بنفسج

فكر الإبادة الصهيوني: الجذور العقدية والأساطير المؤسسة

الثلاثاء 06 فبراير

" دمّر أماكنهم المقدسة واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم… تلك قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيلين النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب الأخلاقيات المدمرة التي اخترعها الإنسان".

بهذا الجلاء، يُعرِّف الحاخام الصهيوني مانيس فريدمان -في حوار مع مجلة مومنت اليهودية الأمريكية 2009، الأساس النظري للإبادة التي تمارس في فلسطين. وهو ومن معه حاخامات آخرين وسياسيين ومفكرين وكتّاب لا يعبرون عن وجهة نظر شخصية، وإنما عن واجب "ديني توراتي مقدس" في "كتابهم المقدس"، بوصفه مرجعًا تاريخيًا يجب تكرار أحداثه التاريخية لتتحقق إرادة السماء في الأرض، التي وعدهم بها "الكتاب" وأورثهم إياها.

يمثل يشوع بن نون الشخصية التوراتية الأبرز لقادة المشروع الصهيوني، من رئيس وزرائهم الأول بن غوريون الذي قال: "لا بد من وجود استمرارية من يشوع بن نون، إلى جيش الدفاع الإسرائيلي"، وصولًا إلى نتياهو الذي كرر ذكره في أكثر من مناسبة. بالبحث قليلًا عن الشخصية، تجد في سفر يشوع بأن يشوع عند اقتحامه أرض كنعان ( فلسطين التاريخية) مع جيشه من بني إسرائيل، لم يبقوا عرقًا ينبض بالحياة في كل المدن التي اقتحموها.

هذه الادعاءات والافتراءات على نبي الله يشوع بن نون -بما نُسب له من جرائم إبادة واستئصال للآخر المغاير -محاولة تغليف خطيرة للفظائع الصهيونية بنصوص توراتية ملفقة على نبي الله وتسخير تلك "النصوص الدينية" لشرعنة جرائم الإبادة المستمرة التي يرتكبونها بحق الأرض والشعب الفلسطيني في غزة. وهم إذ يستدعون تلك النصوص الملفقة إنما يحاولون إلباس الإبادة "بالدين"، فتكون جرائمهم امتثالا لنصوص "كتابهم المقدس".

" دمّر أماكنهم المقدسة واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم… تلك قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيلين النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب الأخلاقيات المدمرة التي اخترعها الإنسان".

إلى جانب يشوع بن نون، ترددت على ألسنة حاخامات وكُتّاب وسياسيين صهاينة -على رأسهم نتنياهو- أسطورة "عماليق"، التي – على الرغم من افتقارها لأي سند تاريخي- إلا أنها تعتبر الرمزية الأكثر شيوعًا في الفكر الإبادي الصهيوني، وتشرح بوضوح الرؤية الصهيونية في التعامل مع الآخر "المغاير".

تقول الأسطورة إن عماليق سكنوا شبه جزيرة سيناء وجزءًا من أرض كنعان (فلسطين)؛ فأكثروا حرب أنبياء بني إسرائيل حتى أمر "يهوه" ( الإله التوراتي) النبي موسى باجتثاث ذكرهم عن الأرض، ومحاربتهم جيلًا بعد جيل، فأتى الأمر بعد ذلك إلى النبي صموئيل بإبادة قوم عماليق ودوابهم وكل ما ينبض بالحياة في بلادهم.

"عماليق" إذن، تمثل ذروة الشر في التقاليد اليهودية، وهي تستخدم من حاخاماتهم وعوامهم وسياسييهم للتعبير عن مصير الشعوب التي تهدد الوجود اليهودي، ولعل ما يجري على أرض غزة اليوم من جرائم هي التجسيد الأبشع لسردية "عماليق" (الشعب الفلسطيني)، الواجب إبادتهم على يد شعب الله المختار!

بالنظر إلى كثافة الإجرام الصهيوني في غزة نجد تكاملًا تامًا لأركان الإبادة الجماعية، إذ عمد الصهاينة لصنفين من التدمير الشامل إنتاج فعل الإبادة: الأول إبادة المكان من خلال تدمير المساجد والكنائس والمستشفيات والمخابز وكل مظاهر الحياة، أو ما يعين عليها. والثاني إبادة السكان من خلال ارتكاب مذابح بشرية تعيد للذاكرة نكبة 1948، وما ارتكبته عصابات الهاجاناة من جرائم إبادة نتج عنها تهجير مئات آلاف الفلسطينيين الذين اقتلعوا من مدنهم وقراهم، لجعل أرضهم بلا شعب توهب "لشعب" لم تكن له أرض، حسب ما روج هرتزل من قبل، ولا زالت الأبواق الصهيونية من ورائه تردد.

تقول الأسطورة إن عماليق سكنوا شبه جزيرة سيناء وجزءًا من أرض كنعان (فلسطين)؛ فأكثروا حرب أنبياء بني إسرائيل حتى أمر "يهوه" ( الإله التوراتي) النبي موسى باجتثاث ذكرهم عن الأرض، ومحاربتهم جيلًا بعد جيل، فأتى الأمر بعد ذلك إلى النبي صموئيل بإبادة قوم عماليق ودوابهم وكل ما ينبض بالحياة في بلادهم.

لقد عمد الخطاب الصهيوني في حربه المتوحشة على غزة إلى إعادة إبراز مكوناته التاريخية المتمثلة في احتكار الضحية، ومعاناته التاريخية في الشتات في مختلف البلاد. هذه السردية، وحتى تحقق الوعد المزعوم بالعودة إلى "الأرض الموروثة "(فلسطين)، لا بد أن تكون الأرض خالية من البشر، وعلى هذا ارتكزت استراتيجية الكيان بتهجير وتفريغ غزة من أهلها. على أن فشلها المستمر في ذلك يعني توجهها إلى استراتيجية إبادة "العماليق" (الفلسطينيين)، وهذا تمامًا ما قاله بن غوريون 1937 "إنني أدعم الترحيل بالإكراه، ولا أرى فيه أي شيء غير أخلاقي"، وهو ما تمثل سابقًا بالنكبة، ويراد له أن يفرض اليوم في غزة.

ختامًا…

على الرغم من تعارض الصهيونية، بوصفها حركة علمانية مع التوراة وبوصفها نصًا "دينيا"، إلا أن ذلك لم يمنع المشروع الصهيوني وقادته من توظيف الثانية في خدمة الأولى، فلجأ المشروع الصهيوني لشرعنة جرائمه في فلسطين إلى نصوص توراتية محرفة نسبت بهتانًا إلى نبي الله يوشع بن نون، أو لأساطير تفتقر لأي سند تاريخي لتجعل إبادة الشعب الفلسطيني "العماليق" واجبة كونه يمثل الآخر المغاير لها، ولتحقيق إرادة السماء لهم في العودة إلى الأرض ( فلسطين) التي وعدوا بها في "كتابهم المقدس". إن هذا التغليف الممنهج والخطير لجرائم الإبادة المتواصلة على الشعب الفلسطيني، ليس بمستحدث وإنما هو قديم قدم مشروعهم، ولكن السابع من اكتوبر أعاد إبرازه من جديد ليذكر العالم أن شعبًا يُباد من مئة عام ويزيد، وما نراه في غزة اليوم ما هو إلا تركيز مكثف له ينذر باندثاره على صخرة صمود أهلها الأماجد ومقاومتهم الباسلة.

——————————————

[١] كتاب الجريمة المقدسة، عصام سخنيني، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.

[2] تُنشر هذه المادة بالتعاون مع موقع إطار