"استهداف بيت في الجلاء وعدد من الشهداء والمفقودين".. قرأت الخبر الساعة الواحدة ليلًا بشكل عابر، ثم نمت مجددًا، فاستيقظت لتناول السحور وصلاة الفجر، لم يخطر على بالي أبدًا أن البيت الذي قرأت خبره ليلًا وقلت: الله يرحم من فيه ويصبر أهله. هو بيت أختي، عندما أخبروني أشقائي أن أختي اُستشهدت رفقة زوجها وأطفالها الخمسة لم أصدقهم، سندس ستأتي الآن حتمًا...
أنا بسمة حسونة أخت الشهيدة سندس حسونة "حمودة"، التي اُستشهدت مع عائلتها الصغيرة وعائلة زوجها كلهم في الخامس من رمضان، لم تكن كأي أخت عادية فكل لحظاتي معها تمر أمامي كل لحظة وكل يوم وبكائي عليها لا ينقطع، كانت ممتلئة بالحنان والعاطفة الجياشة، نسميها أمنا الثانية.
يقولون أنني أشبهها وأحيانًا يظننوني هي ويا لحسن حظي بذلك، صغارها هم الأقرب والأحب إلى قلبي، تربطني بهم علاقة أكثر من كوني خالتهم، لكل منهم حياته الخاصة بتفاصيلها معي.أكبرهم ابنتها الغالية الوحيدة وبكر أختي "مسك" لم نناديها باسمها منذ ولادتها، دائمًا نناديها باسم الدلع "ميمي" حتى هي اعتادت عليه كثيرًا ومن يناديها بغيره لا ترد عليه أحيانًا.
حقيقة اشتقت لهم كثيرًا، ولكني أصبر نفسي دائما بكتاب الله تعالي الذي يربت على القلب ويهون عليه.
كل مواقفي مع "ميمي" جميلة ابتداء بحفظ القرآن وتعلمه فقد كنا نراجع ونحفظ ونعد الخطط سويًا وانتهاءً بكوني معلمتها لمعظم المواد الدراسية وأخص بالذكر "اللغة الإنجليزية".
أما "عمار" سمّاه والده تيمنًا باسم خاله "أخي الشهيد عمار" رقيق القلب، حنون جدًا، بريء وناعم حتى أننا كنا نمازحه فنقول له "أنت كالبنات" خاصةً أن شعره كان يوحي بذلك. أحبه جدًا ومرتبط بي جدًا، كان دائم البقاء عندنا خاصة عند سفر والديه مع أخيه الأكبر. بدأ يتكلم جيدًا قبل الحرب بأيام، وفرحنا كثيرًا لهذه اللحظة التي لطالما تمنيناها؛ لكن هذا الاحتلال الغاشم نسف كل شيء كنا نفرح عليه وأخذهم كلهم بصاروخ واحد!
أما طفلها حبيبي "محمد مرسي" الأقرب إلى روحي وقلبي، كان متعلقًا بي إلى درجة لا يتخيلها أحد. كل لقاءاتنا تكون سويًا، لا أخرج إلا وهو معي ولا يذهب هو إلى مكان إلا يناديني معه. كان مريضًا منذ ولادته فنموه غير طبيعي لعمره، لكن عقله كان طبيعيًا جدًا. هذا شق روحي الآخر الذي لا أقوى على رؤية صورنا معًا أو فيديوهاتنا معًا. لأنها ستبكيني وتأكل قلبي من شدة الشوق والألم.
أما بطلها وبطلنا روح الروح مُصعب، شجاع جدًا، ذكي جدًا، عبقري جدًا، حين وصل للصف الخامس نقله والده إلى مدرسة "أوائل وقادة " حتى يتم الاهتمام به أكثر وتتكشف مواهبه وكل من رآه عرف ذكاءه ودهاءه من عينيه! كان يحفظ أجزاء من القرآن أيضًا ويتنافس مع أخته. أما آخرهم وأغلاهم على القلب "صهيب" ذو الثلاث سنوات، بريء إلى حد لا يمكن وصفه، كنا نسميه "فاكهة العائلة"، لم أحظَ معه بذكريات كثيرة نظرًا لكثرة سفره مع والديه، لكنه كان محببًا كثيرًا إلى قلبي، رحمك الله يا حبيبي
كنا في بداية الحرب نقضي أوقاتنا عند أختي، مكثنا في بيتها شهرًا كاملًا، كانت تحب بيتها كثيرًا، نزحنا سويًا، وأذكر عن النزوح عند اقتراب اليهود من مستشفى الشفاء اضطررنا للنزوح من مخيم الشاطئ وعدنا له بعد شهر.أما عند حصار الشفاء الأخير كان لم يمر سوى يومين على استشهاد أختي وعائلتها، اضطررنا حينها إلى النزوح مرة أخرى. في هذه الحرب نزحنا ما يقارب 10 مرات، كل مرة كان لها وقعٌ مختلفٌ على الحياة والقلب.
وحوصرنا من قبل الآليات الاسرائيلية مرتين، ولكن بفضل الله كان بيننا مسافات نستطيع الخروج منها حينها. كان الشيء الأشد رعبًا، حينما كانت طائرات كواد كابتر تطلق رصاصها كل لحظة بحيث لا تسمح لأحد بالخروج من بيته، والقذائف المدفعية لا تتوقف أبدًا.
عشنا ما عشناه في حرب الإبادة الجماعية هذه لكن فقدي لشقيقتي وأطفالها كان الأشد، على الرغم من تجربتي لشعور الفقد في أبي وأخي لكن هذه المرة قاسية جدًا،فقدي لأختي وأولادها أذاب روحي كثيرًا وأخذ من القلب الكثير ولا شيء يخفف عني ألم فقدهم؛ صورهم تمر أمامي كل لحظة ولا تفارقني، لكنني دائمًا أحاول أن أشغل نفسي بما يرضي الله لكي يخف عني ألم الفقد.
قبل الإبادة الجماعية كنا سعداء مع الصغار، لكن الحرب قضت على هذه الأيام، وصرنا في أوقات المجاعة خاصة ننتظر مجيأهم لنسألهم ماذا يريدون؟! رغم أن كل شيء كان معدومًا إلا أن والدتي كانت قد احتفظت ببعض الأشياء وكنا نصنعها لهم.أذكر آخر زيارة جاؤوا فيها كانت لثلاثة أيام متتالية وحينها اشترينا كثيرًا من حاجات الأطفال رغم غلائها الشديد وأكلناها سويًا. حقيقة اشتقت لهم كثيرًا، ولكني أصبر نفسي دائما بكتاب الله تعالي الذي يربت على القلب ويهون عليه.