بنفسج

مفاتيح بيوتنا حيّة: ذكريات تُدفن تحت الأنقاض

الجمعة 23 فبراير

يهوي بيتٌ جديد يُضاف إلى آلاف البيوت التي هوَت، تتكوّم أنقاضه إلى جانب أنقاض البيوت المجاورة، دمار، دمار، دمار.. لا كلمةَ أخرى تدوّي مع صوت القصف برفقتها سوى كلمة الموت، لكنّ الدمار موت آخر، موت أعمق، موتٌ يتجاوزُ استشهاد الإنسان ليتغلغل في تفاصيله، لم يعد الأمر ارتقاءً للجسد والروح فقط، ولا تناثرًا لأشلاء الشهداء هنا وهناك فقط، لقد طالَ الموت كائناتٍ أخرى، كائنات روحية غير محسوسة ولا مادية، تعيش معنا وتتكوَّن بوجودنا لتصبحَ فردًا جديدًا يُضاف إلى أفراد العائلة، أو أفراد الجيران والأصدقاء والمعارف، تلك الكائنات التي غفلنا عنها ونسينا أن نتحدث عن اغتيالها: الذكريات.

في الحرب الحقودة التي شُنّت على غزة، ومع امتداد مدتها وطولها لم نفقد الأحبّةَ والأهل فقط، ولا البنية التحتية وتقنيات الحياة فحسب، لقد فُقِدت الذكريات والأوقات الثمينة التي عشناها وكنا نخطط لعيشها في نفس دورنا ومع بعضنا إلى الأبد دون فراقٍ ولا ترك لمدينةٍ نشأنا فيها.

الانتقال من البيت إلى الخيمة يحمل معه الكثير من الصعوبات وقلّة الخصوصية وانعدام الأمان والدفء، وتعسيرًا في تأمين مطالب الحياة الطبيعية الأساسية، لكنه يحمل معه جانبًا آخر من الأسى قلّمًا نتحدث عنه، فالانتماء إلى البيت الراسخ الثابت لا يشبه الضياع والتنقل بين الخيام، الهويّة في البيوت أوثق، التوزُع عليها والسكن فيها له معنى أعمق من مجرد نصب خيمة في أي مكان والاحتماء بها من العيش في الطرقات، فتأسيس البيوت من معانيه الاستدامة والاستقرار الطويل عكس الخيمة التي لا تحتوي في معانيها أيًّا من ذلك.

الدمار موت آخر، موت أعمق، موتٌ يتجاوزُ استشهاد الإنسان ليتغلغل في تفاصيله، لم يعد الأمر ارتقاءً للجسد والروح فقط، ولا تناثرًا لأشلاء الشهداء هنا وهناك فقط، لقد طالَ الموت كائناتٍ أخرى، كائنات روحية غير محسوسة ولا مادية، تعيش معنا، تلك الكائنات التي غفلنا عنها ونسينا أن نتحدث عن اغتيالها: الذكريات.

ما يفعله العدو بنا هو محاولة للقضاء على استمراريتنا، على تجذّرنا في الأرض، عندما يجتثّ بيتًا يقتلع معه كلَّ ما عشناه في هذا البيت، يحاول أن يأخذ منا احتمالية وإمكانية أن يظلّ شعبنا أبديًا وماكثًا في وطنه، هذا هم الاحتلال منذ البداية، لقد جاؤونا من أطراف الدنيا وأصقاعها بانتماءات مجزئة مشرَدة ليصنعوا وطنًا لشرذمة مشردين.

 رسوخنا في وطننا وتمسكنا به حتى هذه اللحظة يُربكهم، يضعهم في ورطة، لا يمكن أن يتجاور صاحب الدار الذي يضاهي عمر أشجار داره عمر دولة الاحتلال مع محتلين وصلوا فجأة إلى فلسطين ليستملكوها دون أن أي جذور أو تاريخ، حقدهم نابع من هنا، خوفهم منا نابع من هنا، وكلما قصفوا بيتًا يكون هذا الهدف حاضرًا في ذهنهم، يريدون أن نُشرَد ونهجَر ونهيم على وجوهنا لتضيعَ أصولنا وتُميَّع انتماءاتنا.

كوب الشاي الذي احتسيناه في الشرفة، رُكن التحف اليدوية التي صنعتها سيدة البيت، غرفة الضيوف التي يتشارك فيها الزوّار الضحك والأحاديث والماضي والمستقبل، مناقشاتنا في بيوتنا، بل وحتى شجاراتنا ثم تصالحنا من بعد الشجار، أذواقنا الخاصة ومواعيد استيقاظنا وأساليبنا في استقبال رمضان والعيد والشتاء والصيف، المؤونة وطبخاتنا التي نفضّلها ولا يفضّلها سوانا...

 كل هذه التفاصيل التي تبدو بسيطة ويُظَن أنها لا تُعتبَر شيئًا وأنا تعني كل بيت بمفرده، كل هذه الأشياء أعظم في ضرورتها مما نتصور، ولا تعني الأفرادَ وحدهم، بل تعني الوطن بكامله، هي التي تشكّل الوطن وتجعلنا جزءًا منه وتجعله عائدًا إلينا، ملكًا لنا، معتادًا على عاداتنا ومبادئنا متطبعًا بطباعنا، بل إننا حين نضيف أسرة جديدة إلى عِداد أُسر الوطن نهدف بذلك ضمنيًا إلى تكبيره أكثر ومنحه الأمل عبر أطفال وأجيال قادمة ومَدّ عمره لأزمنةٍ أبعد وأطول.

وهذه التفاصيل التي يُعتقَد أنها عادية، ولا طائل منها هي التي يسعى الاحتلال لطمسها وسلبها لا لشيء إلا لأنه تنبَّه إلى أهميتها ربما قبل أن نستوعب نحن كم تعني وكم لها من عظمة وأثر.

يجيء اغتيال عبد الله ومريم-العروسان الذين قتلهم الاحتلال بعد 3 أيام من زواجهما- ليثبت لنا أن هذا بالضبط ما يخشاه العدو ويتجنّبه، أن نبقى ونخرج بذكرياتنا وأحلامنا وأحاديثنا من تحت الركام والشجر ومن بين الأشلاء والدماء.

عبد الله ومريم نموذجًا عن الأشخاص الذين فهموا مدى تأثير البيت والعائلة، تحدّيا الموت، أرادا غرس نبتة الحياة، والتعمير في هذا الوطن طويلًا، فأقاما حفلَهما المُصغر الصادق، رغم كل شيء آمنا بضرورة الفرح وإلحاحيته، لا لأنه الفرح بل لأنّه يعني المواصلةَ واستمرار الكفاح ويثبت أننا لم نيئس، هذا ما وضعاه نصب أعينهما وهما يسعيان لجعل الخيمة بيتًا يومًا ما حيث سيعودان بلا شك لأماكنهما المُنتظِرة ولقطعة الأرض التي تعاهدا أن يكون بيتهما عليها.

ثم يجيء اغتيال عبد الله ومريم ليثبت لنا أن هذا بالضبط ما يخشاه العدو ويتجنّبه، أن نبقى ونخرج بذكرياتنا وأحلامنا وأحاديثنا من تحت الركام والشجر ومن بين الأشلاء والدماء، وأن تزهر أعمارنا على أغصان الشجر بدلًا من زهور الربيع سعيًا لتثمرَ وتنافسَ في طول عمرها حبات الزيتون، هذا بالضبط ما يخشاه، الاحتلال لا يحاول قتل عدد من الأشخاص أو القادة أو الأطفال أو النساء الحوامل، ما يريده في الحقيقة أن يقتل الجميع ومعهم إرادتهم للحياة يريد قتلَ فهمِنا لمدى تهديد حياتنا لوجوده، إذ أننا كلما وعينا أن في وجودونا ممات ومحو له عانَدنا أكثر وتوالَدنا أكثر وأقمنا الأفراح والزيجات وبنينا المزيد من البيوت، أو مشاريع البيوت.. أكثر! وهذا ما يرهبه.

بيوت الشعوب المحتلة تخرج عن كونها بيوتًا للسكن والإيواء، بيوتنا مقاومة بحد ذاتها، الحفاظ عليها وجود وصمود بحد ذاته، محاولة الاحتفاظ بما يتبقى منها، من قصاصات الورق، وخشب السرير المحطم وشظايا النوافذ هي بحد ذاتها قتال وجهاد.

نحن لا نقارع عدونا بالسلاح فحسب، فمصير حرب النار إلى الانتهاء، لكننا نقارعه بوجودنا نفسه، لأن وجود كلينا على ذات الأرض مستحيل، وحين تنتهي حرب النار نعود لحربنا الأعمق والأطوال وإن كانت تبدو للناظر حربًا هادئة إلا أنها الحرب الحقيقية: حرب الوجود.