بنفسج

غزة كيف حالها؟ عالقون في عنق الزجاجة

الإثنين 26 فبراير

يسألونك عن حال غزة بعد أكثر من 143 يومًا من العدوان الأشنع، أقول عجبًا، وأي وصف لحالها ذاك لم يعد فيه ما يكفي لغات الوصف أجمع كي ينصف القطاع، فقد بتنا نعيش من العدم، ندفن بلا وداع، نأكل بلا شبع وبعضنا يموت جوعًا، نطبخ على نار قلوبنا المحروقة، نُصلي بلا أذان، بيوتنا بلا جدران، نصاب بلا إسعاف، ونتعالج بلا دواء، نُقتل بلا رحمة، نتزاور بلا أرواح، نُمسي بلا أرحام ونصبح بلا أولاد...

 نودع بلا لقاء، نسير بلا حياة، ثم نعجن ما تبقى منها حين يغيب الطحين، نأوي لغيرنا ثم يأوي الغير لنا، نتعلم بلا مدارس، نتاجر بلا بضائع، نتمنى بلا تحقق، نركض بلا أقدام، نمشي بلا عقول، ننادي بلا صوت، لا يوجد ما نشتريه، ولا مال لما هو موجود في ظل غلاء الأسعار، لا نعرف أسماء الأيام، وكثيرًا ما يتوقف الوقت حين تتشابه السويعات في وقت تختفي فيها كل مصادر الطاقة عن الساعة الوحيدة المتبقية في يد أحدنا...

حياة بلا ملامح، وأرواح بلا حياة، نهشنا الفكر، فتكنا التهجير، خنقنا الخوف، ذبحنا الشح، هلكنا المنع، فرّقنا الاقتحام، عذّبنا الجلوس، جمّدنا البرد، حاصرتنا التراكمات، وأعيانا المرض، وقتلنا الخذلان، ولكن الله غالب.

 نأكل بلا تذوق، نتقابل بلهفة الوداع، نسأل أنفسنا مرارًا هل حقًا ما زلنا أحياء؟ ثمّ نلتحف السماء ويلفحنا الصقيع، يضربنا المطر، وتحفنا المخاطر، لا نعرف معنى الأمان، نُمسي مجتمعين ويفرقنا صباح الأعداء، القذائف من كل جانب، نتعذب بالصوت، تلد النساء بلا قابلة، ننام بلا أسرة، ثم نُقتل بكل الوسائل جوعًا، ذبحًا، قهرًا، إهمالًا، وحصارًا.

عالقون في حاضرٍ قتل ماضينا وأبهمَ مستقبلنا، ننقل الماء العذب على مقعد أحدنا المتحرك في الوقت الذي فاقم العدوان من إعاقته، وهتك عافية الأصحاء، نمضي وقتنا في إحماء النار، والانتظار في طوابير المياه، نفتش عن مختص لإسعاف إصابة أحدنا قبل أن يصيب جرحه الهلاك، نراقب انتشار الأوبئة ووقوع الكوارث بلا حيلة، ونحرس عيون أطفالنا بالكذب، بتنفيس النوافذ، بالتهدئة المخالفة لمعارك أدمغتنا التي نهشها التفكير في سبل الخلاص أو النجاة على الأقل في ظل غياب القدرة.

 نتحسس البدائل لإكرام الميت، واحتضان النازح، نتقاسم الدفء، ونتشاطر التعب بصمت الصامدين رغم الكبت والقهر وفي حديث عيوننا المتناظرة ألف استفسار وحديث وسؤال، تقشعر أبداننا من هول المصاب بينما تجرّنا إنسانيتنا لأداء الواجب ولو بالشكل البدائي، لا نجد ما نتحسر عليه وقد غشيتنا الصدمة من مأساة الفقد وحجم الدمار الهائل، ندبّر أمرنا بالابتكار، نصنع الطعام من شح المكونات وغرابة المتوفر والذي في جلّه غير أساسي في سد جوع الأمعاء الخاوية...

 نقلق من مصير مرضانا، فلا علاج لمن تصيبه الوعكة، ولا دواء للمرض المزمن ولا أجهزة حتى للإصابة البسيطة، نرتدي الملابس من الحاويات، نُلملم أثاث بيوتنا المقصوفة لنصنع كوبًا من الدفئ ممزوجًا برائحة القهوة، نقطع عن أنفسنا الماء والغذاء كي لا يموت أطفالنا  عطشًا وجوعًا، لا نعول على أحد، نتدارك حكمة الله بالصبر، ندعي باليقين ولا نلتفت لدول ماتت فيها العروبة ولا لمؤتمرات يبيع قادتها الوقت من أجل الإدانة، وكم من شجبٍ لم يسمن ولم يُغني من إجراء أو عقوبة.

 بتنا نعيش من العدم، ندفن بلا وداع، نأكل بلا شبع وبعضنا يموت جوعًا، نطبخ على نار قلوبنا المحروقة، نُصلي بلا أذان، بيوتنا بلا جدران، نصاب بلا إسعاف، ونتعالج بلا دواء، نُقتل بلا رحمة، نتزاور بلا أرواح، نُمسي بلا أرحام ونصبح بلا أولاد...

نرصد نقاط الإنترنت المعدومة علّنا نصل لأنصاف عائلاتنا في المحافظات القريبة، بينما نسترق الوقت لطمأنينة متبادلة لأحباب في الغربة، ثمّ نُفرغ علقم الفراق على الورق، لقد أرهقنا الجهل بحال ذوينا بينما يغيب عنهم مكاننا وحالنا ووضعنا وصورنا من قبل، لقد ابيضت العيون من الحزن وخوت المنازل من صوت الأطفال، وخلت الجيوب من المال، نفترق عنوة ولا تجمعنا حتى المعلومات، انقطاع بلا تواصل، شملنا ممزق، أبناؤنا يعانون المصير المجهول ونحن نعاني المجهول ذاته...

 نُأسر بلا ذنب، جرائم القتل تغتال دمى الأطفال وضحكاتهم، ظلام بلا نور غير ضوء القنابل، هواتف بلا شحن، خيام بلا مفروشات، ومأوى بلا أغطية، مشاهد القتل مروعة، صباحٌ بلا شمس، وصبحٌ بلا معنى، مؤسسات بلا عاملين، وعمال بلا عمل،  محال بلا بضاعة، مستشفيات بلا أطباء، مساجد بلا مصلين، سيارات بلا وقود، أطفال بلا براءة، ورياض بلا أطفال...

 مدارس بلا كوادر، أقسام بلا مختصين، جامعات بلا طواقم، إعلامٌ بلا وسائل، صحفيون بلا أقلام، شاشاتٌ بلا إضاءة، كاميرات بلا عدسات، نسير بلا هدف، ننظر بالّلا أفق، ما نملكه لم يعد لنا، شركات بلا مقرات، مهندسون بلا مكاتب، محامون  بلا قضايا، لا تسير ركوبة سوى عربة الحيوانات، نعيش من العدم، عمارات بلا أعمدة، أحياء بلا سكان، شوارع بلا طرق، مطاعم بلا زوار، مخابز بلا طحين، نوادٍ بلا لاعبين، منتزهات بلا أشجار، ألعاب بلا أطفال، بحر بلا سفن، شاطئ بلا استراحات، حياة بلا ملامح، وأرواح بلا حياة، نهشنا الفكر، فتكنا التهجير، خنقنا الخوف، ذبحنا الشح، هلكنا المنع، فرّقنا الاقتحام، عذّبنا الجلوس، جمّدنا البرد، حاصرتنا التراكمات، وأعيانا المرض، وقتلنا الخذلان، ولكن الله غالب.