بنفسج

أطفالنا شهدا..ء: بذور ثأر تصبح ثورة

الإثنين 16 أكتوبر

طفل صغير يحتمي بساقيّ أبيه ويحتمي كلاهما ببرميل أسمنتي، وسط وابل ثائر من الغبار وتبادل عنيف لإطلاق النار، ركد الصغير على أثره فوق ذات الساقين اللتين احتمى بهما، توقف صراخه وسقط شهيدًا دون حراك.كان هذا المشهد يملأ شاشات التلفاز بالمنازل في عصر اليوم الأخير من شهر أيلول/سبتمبر عام 2000؛ الوقت الذي لا يغيب عن بالي ومواليد التسعينيات جميعًا منذ اللحظة التي تابعنا فيها المشهد لأول مرة بعد أن التقطه المصور الفرنسي شارل إندرلان، وكان اسم الطفل الأكثر ترديدًا في كل مكان هو "محمد جمال الدرة".

لم أكن قد أتممت من العمر أربعة أعوام بعد، وأنا على ذلك أذكر كل تفاصيل هذا الحدث، وأذكر مدى تأثيره بأعماقي؛ جسدي الصغير المقشعر البارد ويداي المرتجفتان وفمي وعيناي المفتوحتان على اتساعهما من شدة الدهشة، كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يحول فيها هول الصدمة دون بكائي، كنت أصغر من كل هذا ولكن مثلي مثل كل أبناء جيلي يومها، ومثل بطل المشهد نفسه، كنا جميعًا صغارًا، ولم يتلطف بصغرنا هؤلاء الذين يملكون قلوبًا من حجر لا تعرف الرحمة طريقها!

القسوة ضد الأطفال بالتحديد ليست أمرًا جديدًا على الكيان الصهيوني، بل وأشعر أحيانًا أنها أمرٌ محبب يتلذذ به مرتكبوه، فدائمًا ما تستهدف المقاومة جنود الاحتلال أو رجاله فيرد جيش الاحتلال باستهداف أطفالهم. فعلى ما يبدو أن العنف ضد الأطفال مترسخ في سياستهم منذ وجدوا، فها أنا ذا أدون مقالي هذا بعد أسبوع من بدء "طوفان الأقصى"، وحصيلة الشهداء الفلسطينيين تجاوزت ألفين وخمسمئة شهيد من بينهم سبعمائة طفل.

وهذا يؤكد أنهم مستمرون في استخدام نفس السياسة الترويعية منذ ما يزيد عن ثلاثة وعشرين عامًا، بدأت أمام جيلي بقتل محمد الدرة وبث الحزن والهلع في نفوسنا صغارًا، ولن تنتهي اليوم مادام المجتمع الدولي مصرًّا على الكَيل بمكيالين.

يكيل العالم اليوم بمكيال مغاير، وفي مقدمته فرنسا التي بثت قنواتها مقطع مقتل الدرة قبل الجميع، يتهم العالم بمكياله الجديد الفلسطينيين بالإرهاب ضد الأطفال دون دليل أو سند، ويغمض عينيه عن جرائم الصهاينة المتكررة والمصورة على مر العصور في حق الأطفال والكبار؛ بالأمس كان "الدرة"، واليوم كفن كتب عليه بالقهر "أشلاء محمد وكِندة"!.

يصرف العالم عن جرائم الصهاينة في حق أطفال فلسطين وجهه، رغم ما يوثق بصور حية -في المقابل- من حفاوة وتدليل يُعامل به من يؤسر من أطفال الجانب الإسرائيلي. ويكيل بمكيالين حين يدعم أوكرانيا بكل ما أوتي من قوى ويتسابق من أجل توقيع أقسى العقوباتٍ الاقتصادية في حق روسيا؛ بينما يغض الطرف عن حق الفلسطينيين في حياة طبيعية خالية من حواجز التفتيش والقتل العشوائي المتعمد والاعتداء على المقدسات والإهانات المتلاحقة، والقصف والحصار.

ربما للكيان الصهيوني في هذه السياسة المريضة رؤية خسيسة بأن إرهاب الأطفال وترويعهم صغارًا؛ يُنشئهم وقد استقر بعقلهم اللاواعي أن الصهاينة هم المارد الذي ليس بالإمكان التصدي له، وأنهم أصحاب "الجيش الذي لا يقهر".

لكنهم لم يفهموا أبدًا أن سيكولوچية الطفل السويّ في بلادنا العربية تختلف كل الاختلاف عن سيكولوچية طفلهم الذي يترعرع على أرض منهوبة، ويستبيح ما ليس له في غير لوم من ضميره أو جلد لذاته لأنه وُلد ليجد هذا ديدن أبيه وأمه واجداده وقادة كيانه.

فالطفل المصري الذي كنته أنا ولا يسعني أن أحكي تجربة غيره، الطفل الذي حمل جده حجارة الأهرامات على مراكب الشمس متحملًا القيظ والحرارة، واحتضن أباه بين ذراعيه لبنات السد العالي، وعبر عمه قناة السويس في السادس من أكتوبر عام 1973 ليلَقِّن الكيان الصهيوني درسًا لا ينساه حتى بعد مرور نصف قرن، هذا الطفل لا يعرف عدوانًا لا يمكن التصدي له، ولا يفهم معنى لوجود صعاب لا تقهر أو عوائق لا تكسر.

فمثل هذه المشاهد القاسية وإن أثارت في نفسه لحظيًا دفقة من الهلع، فإنها تنمي لأعمار حميةً يصعب على عدوه تصورها ولا يقدِر على الصمود أمامها، لأنها مزيج من حمية جده أمام الهكسوس، وأبيه أمام جولدامائير، وحمية عروبته للثأر لحقه وعِرضه وإخوته ووطنه وأرضه، وحمية دينه -على اختلافه- للسلام والتسامح والمحبة.

كان "الدرة" هو أول محطة تعرفنا فيها أنا وأبناء جيلي تقريبًا على القضية الفلسطينية، ذهبتُ إلى روضة الأطفال في اليوم التالي لأجد أعلام فلسطين أثناء طابور الصباح تملأ فناء المدرسة يلوح بها زملائي، والشرطة المدرسية انقسمت إلى فريقين بعضهم تحمل أكتافه شالًا أعجبتني نقوشه، والبعض الآخر قد علّق شارة جديدة بجانب شارة علم مصر؛ حين سألت أبي عنهما وقتما جاء لاستلامي من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي، أخبرني أن الشال هو الكوفية الفلسطينية وأن الشارة تمثل المسجد الأقصى.

كل هذا بدا لي عاديًا حينها وإن كان بعضه غير مفهوم، ما فاق العادي وما كان جد مبهرًا هو أصوات زملائنا من الكبار في وقت استراحتهم مجتمعة في الفناء تهز جدران بنايات المدرسة هزًا، وكاد يقلعها من أماكنها، تردد "بالروح بالدم نفديكِ يا فلسطين"، وتردد بين الهتاف والآخر اسم صديق جيلنا الشهيد "محمد الدرة" في غير انقطاع.

نحن معكم لأننا جيل كبر وكبرت داخله هذه القضية لتكون دائمًا أغلى وأشرف ما في حياته، ولأن مصر بقادتها وشعبها أكثر من يدرك قيمة الحضارة، ولا أحد على وجه الدنيا يفوقها تقديرًا للأرض وحبًا لها.وفي غير انحياز لمصريتي؛ لكن تكمن في صدور المصريين جواهر حقيقية، قلوبهم ترفض الباطل من تلقاء نفسها، ويمسح صدأ الحياة عن ظاهرها كلُ حادث جلل ليُظهر النفوس التي لم تلوثها السنون وبقيت ملأى بالخير والنخوة والحمية للحق. نحن معكم، وليس بإلإمكان ألا نكون!

كان مقطع استشهاد الدرة حديث وسائل الإعلام المتمثلة في القناتين المصريتين الأولى والثانية لمدة لا تقل عن شهرين، وفي أول جمعة عقب وقوع هذا الحدث المأساوي، كانت سيارات الهلال الأحمر تجوب الطرقات منادية بجمع التبرعات لدعم انتفاضة إخوتنا المقاومين في فلسطين.

وكان آباؤنا يدفعوننا بالأموال -متعمدين- لنركض سريعًا لتسليمها لهم فرحين أننا بهذا نساعد إخوتنا في الثأر للدرة واسترداد حقهم في أرضهم وحياتهم.على مر السنين كان موقف مصر وحكومتها وجيشها وشعبها من القضية الفلسطينية داعمًا ثابتًا لا يتغير، لذلك فالطعن فيه اليوم أمر مرفوض، والمزايدة عليه وقاحة كبيرة!

مصر لم تتوانَ أبدًا عن نصرة هذه القضية منذ يومها الأول، وكلي يقين أنها لن تفعل مطلقًا. ففلسطين هي جزء أصيل من مصر، وجزء يفخر المصريون باستقراره في قلوبهم، نفخر بصموده، ونعتبر أمنه من أمننا، ونقتسم استقراره وسلامه إذا ما كان مستقرًا سالمًا.نحن معكم، ندعمكم بكل ما نقدر عليه، ستمر الأيام وربما نقف إلى جانبكم في وجه الصهاينة كتفًا إلى جوار كتف كما حدث سابقًا!

نحن معكم لأننا جيل كبر وكبرت داخله هذه القضية لتكون دائمًا أغلى وأشرف ما في حياته، ولأن مصر بقادتها وشعبها أكثر من يدرك قيمة الحضارة، ولا أحد على وجه الدنيا يفوقها تقديرًا للأرض وحبًا لها.وفي غير انحياز لمصريتي؛ لكن تكمن في صدور المصريين جواهر حقيقية، قلوبهم ترفض الباطل من تلقاء نفسها، ويمسح صدأ الحياة عن ظاهرها كلُ حادث جلل ليُظهر النفوس التي لم تلوثها السنون وبقيت ملأى بالخير والنخوة والحمية للحق. نحن معكم، وليس بإلإمكان ألا نكون!

أما عن النزوح والتهجير، فأرض مصر رحبة تسع الجميع، ولا تضيق بجارٍ أو أخ، وبيوتنا مفتوحة لكم وفي خطو أبطال مثلكم عليها شرف لا يضاهيه شرف، ولكن أرى في الحديث عن هذا في وقت كهذا استهانة بعزتكم وصمودكم وتضئيلًا لجهادكم وتجاهلًا لوعيكم.

يهدد الصهاينة بالإبادة أو التهجير، ولكننا -نحن العرب- نعلم جيدًا أن القادر على شيء لا يهدد به؛ إنما يهدد الجبان المكبل العاجز.وهم يطلبون التهجير لأمانهم لا أمان غزة وأهلها، وليس لخوفهم على المدنيين بل لرعبهم منهم؛ ولأننا عرب فنحن نعلم أيضًا ألا نصيحة مقبولة من عدو في الحروب!

يا أهل فلسطين!

الأرض كالبشر تحب وتكره، وتحارب مع أبنائها، وأرضكم معكم تحبكم وتحب وقع أقدامكم على سطحها، وتتمسك بها ثابتة فوقها، كل ما على أرضكم يحبكم، حتى أنني أكاد أرى شجر الزيتون في أرضكم يأبى أن يستظل به جنود الصهاينة.

وقد فعلتم ما تهتز له القوى العظمى فما بالكم بإسرائيل؟! الدولة الوهمية المجبولة على الخوف، يستهدف رجالكم جنودها فتستهدف أطفالكم، صغاركم، وأضعف من فيكم، رغم عتادهم!

لكن لا حرب يحسمها العتاد، إنما تحسم الحروب باليقين، ولا أكثر منه في قلوبكم، ولا أقوى منكم فيه أحد، فإننا عرب ذوو جذور ثابتة وأصول عريقة لا ننفضّ عن جيوشنا ومحاربينا إذا ما طالنا من حربهم ضرر ولو كان جسيمًا.

أما هم فالفرار لا يليق إلا بهم، صورهم يملئون مطار بن غوريون ذكرتنا بالمتشبثين منذ زمن ليس ببعيد في الطائرات في كابول، هم لا يحاربون في سبيل حلم أو حق أو وطن أو أرض يفدونها بأرواحهم بل يتناوشون من أجل وهم يسخطون على جيشهم ويتذمرون من حكومتهم وحياتهم كلها إذا ما تأخروا في انتصارهم له أو عز عليهم ثمنه!

يا أهل غزة!

لن أدعوكم إلى الصمود، فمن أنا لأدعوكم أنتم له وقد ضربتم فيه خير مثل، ولن أنصح بشيء فأنتم بحالكم أعلم، وعلى أي حالٍ تؤول إليه هذه الأيام ستبقون أنتم أول أبطال الحكاية.ولكن اطمئنوا؛ الله معكم، والأرض معكم، والقدس معكم، ونحن معكم، لن يغلبكم قومٌ كتب الله عليهم التيه السرمدي فلم يقبلوه، ولم نسمع قبلًا عن حرب انتصر فيها لص خسيس تود الأرض التي يمشي فوقها لو تلفظه!

وإلى العدو أقول: مهما حاولت تهجيرهم وإبادتهم، لن ينقطع نسلُ الذين تمنعك محاولاتُهم للحياة عن الحياة، ويُزلزل وجودهم كيانك؛ ولو لم تُبقِ منهم رجلًا واحدًا ستبقى أطيافُ أرواحهم تطاردك ولا تُغمض لك جفنًا.كل عَبرةٍ ذُرفت اليوم بسبب جرائمك بحقهم؛ ستستحيل لهبًا لا يُخمده غير دموع استسلامك وخِزيك راحلًا عن أرضهم.

كلُ روحٍ نال صاحبها الشهادة غادرت جسد صاحبها لتنفخ في ألف من بعده، من بني أرضه ومن بني عروبته ومن بني دينه ومن بني آدم؛ ألفٌ يحبون الموت في سبيل الله والوطن قدر ما تحب أنت والتائهون معك الحياة من أجل وَهم، وربما أكثر!

"أدري بأنك لا تخاف الطفل حيًا..

إنما أدعوك صدقًا؛ أن تخاف من الصغار الميتين".