بنفسج

روان الطهراوي: ليسوا أرقامًا...بل أحبة يرحلون أسرابًا

الأربعاء 28 اغسطس

"شهداء وجرحى ومفقودون في قصف  استهدف منزلًا لعائلة الطهراوي في مخيم البريج وسط قطاع غزة".. فور رؤيتها للخبر هوى القلب من مكانه، وفقدت القدرة على النطق، وحدثت نفسها: "أهلي هدول صح أهلي"، فحادثت مرسل الخبر للتأكد، فما كان منه إلا أن دعى بأن يربط الله على قلبها، حربًا ثانية عاشتها في غربتها منذ بدء حرب الإبادة الجماعية، تفصلها عن العائلة حدود وبلدان وجغرافيا، لكنها تمنت في تلك اللحظة أن تكون عصفورًا لتحلق عند وجه والدتها لتطبع قبلة الوادع الأخيرة وتقول: "الله يسهل عليكِ يما".

لم تفقد والدتها فحسب بل شقيقها وزوجته وأطفالهما، فكان حزنها مضاعفًا، توقعت أن يتم استهدافهم يومًا ما، لكن فؤادها كان يريد لهم النجاة، والآن لم يتبقَ لها من صندوق الذكريات إلا صور أصحابها بضحكاتهم وأحلامهم التي لم تسنح لهم الحياة بتحقيقها.

استشهاد الأم: مُحفظّة القرآن الكريم 

الشهيدة محفظة القرآن الكريم ليسوا أرقامًا.jpg
والدة روان الطهراوي الشهيدة المحفظة لكتاب الله 

في 17 يوليو/ تموز 2024 وبعد صلاة الفجر أطلق سلاح الجو الإسرائيلي صاروخًا نحو منزل عائلة روان الطهراوي، فاستشهد كل  من والدتها وشقيقها محمد وزوجته وأطفالهما مروان وحنان وأحمد ولانا، وأصيب شقيقها يوسف.تقيم روان في تركيا منذ العام 2018 بعدما تزوجت من شاب تركي، فكانت الغربة قدرها هي وطفلها يوسف.

 عاشت المحرقة عن قرب حتى في اغترابها فكل ألم يعيشه الأهل في غزة، يحرق روحها على مهل، تقول لبنفسج: "كنت أتوقع أن يتم استهداف عائلتي ولكن كان لدي أمل أن تنتهي الحرب ويسلم أهلي، قُصِفوا بعد صلاة الفجر ووصلني الخبر في الصباح، لم أدرك الخبر وشعرت نفسي في حلم وأنا استمع لأسماء الشهداء".

كانت روان تعيش على أمل اللقاء بوالدتها في غزة، ولكن فور نشوب الحرب صار الأمر يحتاج لمعجزة، بقيت متمسكة بأمل أن يكتب الله لهما لقاء محتملًا لكن روح والدتها رحلت للباريء، فتكمل لبنفسج: "في ليلة استشهاد أمي الحبيبة كانت تستعد لسرد سورة البقرة في جلسة واحدة، وطوال الحرب لم تكف عن ممارسة عملها كمحفظة للقرآن الكريم على الرغم من طلبي منها أن لا تذهب لبعد المكان عنها، فما كان منها إلا القول: "الأجر بكون مضاعف يا إمي".

لم تكف روان عن ذكر محاسن أمها، تصفها: "أمي صوامة قوامة تقية نقية، لا نستشيرها في أمر ما إلا ويصدق قولها، وكل ما أنا فيه من خير بفضل دعوات أمي ورضاها".

أما عن الناجين من القصف، فقد كُتبت النجاة لشقيقاتها مريم وأسماء ومها، والأخوة يوسف وعبد الرحمن، فكانوا عوض الله لروان وشقيقتها مروة في بلاد الاغتراب، أخبروها عن الليلة الأخيرة لوالدتهن وهي تصر على الكل أن يناموا منفصلين، حتى إن قُصف البيت لا يستشهد الجميع، وفي الواقع حدث ما أرداته الأم استشهد البعض، ونجا الآخرون.

استشهاد الأخ وعائلته الصغيرة

جميع من في الصورة استشهدوا ليسوا أرقامًا.jpg
الأخ الأكبر لروان الطهراوي الذي استشهد مع زوجته وجميع أبنائه 

تخبرنا عن شقيقها محمد الذي اُستشهد رفقة والدتها وزوجته وأطفاله، فتقول: "كان مريضًا بالسرطان ويعيش ألم المرض الشديد، وحينما شبت الحرب كان موجودًا في مصر للعلاج، ولكنه بعد منتصف الحرب أصر على العودة لغزة ليعيش ما يعيشه أهله، وظل صامدًا في البيت حتى لقى ربه شهيدًا".

أما عن زوجته فقد أُصيبت بحروق شديدة في وجهها وكامل جسدها، كانت حالتها خطيرةً جدًا، عاشت عشر أيام ثم غادرت الحياة شهيدة لتلتحق بعائلتها الصغيرة، تخبرنا روان أنها استيقظت من غيبوبتها وسألت: "وين محمد والولاد؟". فقالوا لها: قولي الحمدلله. فترد:" كلهم كلهم استشهدوا؟ ثم تقول الحمدلله."

تُقهر روان وهي تنظر لصندق الهدايا الذي اشترته لأطفال شقيقها، تذكرهم وهم يقولون لها: "عمتو بدنا تجيبلنا ألعاب". اشترت لهم كل ما طلبوه ويزيد، ولكن الجيش الإسرائيلي قتلهم بأحلامهم وأمنياتهم الصغيرة. 

حروب المغتربين كالحنظل 

الشهداء الأطفال.jpg
أبناء أخ روان الطهراوي الذين استشهدوا رفقة أمهم وأبيهم في غارة إسرائيلية على منزلهم 

أن تكون مغتربًا يعني أن تعيش الحرب مرتين، حرب الإبادة الجماعية، وحرب الفراق عن الأهل، أن تنقطع وسائل التواصل معهم ولا تعلم أن كانوا أحياء أم لا، أن تصبح رنة هاتفك رعبًا لا حدود له، وتشعر بثقل الحياة على قلبك، تود الخلاص الأبدي من هذا الجحيم، وأن ترتمي بين أحضان أمك لتخبرها ببشاعة وجه الدنيا.

عشت شعور تأنيب الضمير وعقدة الناجي وأمي وشقيقاتي يعشن حرب الإبادة، أشعر بالذنب وأنا نائمة في فراشي وهم ينامون على سلم المدرسة، أطبخ لعائلتي وهم في أيام كثيرة لم يجدوا ما يسد رمقهم".

تكمل روان: "تمنيت كثيرًا أنا وأختي المغتربة بمصر أن نعيش الحرب مع أهلنا، لكن لم يكتب لنا نصيب، كنا نخطط أن نعود لغزة لزيارة العائلة، ونطفىء نار شوقنا لكن الحرب أفسدت مخططاتنا، عشت شعور تأنيب الضمير وعقدة الناجي وأمي وشقيقاتي يعشن حرب الإبادة، أشعر بالذنب وأنا نائمة في فراشي وهم ينامون على سلم المدرسة، أطبخ لعائلتي وهم في أيام كثيرة لم يجدوا ما يسد رمقهم".

في ليالي الحرب الموحشة، لم يكن ليل روان إلا ليلًا قاسيًا، البعد عن غزة والأهل يؤرقها، تنام ولكنها قلبها وعقلها في حالة صحو دائم، تفتح عينيها في الصباح على ألم مبرح في الجسد، وضيق في الصدر، صوت والدتها كان مسكنًا لألمها ولكن منذ غيابها وهي في هم وغم، رضيت بقضاء الله وقدره واحتسبتها شهيدة في سبيل الله لكن قلبها حزين.أما طفلها يوسف لم ينفك عن السؤال عن جدته وخاله محمد، وعن حنان ولانا ومروان وأحمد، فتبكي في كل مرة، وتعانقه ليبكوا سويًا ألمهم واشتياقهم لوجه الجدة البهي وباقي الأحبة.