بنفسج

"هان عليك تحط على أولادنا الرمل".. حكاية الناجية آية عليان

الثلاثاء 13 اغسطس

"هان عليك يا عبد اللطيف تحط الرمل على مجد وسارة كيف هان عليك تدفنهم وتيجي".. ارتجف كل من شاهدها وهي تروي حكاية استشهاد أولادها وأشقائها وعائلاتها جميعًا، فماذا يعني أن تستمع إلى شهادة حية خرجت من تحت أنقاض ثلاثة طوابق؟ أي دموع ستنهمر من عيني أي من يشاهد دموعها وصوتها المهزوز، وإيماءات كلامها.

كل فرد من الشهداء كان له قصة وحلم وأبناء، يحبون الحياة ويسعون إلى وضع بصمة فيها ليُذكروا بالخير، وها قد نجح جميعهم في اختبار الحياة، فتركوا بصمة لا تُنسى، والناجون سيروون عنهم كل قصصهم، سيقولون كانوا يحبون هذا وذاك، سيبحثون عن وجوههم في حياة العابرين.

لم يكن الأمر سهلًا على صاحبة الحكاية أن ترثي كل العائلة بالأبناء والأحفاد والأشقاء، تلوم نفسها على الدوام: "كيف سمحتلهم ياخدوا أهلي ويدفنوهم، كيف، مش مستوعبة".

بحثت بين الجثث المتحللة عن طرف خيط يوصلها إلى آخر العنقود، نظرت إلى أظافرهم علها تجد قسام، لكنها لم تصل إلى نتيجة، ورحل ابنها عن الدنيا دون قبر يليق به، دون حتى جسد كامل، ودون أن تكفنه وتودعه الوداع الأخير. هنا نحكي عن قصة الناجية آية عبد العزيز عليان التي فقدت حوالي 55 فردًا من عائلتها في ليلة واحدة، لتبكي ونبكي معها.

اليوم الأليم: حين تحققت الرؤية 

لقد حلمت قبل الاستهداف بساعات أن البيت قد قُصف، استيقظت أركض للصالون فوجدت سالي زوجة أخي وشقيقتي جيهان، فأخبرتهم أن البيت استهدف قُصف، فأخبروني أن الأمر مجرد هواجس من الشيطان، ها نحن هنا ولا شيء حصل.
 
 فعدت إلى نومي وإذ بي استيقظ بعد ساعات على رائحة غبار شديدة وعتمة، لا أعرف كم المدة التي بقيت فيها مستيقظة، لكني شعرت حينما بدأ نفسي يضيق وفقدت الوعي حتى فتحت عيني بالمشفى".

في الرابعة من فجر يوم 21 نوفمبر 2023، قُصف البيت في مخيم النصيرات في غارة إسرائيلية غادرة قتلت كل من البيت ما عدا خمسة أشخاص فقط. ستون روحًا كانت تظن أن البيت أمان ولكنه كان مجرد تخمين، فالأمان عند الله لا في الدنيا.

تقول السيدة آية عن يوم استهدافهم: "لقد حلمت قبل الاستهداف بساعات أن البيت قد قُصف، استيقظت أركض للصالون فوجدت سالي زوجة أخي وشقيقتي جيهان، فأخبرتهم أن البيت استهدف قُصف، فأخبروني أن الأمر مجرد هواجس من الشيطان، ها نحن هنا ولا شيء حصل، فعدت إلى نومي وإذ بي استيقظ بعد ساعات على رائحة غبار شديدة وعتمة، لا أعرف كم المدة التي بقيت فيها مستيقظة، لكني شعرت حينما بدأ نفسي يضيق وفقدت الوعي حتى فتحت عيني بالمشفى".

لطالما قلت مواسية نفسي ومن حولي: "إللي إلو عمر بعيش في ناس طلعت من تحت الأنقاض وما فيهم خدشة وباقي البيت استشهد، هاد دليل أنه العمر انتهى، ما في باليد شي اللهم لا اعتراض". وكلما شاهدت قصص الناجين آمنت أكثر أن لا أحد يموت قبل أوانه، كل شيء مكتوب ومقدر.

يسبب الله الأسباب لنجاة من متبقي في عمرهم عمرًا، آية وزوجها وأحفادهما نموذج. وابنتها لمى، كانت يد لمى الإشارة الوحيدة على وجود أحياء في البيت، رآها من أتى للإنقاذ وهي تحركها فأخذت تصرخ "ماما جنبي طلعوها". وتقول لأمها: "ماما إن حاسة فيا زقيني برجلك". فكانت تفعل مثلما تقول لمى، ولكنها حين حدثتها عن الموقف لم تتذكره أبدًا.

تضيف آية: "أنا أدركت أنه انقصفنا وأنا بالمشفى، بنتي كانت إيديها مكسورة ووجهها كله دم ونافخ، وأنا عندي كسر بالضلع الأعلى بالقفص الصدري وخلع بالكتف وشعري محروق وتمي كله رمل".

لم تأبه لوجعها وركضت نحو باب المشفى تنتظر ناج، لكن كل القادمين يحملون شهداء، ذهبت عند حفيدها الناجي عبد الرحمن فكان لديه كسر باليدين والحوض وهو يصرخ: "يا تيتة". لم تتجرأ على سؤال: "مين ضايل طيب". سمعتهم يقولون مجد حي، سرعان ما نفي الخبر، ووضعوه في الكيس الأبيض كما تسميه، تقول: "أحيانًا أخبر نفسي أن مجد لم يمت دفنوه حيًا واختنق بعد الإغلاق عليه".

التعرف على الأشلاء: النظر من ثقب إبرة 

"بهديك اللحظة كان عندي أمل يكون حد طيب أخدوني أتعرف على باقي الجثث في مشفى شهداء الأقصى، شفت مجد ابني، وورجوني كيس فيه أشلاء حكولي لحج وحجة عرفت إنهم أبويا وإمي،
 
وشفت مرة أخويا محمود سالي وابنها المولود بحضنها، وكنتي أماني اللي انحدفت بعيد عن البيت ١٥٠ متر، وكمان إمها، وبنت أخويا لبنى كان شعرها كتير طويل وحلوة، خبروني أنهم اضطروا يقصوا شعرها ليطلعوها".

رأت الدنيا وهي تبحث عن وجه ناج من العائلة من ثقب إبرة، لم تبك أبدًا وهي تتعرف على الجثث في مشفى العودة، وقعت عيناها على شقيقتها نسرين أولًا ثم سارة حفيدتها ابنة ابنها البكر، ثم فلان وفلان وفلان. تردف: "بهديك اللحظة كان عندي أمل يكون حد طيب أخدوني أتعرف على باقي الجثث في مشفى شهداء الأقصى، شفت مجد ابني، وورجوني كيس فيه أشلاء حكولي لحج وحجة عرفت إنهم أبويا وإمي، وشفت مرة أخويا محمود سالي وابنها المولود بحضنها، وكنتي أماني اللي انحدفت بعيد عن البيت ١٥٠ متر، وكمان إمها، وبنت أخويا لبنى كان شعرها كتير طويل وحلوة، خبروني أنهم اضطروا يقصوا شعرها ليطلعوها".

لم تر آية كل شهداء بيتها في اليوم الأول، رأت مجد ولكنها لم تره في الوقت ذاته، لم تستطع النظر إلى وجهه أبدًا، احتضنت رأسه المخضب بالدم، وندمت لاحقًا لأنها لم تودعه كما يجب. في اليوم الثاني ودعت ابنتها ديما وزوجها وابنهما، كان وجهها أزرق، فقد وقع عليه السقف الباطون مباشرة، وبجانبها زوجها برأسه المكسور، وحفيدها الذي جاءهم بعد شوق طويل فأسمته: "الغالي".

لم تستطع آية وزوجها إخراج كل الأحبة من تحت الركام، فكل أشقائها بأولادهم وابنها قسام كانوا في الطابق الأول ما سبب صعوبة في إخراج من كانوا هناك، في اليوم العاشر جلبوا الحفار ليستخرج من بقى، فنجح بإخراج 6 جثث لم يُعلم منهم إلا شخص واحد، "اضطريت أفحص الأظافر لأعرف ابني قسام، لكن ما عرفت، دفنوهم بدون شهادة وفاة بدون مشفى، بعدها مطرت الدنيا فمع المطر بين عظام شخص آخر ما بعرف مين".

قبل استشهاد عائلة آية بيوم تم قصف منزل شقيق زوجها، فذهب كل رجال البيت ركضًا للمساعدة في إخراج الجثث، استشهد يومها 12 شهيدًا ولم ينج من المنزل إلا زوجة ابنه وطفلين، قضى الرجال ساعاتهم الأخيرة في جمع الأشلاء وفتات اللحم من تحت الركام، وعادوا إلى المنزل بعد يوم طويل من التعذيب النفسي، ملابسهم يغمرها الدماء والغبار، استحموا جميعًا وصلوا العشاء جماعة ثم خلدوا إلى النوم، ولم يعلموا حينها أن النوم هذه المرة أبدي.

خمس وأربعون  يومًا من الوداع

 
تتمنى آية أن ترى أولادها في المنام، ليطمئن قلبها عليهم، فقد اشتاقت لهم جميعًا، تقول وهي تحاول كبح دموعها:
 
"بدعي ربنا كل يوم يارب أشوفهم عشان أطمن عليهم، إني إشوف ولادي بالمنام صار طموحي".يخبرها كل من أصدقاء مجد رشدي وعبد الرؤوف أنه زارهم في المنام، ويرسل لها السلام: "يا خالتو مجد بسلم عليكِ وبقلك أنا مشتاق الك ورح أزروك عن قريب".

عاشت آية برفقة عائلتها الذين نزحوا من شمال غزة مجبرين 45 يومًا، اعتبرتهم الأجمل في حياتها على الرغم من الجنون والإبادة الجماعية التي تمارس بحق الغزيين. نظموا أعمال المنزل في ما بينهم، كل يعرف مهمته في البيت، يخبزون الخبز ويقسمونه حصصًا بسبب عدم توفر الطحين آنذاك، يقضون يومهم في توفير المياه المفلترة وأيضًا مياه الاستحمام.

لم تخل ال ٤٥ يومًا من ضحكاتهم ومشاكساتهم، فها هو شقيقها يوسف يوعدهم أن يصنع لهم فرن طينة ليخبزوا عليه، جرب أول مرة ففشل، الثانية فشل أيضًا، وقبل قصف البيت بيومين اكتمل الفرن ليخبزوا فيه لأول مرة بنجاح، فما كان منهم إلا التهليل والتصفيق لنجاحه وأخيرًا في صنعه.

كانت علاقة آية بأبنائها الخمسة فريدة من نوعها، تقول: "تعرفت أكتر على مجد ابني بالعمرة، كتير مبادر، كنا نعمل مغامرات مع بعض، يروحلي أماكن بعيدة ليجيب أكل فلسطيني".

أما آخر العنقود قسام كان سيحقق أمنية والدته بدارسة الطب ووعدها بذلك، كان من المفترض أن يكون على مشارف سنته الأولى بالطب، ولكن قدر الله نافذ، أما بناتها لين وديما ولمى كن مبدعات كل في عملها، نعم البنات البارات بوالديهم، نجت لمى فقط لتكون العوض عن شقيقاتها.

تتمنى آية أن ترى أولادها في المنام، ليطمئن قلبها عليهم، فقد اشتاقت لهم جميعًا، تقول وهي تحاول كبح دموعها: "بدعي ربنا كل يوم يارب أشوفهم عشان أطمن عليهم، إني إشوف ولادي بالمنام صار طموحي".يخبرها كل من أصدقاء مجد رشدي وعبد الرؤوف أنه زارهم في المنام، ويرسل لها السلام: "يا خالتو مجد بسلم عليكِ وبقلك أنا مشتاق الك ورح أزروك عن قريب".

أم بعمر الخمسين

 
 "كتير عبد الرحمن وآية اتعلقوا فيا وأنا كمان، آية بتعتبرني إمها ولما تشوفني بتسكت وبتطمئن". أما زوجها عبد اللطيف يرفض أن ينعت أحفاده بالأيتام، "أحفادي مش أيتام طول منا عايش".
 
آية التي كان عمرها 21 يومًا وقت قصف البيت بقيت في العناية المركزة لخطورة حالتها وقتها وما زالت تعاني حتى بعد بلوغها عمر الثماني أشهر

نجا من أحفاد آية كل من عبد الرحمن وآية الصغيرة أولاد بكرها مجد، كان جسد عبد الرحمن كله مجبص بجبيرة ولا يستطع تحريك نفسه أبدًا، وآية التي كان عمرها 21 يومًا وقت قصف البيت بقيت في العناية المركزة لخطورة حالتها وقتها وما زالت تعاني حتى بعد بلوغها عمر الثماني أشهر. تقول: "كتير عبد الرحمن وآية اتعلقوا فيا وأنا كمان، آية بتعتبرني إمها ولما تشوفني بتسكت وبتطمئن". أما زوجها عبد اللطيف يرفض أن ينعت أحفاده بالأيتام، "أحفادي مش أيتام طول منا عايش".

كان الاختبار الحياتي على آية وزوجها قاسيًا جدًا، ففقد العائلة من أشد المصائب وطأة على النفس، ولكن الله أراد أن يترك لهما إرثًا حيًا فعوضهما بآية وعبد الرحمن التي أكدت جدتهم آية أنها ستمسك بيدهم ليصلوا إلى بر الأمان كما فعلت مع والدهم تمامًا.