بنفسج

استشهاد الصحفية آلاء الهمص: القصة الكاملة

الجمعة 16 فبراير

لماذا لا يستجبون حين نرجوهم قائلين.. لا ترتحل، يأخذون بضعًا من أرواحنا معهم، يخبئونها تحت صدورهم، يوارنها التراب، ليعيدوها إلينا يوم اللقاء ...نحن أشباه البشر بعد الفراق، بعضنا غادر معهم، وبعضهم فينا ينشد أماكنهم الخاوية، صباحاتهم، أمانينا وضحكاتهم...

نرثي اليوم أرواحنا، بعد أن غادرتنا الصديقة آلاء الهمص، شهيدة إلى جوار ربها، بعد أن قتلها الاحتلال ببطئ، قُصف المنزل للمرة الأولى، فنجت وجنبنها بأعجوبة، أصيبت بكسر في العمود الفقري، فقدت أمها وعشرة من أفراد عائلتها، لم يسمحوا لها بوداعهم، فقالوا:" أشلاء ما راح تقدري تشوفيهم".

صبرت واحتسبت، وأصرت على الحياة، لأجل ابنها عبدالله، وجنينها الذي لم ير النور بعد، وبنات أخوها الصغيرات، فقررت أن تكون الأم لهم جميعا. حاولت السفر للعلاج، أرسلت رسائلها للعالم، تريد الحفاظ على جنينها، وإكمال رسالتها في الحياة، فلم يأذن لها المحتل، ولم يستجب لندائها عالم متخاذل.

قُصِف المنزل للمرة الثانية، استشهد من بقي من أفراد عائلتها، وأُصيبت وابنها عبدالله بإصابات خطيرة. مات الجنين، بقي ميتًا في رحمها لأيام، خاف الأطباء إخراجه، فيتأذى ظهرها وتصاب بالشلل، أخيرًا خرج إبراهيم للحياة، ولكنه خرج ميتًا، لتحق به أمه بعد أيام ... لم تنته الحكاية، الكثير من العجز في ثنايا هذه القصة، الذي قابلته آلاء بالكثير من الصبر والرضا، ليسطفيها الله، شهيدة مختارة.

استشهاد الصحفية آلاء الهمص: القصة الكاملة

لماذا لا يستجبون حين نرجوهم قائلين.. لا ترتحل، يأخذون بضعًا من أرواحنا معهم، يخبئونها تحت صدورهم، يوارنها التراب، ليعيدوها إلينا يوم اللقاء ...نحن أشباه البشر بعد الفراق، بعضنا غادر معهم، وبعضهم فينا ينشد أماكنهم الخاوية، صباحاتهم، أمانينا وضحكاتهم...

نرثي اليوم أرواحنا، بعد أن غادرتنا الصديقة آلاء الهمص، شهيدة إلى جوار ربها، بعد أن قتلها الاحتلال ببطئ، قُصف المنزل للمرة الأولى، فنجت وجنبنها بأعجوبة، أصيبت بكسر في العمود الفقري، فقدت أمها وعشرة من أفراد عائلتها، لم يسمحوا لها بوداعهم، فقالوا:" أشلاء ما راح تقدري تشوفيهم".

بدأت القصة مبكرًا، منذ استيقظنا باركًا يوم السابع من أكتوبر، كُنّا نظن أنه يوم عادي، مشروب صباحي، وتسجيل دخول للعمل، انصراف، أعمال منزل، روتين معتاد، ولكنه كان يومًا استثنائيًا شهدناه كما شهده العالم، كانت آلاء سعيدة بذلك اليوم، تجمع صور والفيديوهات وترسلها إلى " جروب الشغل"، نتبادل الاندهاش والضحكات، قالت منى- إحدى الزميلات من غزة-:" والله شكلها راح تقوم الحرب، كل الناس في صارت في المخابز، والمحلات، بتموّن للحرب."

مضى يومنا بين ذهول واندهاش، نترقب بخوف، ومضت بعضها الأيام وقد انقطع الاتصال جزئيًا بأعضاء الفريق في غزة، آلاء في الجنوب في رفح، ومنى في الشمال في جباليا، ونحن بينهما في الوسط نعمل، ونحاول الاطمئنان عليهّن، كُنا حين نتحدث مع آلاء، تقول: " نحن في الجنوب الأمور عندنا أهون، احكوا مع منى، اطمنوا على منى، منى الوضع عندهم بخّوف." لم تمل آلاء من قول هاتين الكلمتين في كل مرة نتحدث معها فيها، اطمنوا على منى، منى بخير؟ نحن الأمور عندنا أهون.

" القصف كان مفاجئ، سمعت صوت قوي جدًا، وبعدها كان في ضوء قوي جدًا، وبعدها ما عرفت ايش صار، صحيت لقيت حالي ماسكة في قضيب حديد، وحوالي ناس كثير، سألت عن أهلي قالولي الكل بخير، ونقلوني إلى المستشفى".

مساء الثالث من ديسمبر 2023، حدث عكس ما هو متوقع تمامًا، أرسلت لي منى رسالة نصية تقول فيها:" بقولوا آلاء انقصف بيتهم، وآلاء مصابة، ومستشهد كثير من أهلها"، أرسلت لي هذه الرسالة، لينقطع بيني وبينها الاتصال لمدة أسبوع على الأقل، وتبدأ رحلتنا في البحث عن الخبر اليقين، ماذا حصل مع آلاء؟ هل حقًا أُصيبت؟ بدأنا نحاول الوصول إلى أي أحد من طرفها، أي صحفي موجود في المستشفى، نترقب أي خبر يأتينا عبر منصات التواصل الاجتماعي، حتى بدا الخبر حقيقة، آلاء مُصابة إصابة ليست خطيرة، ولكنها في مكان حرج، في آخر فقرات العمود الفقري، وفقدت 10 من أفراد عائلتها، أي كل من كان في المنزل قد استشهد، تبقى من أهلها من لم يكن في المنزل في تلك الليلة، والدها، واثنين من أخوتها، وأبناء أحد إخوتها، الذي استشهد وزوجته، وبقيت الطفلات الصغيرات.

لحسن الحظ كانت آلاء وابنها عبدالله البالغ من العُمر 15 عامًا، في الطابق العلوي، لذلك نجيا من الموت، وعن هذه اللحظات تقول آلاء:" القصف كان مفاجئ، سمعت صوت قوي جدًا، وبعدها كان في ضوء قوي جدًا، وبعدها ما عرفت ايش صار، صحيت لقيت حالي ماسكة في قضيب حديد، وحوالي ناس كثير، سألت عن أهلي قالولي الكل بخير، ونقلوني إلى المستشفى".

تفاصيل ما بعد الإصابة الأولى

جثمان الشهيدة الصحفية آلاء الهمص.jpg
جثمان الصحفية الشهيدة آلاء الهمص 

فترة من الانقطاع الجديد عشناها، ونحن لا نعلم الكثير عن أحوال آلاء، سوى أن إصابتها ليست خطيرة، وأنها تخضع للعلاج في مستشفيات القطاع، وأنها بحاجة للسفر للعلاج حتى لا تسوء حالتها، وأنها حتى لا تستطيع الوصول إلى مستشفيات شمال القطاع، حيث الرعاية الصحية أفضل قليلًا، وإن كان القطاع الطبي في غزة في حالة انهيار كامل.

بعد أسبوع من الإصابة تقريبًا، استطعنا التواصل مع آلاء من جديد، بعد أن استطاعت استخراج شريحة إلكترونية جديدة، بدل تلك التي بقيت تحت أنقاض المنزل، أخبرتنا أنها بخير وتتماثل للعلاج، بدأت تسطيع المشي بمساعدة من حولها، وباستخدام المشدات الطبية، أخبرها الطبيب أن ما حدث معها كان معجزة بحد ذاتها، أن لا يصاب جنينها بأذى وهي في شهرها السادس، وأن الإصابة لم تصل إلى الحد الذي تفقد فيه الإحساس بأطرافها...

فحمدت الله كثيرًا واسترجعت، وقالت: " على الأقل أقدر أتحرك، وأقوم باحتياجاتي واحتياجات ابني عبدالله، وطفلي القادم، وبنات أخوي الصغيرات، الي ما ظل إلهم حدا، إلا أنا، راح أكون الأم إلهم، كان نفسي بس أودع أمي، وأبوس إيدها، حتى هاي ما كانت متاحة، خبروني إنهم أغلبهم أشلاء، لهيك ما راح أقدر، ما ودعت إلا بنت أخوي الصغيرة الطفلة، هي الوحيدة الي كانت سليمة، ومش أشلاء."

بحثت آلاء عن الأمل حتى وجدت طرفه، فهي تسعى للسفر والعلاج، ورتبت أوراقها الصحية، وسجلت "فيديو" طُلِب منها للحديث عن حالتها الصحية، ليساعدها في السفر للعلاج..
 
أخبرتني قائلة:" أنا صرت في الشهر السادس، ممكن يولدني على السابع، وبعدها أعمل العملية وأركب بلاتين في ظهري، أنا خايفة لا سمح الله أثناء الولادة هُنا في غزة، وفي ظل انعدام الأدوات الطبية يتأذى ظهري، ويحدث ما كنتُ أخاف منه."

وهُنا يطول حديث الفقد، الصبر والتصبّر، استحضار معاني الصبر والثبات، الاصطفاء والشهادة، واللقاء الأبدي، كانت آلاء ثابتة انفعاليًا، لا تتلفّظ إلا بكلمات الرضا والاحتساب، كانت تتمنى أن تعود الحياة كما كانت قبل السابع من أكتوبر، ولكنها كانت تعلم في داخلها أن هذا لن يحدث، وأن قبل هذا التاريخ ليس كما بعده، وأن عليها أن تنظر للأمام، لحياة خالية من أمها وأخواتها، ومن بيت عمرته الذكريات والحكايا، فقد ذهب بيت العائلة كما ذهب نصف العائلة، والآخرة خير وأبقى.

بحثت آلاء عن الأمل حتى وجدت طرفه، فهي تسعى للسفر والعلاج، ورتبت أوراقها الصحية، وسجلت "فيديو" طُلِب منها للحديث عن حالتها الصحية، ليساعدها في السفر للعلاج، أخبرتني قائلة:" أنا صرت في الشهر السادس، ممكن يولدني على السابع، وبعدها أعمل العملية وأركب بلاتين في ظهري، أنا خايفة لا سمح الله أثناء الولادة هُنا في غزة، وفي ظل انعدام الأدوات الطبية يتأذى ظهري، ويحدث ما كنتُ أخاف منه."

حديثنا لم ينقطع لأيام، كيف حالك يا آلاء، أنا بخير الحمدلله، ناقصك اشي بقدر أعملك اشي؟ أجابتني ذات مرة أنها بحاجة لملابس شتوية دافئة، لأن كل الملابس قد ظلت تحت ركام المنزل، قالت لي أنها بحاجة " لترينجات أو بجامة شتوية دائفة، على أن تكون مفتوحة من الأمام، لأنها لا تستطيع تبديل ملابسها إلا وهي مستلقية على ظهرها، ولم أُكذب خبرًا، حاولت جاهدة، وأنا أقول في نفسي، هذا أمر بسيط، ممكن بسهولة أن أساعدها فيه، سعيدة كنتُ لأنني سأقدم لها شيئًا، تحدثتُ مع كل من أعرف، ولم أستطع أن أساعدها حتى في هذه، رحلت آلاء وهي ترجو أن تجد ما تدفئ به نفسها.

حديثنا الآخر.. حتى الاستشهاد

جنين الشهيدة الصحفية آلاء الهمص.jpg
جنين الشهيدة الصحفية آلاء الهمص 

على عكس العادة، كانت آلاء هي من بدأت معي الحديث هذه المرة، فقالت:" آلاء بس حبيت أطمنك، أنا رحت على المستشفى اليوم، وعملت فحصوصات" وألترا ساوند" للجنين، والحمدلله كل اشي بخير، والجنين بخير وما في تشوهات."

كانت آلاء سعيدة جدًا بهذا الطفل الذي جاء بعد سنوات طويلة من العلاج والانتظار، وكنتُ سعيدة جدًا لأجلها، سألتها عن أحوالها الصحية، فأجابتني أنها بخير، وتتماثل للعلاج بشكل جيد، وفكت "الجبص" عن رجلها المصابة، وتمشي بشكل أفضل هذه الأيام، سعدنا بهذا لحديث، وانقطعت من الحديث بعدها لأيام، بسب مرضي وأسباب أخرى، وفي صباح يوم السبت 10 فبراير 2024، استيقظتُ باكرًا، رتبتُ أموري وأرسلتُ لآلاء رسالة نصيّة كنت قد أجلتُ إرسالها طويلاً، تلك الرسالة التي لم ولن تصل أبدًا، حاولت الاطمئنان عنها، واعتذرت عن الانقطاع بسبب مرضي، وانتظرت الرد.

على عكس العادة، كانت آلاء هي من بدأت معي الحديث هذه المرة، فقالت:" آلاء بس حبيت أطمنك، أنا رحت على المستشفى اليوم، وعملت فحصوصات" وألترا ساوند" للجنين، والحمدلله كل اشي بخير، والجنين بخير وما في تشوهات."

لم تصل الرسالة فمنيتُ نفسي أن " النت قاطع"، شوي وبترد، بعد ساعة تقريبًا، جاءتي رسالة نصية أخرى، من طرف آخر، يخبرني بأن آلاء قد أُصيبت في قصف ثان للاحتلال على منزلها، وأن إصابتها هذه المرة خطيرة، وإصابة ابنها عبدالله خطيرة أيضًا، وأدخلوها على الفور إلى غرفة العمليات، أول ما تبادر إلى ذهني، الجنين، دخلت العمليات يعني أنها فقدت جنينها، لا معلومات كثيرة، طيلة اليوم نحاول الوصول إلى معلومة، حتى زميلنا الذي كانت تصلنا بعض الأخبار عن طريقه، قُصِف منزله أيضًا، واستشهد ابن أخيه.

استشهدت آلاء بعد أيام متأثرة بإصابتها، سبقها ابنها إبراهيم، الذي جاء إلى هذه الدنيا ميتًا قبل شهرين من موعد ولادته، مات الجنين في رحم أمه، ولم يستطيعوا إخراجه بداية خوفًا من أن تتأذى أمه بسبب إصابتها الأولى، بقي أيامًا ميتًا في بطن أمه، وهي في العناية المكثفة، حتى استطاعوا إخراجه دُفن إبراهيم الذي سُميّ تيمنًا بسم خاله، ولتلحقه آلاء بعد أيام قليلة، ومازال ابنها البكر عبدالله في العناية المكثفة، يعاني من إصابات خطيرة، يُصارع الموت من أجل حياة لم يبق له فيها إلا خاله أسامة الجريح أيضًا.