة"، في عام 1995، وفي 2007 حازت على جائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان. إضافة إلى جائزة تركوينيا كارداريللي في النقد الأدبي في إيطاليا. وجائزة بسكارا بروزو عن الترجمة الإيطالية لرواية أطياف في إيطاليا.

رضوى عاشور وفلسطين

لا يذكر اسمها عادة إلا ويليه اسمه، ارتبطًا ببعضهما، لدرجة أن الجميع عرف بعلاقة الحب العظيمة التي جمعتها؛ فحين كتب مريد لحظة زواجهما "ضحكتها صارت بيتي"، لامس قلوب الجميع بجملته الجميلة. التقى الحبيبان في جامعة القاهرة، رأته وهو يلقي الشعر على مدرجات الجامعة فاعتزلت الشعر وتركته يقود هو الدفة؛ يكتب وهي تستمتع بسماعه، أحبها وأحبته فتقدم لها، ولكن عائلتها رفضته لأنه فلسطيني ولكن كان حبهما أقوى؛ فأصرت عليه وتزوجا في 22 تموز/يوليو 1970.

أفردت لفلسطين مساحة خاصة من روايتها؛ فكتبت بكل حماس، وسطرت روايات في التاريخ الفلسطيني، مرجعًا للجميع فها هي تقول في اقتباس لها: "فلسطين قضيتي بِقدر ما هي قضية العديد من المثقفين المصريّين. زواجي من فلسطيني جعل فلسطين أكثر حضورًا على مستوى التفاصيل اليوميّة لحياة الناس، لم تعد مجرد موقفٍ من قضية أثقُ في عدالتها وأنحاز لها، بل تجربة معيشة".

كان لها نشاطًا سياسيًا مساندًا للقضية الفلسطينية، وقتما كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات يوطد العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي في محاولة منه للتطبيع العلني، كانت رضوى تسهم في إنشاء "اللجنة الوطنية لمكافحة الصهيونية في الجامعات المصرية".


اقرأ أيضًا: وجيهة الحسيني: امرأة الثورة وصانعة الثوار


في وسط كل الكم من الإنجازات الأدبية والمساندة للقضية الفلسطينية بقلم رضوى وصوتها الحر، كان رفيق حياتها مريد البرغوثي بجانبها، فلا يذكر اسمها عادة إلا ويليه اسمه، ارتبطًا ببعضهما، لدرجة أن الجميع عرف بعلاقة الحب العظيمة التي جمعتها؛ فحين كتب مريد لحظة زواجهما "ضحكتها صارت بيتي"، لامس قلوب الجميع بجملته الجميلة. التقى الحبيبان في جامعة القاهرة، رأته وهو يلقي الشعر على مدرجات الجامعة فاعتزلت الشعر وتركته يقود هو الدفة؛ يكتب وهي تستمتع بسماعه، أحبها وأحبته فتقدم لها، ولكن عائلتها رفضته لأنه فلسطيني ولكن كان حبهما أقوى؛ فأصرت عليه وتزوجا في 22 تموز/يوليو 1970، كان مريد في مصر للدارسة وتخرج في عام 1967، وأُجبر قسريًا على البقاء مغتربًا.

ظل الحبيبان يعيشان باستقرار وهناء حتى كتب مريد في العام 1977 مقالًا استنكر فيه زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى فلسطين المحتلة، فاعتُقل، ورحلته السلطات المصرية آنذاك إلى المجر، وظل بعيدًا عن زوجته وطفله الذي ولد في العام نفسه، ظل مريد مغتربًا عن عائلته لمدة 17 عامًا، يأتيهم في الزيارات الصيفية فقط.

"لا وحشة في قبر رضوى"

IMG-20230822-WA0019.jpg
رضوى عاشور تتوسط زوجها مريد البرغوثي وابنهما تميم

كتبت رضوى كثيرًا وأبدعت في كل مرة، كنا نسعد بكل إنجاز لها إلى أن جاء الخبر الذي أحزن قلوبنا "رضوى عاشور مصابة بالسرطان".. هل هذا حقًا؟ هل شعلة الكتابة والأدب مصابة بالمرض الخبيث؟ غمرتها الدعوات من كل صوب وحدب وقتها، فصحبتنا في رواية "أثقل من رضوى" في مقتطفات من سيرتها الذاتية، حدثتنا عن الثورة المصرية عام 2011، والظروف التي مرت بها في حياتها، وطريقها مع السرطان الذي بدأ من حبة صغيرة خلف الأذن لتشخص بأنها ورم حميد تستأصله ثم يعاود الظهور، ثم اكتشتفت بأنها مصابة بورم بالدماغ، فتأخذنا نحو تفاصيل ما عايشته من ألم، تظل رضوى لمدة 30 عامًا تحارب السرطان، وقرر الأطباء استئصال جزء من جمجمتها للسيطرة على المرض، لكن المحاولات باءت بالفشل.


اقرأ أيضًا: أسمى طوبى.. قافية الناصرة وصوت القدس


انتهت بتدهور حالتها، واتخاذ الأطباء قرارًا باستئصال جزء من الجمجمة كإجراء وقائي، لكن المرض لازمها حتى وفاتها في عام 2014. وهنا جاءت اللحظة التي هزت قلب مريد البرغوثي وتميم، ظهر حبيبها واقفًا في جنازتها يعتصر ألمًا على رفيقة دربه الطويل، وظل وجه مريد حاضرًا بقوة في وجه كل من شاهد صوره في الجنازة وهو يستند على تميم؛ فطبع ندبة في القلوب، فلا أوجع من تشييع حبيب، وكتب يومها على حسابه الشخصي عبر "فيس بوك": "لا وحشة في قبر رضوى".

رحلت رضوى عاشور وظل الرفيق يعاني لوعة الفراق حتى لحق بها في العام 2021، وظلت سيرتهما العطرة وإنجازاتهم الذي أبدعوا فيها رصيدًا لهم، رحمة الله على الرفيقين.