بنفسج

نصفنا الموجوع في غزة: حديث الحنين لزميلات العمل

الإثنين 01 يناير

فريق بنفسج في قطاع غزة.
فريق بنفسج في قطاع غزة.

منذ اليوم الأول للحرب وأول شيء أفعله هو إرسالة رسالة واتس آب إلى صديقتي التي تعيش في حي الجرن في جباليا، منى، هل أنت بخير؟كانت منى ترد في الأيام الأولى للحرب، ولكنها لم تعد تفعل بعد مدة قصيرة بعد انقطاع الاتصالات وشبكة الإنترنت. ولكنني لا أزال أرسل رسالتي، ربما تجيب، وبالفعل كنت أتلقى منها ردًا بعد أسابيع. وأعيد كرتي:" منى طمنيني عنك؟"،  فتقول "الحمدلله نحن بخير، وأحيانًا تقول: ادعولنا، وأخرى: نحن ننتظر دورنا."

بعدها صرت أرسل لها: "منى ماذا تأكلون؟ هل هناك طعام؟ هل هناك طحين؟" فإذا أجابت تقول: "نبحث طويلًا حتى نجد طحينًا وقد تضاعف سعره في الأسابيع الأولى من الحرب."عندما اشتد القصف على جباليا صرت أرسل لها: منى أين أنت؟ فتقول:" اتصلوا بي وطلبوا إخلاء البيت ولكننا لن نفعل، سنبقى في بيتنا ولن نغادر، إلي طلع اتبهدل!"

أرسل لمنى: منى هل لا زلتم في جباليا؟ لقد انطحنت جباليا ولم يبق فيها شيء، لا دكان، ولا بيت، ولا مشاة! فتجيب منى بعد أسابيع: "لقد نزحنا إلى بيت خالاتي في خانيونس، أربعين شخصًا في بيت واحد! يا إلهي وإذا تعرضتم إلى قصف هل تذهبون جميعًا؟!"انقطعتُ عن منى أسابيع طويلة، فصرت أستحي من السؤال عن الحال، لأنها مهما حدث ستقول الحمدلله! بت أرسل لها، منى أرسلي لي نقطة، سأعلم أنك على قيد الحياة.

منى الأميطل.jpg

وتمر أسابيع أخرى فتجيب وتقول: " لقد عدنا إلى بيتنا في الجرن ولن نغادره مهما حصل، لا أسواق ولا بضائع، ولا طعام ولا مياه حلوة، ولكننا لن نغادر بيتنا... وفي رسالة لاحقة أرسلت لي تقول إنها تحلم بأن تعود لحياتها، وتتمنى أن تتمكن من الذهاب إلى البحر، وأن ترجع إلى عملها الروتيني الممل، وأن تقول: صباح الخير على مجموعة العمل كما كانت تفعل كل يوم!" بعدها انقطع الاتصال بمنى نهائيًا، لأن الاتصالات مقطوعة أولًا، ولأن منى ربما لم تعد تشعر بالفضول لسماع شيء أو تلقي رسائل من أحد ثانيًا، فلا تشحن هاتفها ببطاقة الإنترنت ذات البث الشحيح!

صديقتي الثانية اسمها آلاء، كانت أكثر اتصالًا بالشبكة لوجودها في مناطق الجنوب القريبة من الحدود المصرية، وهذه المناطق لم تكن مستهدفة في بداية الحرب، وأصبحت كذلك بعد ذلك، كنت أطمئن على آلاء وأهلها وعلى منى كذلك من خلالها، في حال استطاعت الوصول إليها. آلاء كذلك أسألها عن حالها وأهلها فتقول: الحمدلله، نحن بخير ادعولنا...

قبل وقت قصير كنت أرسل لآلاء فلا تجيب، وطالت مدة غيابها، فعلمت أن الاتصالات مقطوعة، فبرد قلبي قليلًا، وإذ بي أتفاجأ بعد ذلك بقراءة خبر عاجل مفاده استهداف عائلة الهمص في جنوب القطاع وأن 11 منهم استشهدوا، انتفضت وعلم شيء ما في داخلي أن آلاء أصيب في هذا القصف. حاولت معرفة الأخبار من أصدقاء صحافيين في غزة لعلهم يأتون بخبر، وبالفعل تمكن احدهم من السؤال في المستشفى وإذ بآلاء مصابة في العمود الفقري وكسر في قدمها، وأنها لا تستطيع الحراك. واستشهدت والدتها وإخوتها وحفيدتهم، فأي مصاب جلل هذا، وكيف تستطيع مواساة أصدقاء لك عبر رسالة؟

الصحفية آلاء الهمص.jpg

عندما تسنى لها أن ترد صدمت  أنها حامل، وكنت أعلم أنها نتنتظر هذا الحمل منذ سنين طويلة، فصارت رسائلي عن جنينها، وعن قلبها من بعد أهلها، فتجيبني أنها تشعر بحركته ولكنها لا تستطيع الذهاب إلى المشفى بسبب تأذي عمودها الفقري، سألتها عن الألم، فقالت: لم أشعر بشيء، انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، صحوت وأنا أمسك بقضيب خشية الوقوع، سألت الناس عن أهلي، وإذ بي في المستشفى... بعد أيام قالت لي: كنت خلال أيام الحرب دائما ما أشعر أن العودة لحياتنا الطبيعية باتت حلما صعب المنال ..انتهت الهدنة وصرت كلما جاءني هذا الاحساس أرفع يداي بالدعاء. وأقول "اللهم لا تفجعنا في أحبابنا ..اللهم لا توفنا إلا وأنت راض عنا".

ثم فجعنا بأحبابنا، وارتقت أمي مع ثلة من أخوتي وأبنائهم شهداء، وأصبت أنا بكسر في العمود الفقري وأدركت فعلا أن العودة إلى حياتنا ما قبل الحرب أصبحت شيئا مستحيلًا.

في الحقيقة، أعترف أني كنت أسأل صديقاتي في غزة بإلحال للإجابة عن تساؤلات كثيرة في عقلي؛ كنت أتساءل عن إحساس الإنسان وهو ينتظر الموت؟ عن الخوف أثناء تساقط أطنان الصواريخ، وعن حجم الألم الذي يصاب به أحدهم بعد تلقيه شظية أو انهيار حائط فوقه، هل يكون مغيبًا أم يشعر أنه كابوس مقيت. هل تشعر إحداهن بالحزن على أهلها أم على جنين في أحشائها، أم على جسد منهك جائع؟ وكم يصعب تحمل كل هذه الآلام على نفس بشرية وجسد من لحم ودم. في كل صباح، نحلم أن تعود منى وأن تعود آلاء وأن تقرآنا السلام كل صباح فنعلم أن الدنيا أصبحت بخير!