بنفسج

بمؤبدي الحكم والحب.. "حسن وغفران يلتقيان على الورق"

الأحد 01 أكتوبر

في مساحة الصمت بين العين والورقة، في مسافة الفراغ بين الكلمة والأخرى، في اللحظة الفاصلة بين الدمعة والابتسامة، وفي النشوة المقسومة بين الكتابة والقراءة، تجلى لقاء "حسن" بـ"غفران". بضع سطور بعد الصفحة رقم (60)، تفجرت بالحبر بينها مشاعر مخطوبين على الورق المسافر عبر الحواجز العسكرية، هناك تبادل "حسن سلامة وغفران الزامل" كل شيء: لونيهما وطعاميهما المفضّلين وآراءهما في الفكر والسياسية، أسماء أبنائهما المنتظرِين وآخر الأخبار والأحداث، مشاعرهما ومكنونات نفسيهما وأوراد القرآن والصيام والقيام، تفاصيل حياة لا تحدها حدود ولا تمنعها حواجز.

الحب حرية

من ظلمة الزنزانة إلى قفص الحب الذي أعاد لـ"حسن" قيمة سكون الليل، وأصبح للقمر في قلبه منزلة يسترق إليه النظر لما يطلُ برأسه عابراً فضائه الضيّق من نافذة الزنزانة الملبدة بالشِباك المُحكم أعلى حدود الحائط. أجمل قصص الحب على وجه الأرض لا زالت تعيش في رسائل، ولا زالت "غفران الزامل" تتبادل قلبها مع "حسن سلامة" منذ ثلاثة عشر عامًا، لم يجمعهما سقفٌ واحد، ولم تتقابل أعينهما وجهًا لوجه، ولم تكن تعرف عن خطيبها سوى ما سمعه كل الفلسطينيين في نشرات الأخبار.

تكتب "غفران" كل أسبوع، فيحتجز السجان الظرف الورقي حانقًا، كيف له أن يسمح بمرور خطاب مُلغّمٍ بالحياة إلى مقيم في قبر مخصص للموت؟ وهكذا قرر كلاهما أن يجتمعا على الورق، أن يلتقيا بين السطور، أن يعيشا زمن الرسائل في عصر الـ"واي فاي".

ثمانية وأربعين مؤبدًا وثلاثين عامًا أُخر، وحكمًا بالإعدام عبر كرسي كهربائي يستقر تنفيذه في محاكم الولايات المتحدة الأمريكية، وخمسة آلاف يوم برزخي، وسجّان يديره ضابط عسكري متسلط، يكيل بغضب دولته بالجملة نحو جسد ومعنويات الأسير حسن سلامة 50 عامًا، كلها لم تحجب "غفران" عن الامتلاء بـ"حسن" المعتقل منذ العام 1997م.

من ظلمة الزنزانة إلى قفص الحب الذي أعاد لـ"حسن" قيمة سكون الليل، وأصبح للقمر في قلبه منزلة يسترق إليه النظر لما يطلُ برأسه عابراً فضائه الضيّق من نافذة الزنزانة الملبدة بالشِباك المُحكم أعلى حدود الحائط. أجمل قصص الحب على وجه الأرض لا زالت تعيش في رسائل، ولا زالت "غفران الزامل" تتبادل قلبها مع "حسن سلامة" منذ ثلاثة عشر عامًا، لم يجمعهما سقفٌ واحد، ولم تتقابل أعينهما وجهًا لوجه، ولم تكن تعرف عن خطيبها سوى ما سمعه كل الفلسطينيين في نشرات الأخبار، أو قرأه بعضهم في كتابه الذي ألّفه في سنوات سجنه الأولى.


اقرأ أيضًا: الشيخ حامد البيتاوي: رفيقة النضال ونصفه الآخر [2]


صفعة مدوية تليها أخرى صوبها "حسن" على وجه سجّانه، وكان ارتباطه بـ"غفران" واحدة من الصفعات، ففي كل مرة فُرضت عليه حربًا فَتحت في جسده نتوءاً جرت من خلالها دماؤه علناً، انتهت به منتصرًا بنفسه وبما تبقى من قوة جسده، وكما العادة يكمل طريقه ذهابًا وإيابًا مثقلًا بالأصفاد الحديدية نحو درجات تنزلق به إلى باطن الأرض، رائحة العفن المنبعثة من الأسفل تدله على عنوان قبره الجديد ليكمل فصول حياته البرزخية التي بدأها منذ 5000 يوم وأكثر.

عريس بالمراسلة

 
لم تعبئ ابنة نابلس بالرقم ثمانية وأربعين، ولا بتصريح دولة الاحتلال عن نيتها الاحتفاظ بأسر حسن سلامة إلى الأبد، واعتبرت كل ما سبق ما هو إلا وَهم لا يمكن تصديقه، تماماً بقدر اليقين الذي استوطن قلب "حسن" بأن خروجه من الأسر "قاب قوسين أو أدنى".
 
عُقد قلبيهما في الرابع من شهر نوفمبر عام 2010، عبر وساطات متعددة حملت إمضاء حسن وموافقة شريكته إلى المحاكم الشرعية، وأخذت الإجراءات تسير غيابيًا وحسن يقيم في زنزانته التي غَيّبت عنه تفاصيل دخوله معنوياً في "قفص الحب".
"عزل بطعم الحب" هكذا وصف "حسن" عزله الذي حلّت به حياة جديدة بانضمام خطيبته "غفران" إلى عالمه، وحدث ذلك من خلال مسؤولة ملف المعزولين "أحلام التميمي" لمّا أرسلت إليه برسالة مكتوبة بواسطة محامي، تقول بين سطورها بأنها تتكفل باختيار عروس له خلال وقت قريب، وتبعتها بأخرى تصف له تلك الفتاة وذيلت الرسالة على لسانها "لقد وهبَت نفسها لأجلِك".
في الطرف الآخر، كان هناك لونًا آخرًا من ألوان انتصارات "حسن" المُعلنة، فقد سُجن بتهمة ثأره المقدّس لاغتيال الشهيد يحيى عيّاش عام96م، فتعهّد على نفسه بأن لا يقع في الفخ المصمم له خصيصًا لأن يتحول إلى مريض نفسي أو مختل عقلي!، فابتلع من دمائه في محافل التحقيق حتى ارتوى، وشدّ من أزر قلبه في مطاحنها ليبقى الأقوى طيلة سنوات المبارزة داخل حلبة الزنازين.
وجه القوة الذي تقنّع به "حسن" سلب من "غفران" قلبها، فكانت "عمليات الثأر المقدس" سببًا في ملأ قلبها به حبًا وإعجابًا وتعلقًا، ما دفعها لاتخاذ قرارًا بالارتباط به، ضاربة بعرض الحائط قيود التقاليد، بعد أن تردد على مسامعها "رح يضيع عمرك انتظار".
342075d5a23e6a436e8c3e19af866999.jpg
خطيبة الأسير حسن سلامة برفقة عائلته في منزلهم بغزة وبرقة د. أحمد بحر

لم تعبئ ابنة نابلس بالرقم ثمانية وأربعين، ولا بتصريح دولة الاحتلال عن نيتها الاحتفاظ بأسر حسن سلامة إلى الأبد، واعتبرت كل ما سبق ما هو إلا وَهم لا يمكن تصديقه، تماماً بقدر اليقين الذي استوطن قلب "حسن" بأن خروجه من الأسر "قاب قوسين أو أدنى". عُقد قلبيهما في الرابع من شهر نوفمبر عام 2010، عبر وساطات متعددة حملت إمضاء حسن وموافقة شريكته إلى المحاكم الشرعية، وأخذت الإجراءات تسير غيابيًا وحسن يقيم في زنزانته التي غَيّبت عنه تفاصيل دخوله معنوياً في "قفص الحب".


اقرأ أيضًا: أنا وحسن... في معاني الحب الذي يجمعنا


مرّت الأيام وحان موعد "برنامج الأسرى" عبر المذياع "المهرّب"، وإذ بالهواء يتشح بزغاريد "أم حسن"، وأخذت أقسام السجن بزنازينه تقرع طبول الفرح على ظهر الأوعية والصحون البلاستيكية تكبيرًا وزغاريدًا، و"حسن" داخل زنزانته انكبت عليه الحيرة أيفرح أم يبكي لكونه "عريسًا بالمراسلة".

ومن لحظتها تحوّل الأسير سلامة إلى أديب يحاول تصفيف مشاعره برسائل مكتوبة على ورق يدسها تحت وسادته ليلًا ويعيد قراءتها صباحًا بعد ثلاثة أشهر من تأكده من ملامح خطيبته، عبر صورة وصلته من الصليب الأحمر، فوجد حياته تنقلب من عتمة الوحدة إلى نور الأنس بـ"غفران" ورسائلها الطويلة.

عناق يشبه القديم!

السنوات عادت بـ"أم حسن" إلى الوراء لأكثر من سبعة وعشرين عامًا، وقت أن تجهزت للقاء ابنها حسن من خلف عازل زجاجي، يومها جلست تنتظر قبل أن يأتي لمقابلتها "حسن" مقيّد الأيدي والأقدام، تحسست لحظتها ذلك العازل الزجاجي، وإذا به قد نُسي دون قفل، عادت إلى هدوئها ورتبت في مخيلتها أمرًا. أقبل حسن بقيوده وأعاد الجنود المرافقين له إحكام الأقفال ومن ثم ابتعدوا ليراقبوا اللقاء من بعيد، وإذ بأمه تفتح النافذة على عجل، شدّته بكل ما أوتيت من شوق لاحتضانه والامتلاء به ولو للحظات.

"غفران" المقيمة بمخيم العين في مدينة نابلس أصبحت شريكة "حسن" الذي تعود أصوله إلى مدينة غزة، لم تحسب حسابًا صغيراً لكل العقبات والحواجز التي تجبرها على البقاء بعيدة، ولم تهتز ثقتها بقرار الزواج من أسير لم يُفرج عنه في صفقة التبادل، فلاقت منعًا حاسمًا من زيارته ولو لمرة واحدة، وقوبلت بعد ذلك بمنعها من السفر إلى أي وجهة تريد.

معركة جديدة أجبرت غفران على القتال مجددًا لانتزاع حقها في السفر، فسجلت في تاريخ المعركة الطويلة عشر سنوات ذهابًا وإيابًا بين المحاكم "الإسرائيلية" فداءً لنيل حرية حركتها مِن وإلى الضفة، كل ذلك بتهمة ارتباطها بالفلسطيني الثائر صاحب بصمات الثأر المقدّس.

"أم حسن" سيطر الخوف على قلبها مجددًا، خشية أن يفشل زواج ابنها من غفران بمجرد الإفراج عنه لاستحالة وصول الأخيرة إلى أرض غزة، ولكن المستحيل تحوّل بعد عشر سنوات من المقارعة إلى حقيقة، فانتصرت "غفران" وانتزعت حقها بالسفر، ولكن المحكمة "الإسرائيلية" العليا منحتها قرارًا مشروطاً بعدم عودتها إلى الضفة المحتلة لسنوات.

ها هي "غفران" تخطو بشحمها ولحمها بيت خطيبها حسن لأول مرة أواخر شهر أغسطس من العام 2023م، وحدث العناق الذي صُنف في خانة الأحلام بأنه مستحيل، وامتلأت "المُسنّة أم الأسير" بغفران تمامًا كما لو أنها تمسكُ بجسد حسن.


اقرأ أيضًا: عيدي بانتظار حسن


السنوات عادت بـ"أم حسن" إلى الوراء لأكثر من سبعة وعشرين عامًا، وقت أن تجهزت للقاء ابنها حسن من خلف عازل زجاجي، يومها جلست تنتظر قبل أن يأتي لمقابلتها "حسن" مقيّد الأيدي والأقدام، تحسست لحظتها ذلك العازل الزجاجي، وإذا به قد نُسي دون قفل، عادت إلى هدوئها ورتبت في مخيلتها أمرًا.

أقبل حسن بقيوده وأعاد الجنود المرافقين له إحكام الأقفال ومن ثم ابتعدوا ليراقبوا اللقاء من بعيد، وإذ بأمه تفتح النافذة على عجل، شدّته بكل ما أوتيت من شوق لاحتضانه والامتلاء به ولو للحظات، ارتبك الجنود من حوله وتوشحت وجوههم بالخوف، ما أخرّهم عن اتخاذ خطوات لحظية، ولكن سرعان ما تصرفوا وأغلقوا نافذة العناق، وتجلى عناق "غفران" لأم حسن بذاك القديم، ونال "حسن" حرية قلبه بخطوات حبيبته إلى بيته.