بنفسج

آمال الخواجا: بديش ابني خالد يكون مجرد رقم

السبت 28 سبتمبر

الشهداء ليسوا أرقامًا
الشهداء ليسوا أرقامًا

"يا حلو صبح يا حلو طل".. ما قبل حرب الإبادة الجماعية كانت تستيقظ بإشراقة صباحية مبهجة، تجوب البيت وتحضر الإفطار لأجل خالد، الذي تسميه مشروع حياتها الأكبر والأول، تدندن بصوتها الأغنيات له، فهو الذي جاء بعد سنوات طوال من الحرمان.

 ثلاث عمليات زراعة وأدوية وتجوال بين المشافي لأجل أن ينير حياتها. فجاء لتعلن مصالحة أبدية مع الدنيا وعهد جديد برفقته. لكن بعد 7 سنوات من الحب جاءه صاروخ إسرائيلي غادر ليقتل حلم الحياة الأعظم الذي قاتلت وجاهدت ليأتي للدنيا، لتعيش بعده بلا روح،تنتظر أن يزروها في المنام لعله يخفف من ألم الفراق.

"ابني مش رقم"

خالد.jpg

في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قُتل الطفل خالد محمد جبر بصاروخ إسرائيلي موجه استهدفه رفقة عائلة والدته، فقتل والدها وشقيقها وزوجات أشقائها وبناتهم ونجت هي لتروي حكاية الوجع الذي لا يشفى. السيدة آمال "إم خالد" كما تحب أن تُنادي، تعمل في مؤسسة دولية إنسانية نزحت من بيتها في تل الهوا بمدينة غزة إلى الجنوب في رفح لبيت والدها ظنًا منها أنه أكثر أمنًا ولكن استهدافها مع عائلتها يثبت كذبة المناطق الآمنة التي ادعي الجيش الإسرائيلي وجودها في غزة.

تبدأ حديثها لبنفسج: "بديش ابني يكون رقم.. خالد مش رقم أبدًا.. ابني ذكريات وأحلام وطموحات.. ابني مشروع حياتي". وعن يوم استهدافهم الذي كان قبل التاسعة صباحًا بقليل، كانوا لتوهم استيقظوا بعد قصف متفرق على رفح، تقول آمال: "كنا جميعًا معًا في صباح الـ17 من أكتوبر، عندما تم قصف بيت أهلي والبيوت المجاورة، كان ذلك اليوم مروعًا بكل تفاصيله. بعد القصف.

 وجدنا أنفسنا تحت الأنقاض. ولأنني كنت لا أزال على قيد الحياة، اعتقدت في تلك اللحظة أن الجميع بخير، وأنهم جميعًا ما زالوا على قيد الحياة. لكن الحقيقة التي واجهتها بعد ذلك كانت مؤلمة إلى حد لا يوصف. اكتشفت أن والدي، وأخي، وزوجات إخوتي، وبنات أخي استشهدوا جميعًا".

تكمل لبنفسج: " بعدما أخبروني باستشهاد العائلة، سألت على طفلي خالد فأجابوا أنه اُستشهد أيضًا، وهذا الخبر الذي لم أستطع تصديقه، وأيضًا لم يُصدق لحد أن حياته انتهت، وأنا كيف لي أن أصدق أن ابني الذي كان محور حياتي قد رحل؟ كان الأمر أكبر من قدرتي على الاستيعاب، وحتى اليوم، لا أستطيع أن أصدق أن خالد لم يعد موجودًا".

تعتبر أم خالد من المحظوظين الذين ودعوا أطفالهم الوداع الأخير وطبعوا قبلة الوادع على الجبين، فأن تتمكن من توديع طفلك لشيء عظيم في زمن الحرب المجنونة، كان قطعة واحدة دون خدش واحد، بملامحه البريئة، ووجهه الأسمر الجذاب، وضعوه في كفنه وجلبوه لها لتراه للمرة الأخيرة، فكانت أصعب لحظة بحياتها على الإطلاق، مر أمامها شريط السنوات الطويل.

 الأمنيات الطويلة في طفل يضيء عتمتها، وعمليات متتالية لأجله، دفعت ثمن إنجابه غاليًا جدًا وفجأة فقدته، قطعها من تفكيرها الطويل آلامها الجسدية فهي التي انطبقت الطوابق الأسمنيتة على رأسها أيضًا ولكنها عاشت، لتعيش ألم الفراق وحدها. عاش خالد ليال قليلة من زمن حرب الإبادة هذه، ولكنه على دراية تامة بما الذي يحدث وقت الغارات الشديدة، يحفظ صوتها عن ظهر قلب، يميزه بشكل جيد للغاية، فقد عاش العدوان الإسرائيلي في مايو 2021.

 تردف والدته لبنفسج: "لم أكن بحاجة لشرح أو تفسير ما الذي يحدث!  شعرت حينها وكأن أطفالنا يكبرون وهم يحملون في ذاكرتهم معنى الصواريخ والخوف، دون أن نعلمهم أو نشرح لهم ما يجري حولهم، كان خالد على الرغم من عمره الصغير يتعامل مع المواقف بخوف داخلي مخفي، لكنه كان يحاول دائمًا أن يظهر لي القوة والاطمئنان".

ماذا كانت ردة فعله عند سماع أصوات الغارات الإسرائيلية العنيفة؟ تجيب آمال: "عند القصف، كان يمسك يدي بقوة ويقول لي: "ما تخافي، يا ماما". كان من الصعب عليَّ أن أرى طفلي يتعامل مع شيء بهذا الحجم من الألم والرعب، لكنه، بطريقته الخاصة، كان يمنحني القوة التي كنت أحتاجها للاستمرار".

في سيرة الطفل الشهيد خالد

سيرة.jpg

كل أم في الدنيا لها حكاية مع طفلها الذي جاء الدنيا بعد عناء، فأم خالد من النساء اللواتي خضعن لعملية زراعة الأنابيب لتكون أمًا، ونجحت بعد 3 محاولات، تقول آمال: "كان لخالد أخ توأم توفي بعد 3 أيام بسبب قلة الإمكانيات في الحضانات بغزة ثم خرجت به إلى القدس، حيث كان لا يتجاوز الكيلو ونصف ووضعه الصحي سيء حتى خرج من المستشفى بعد شهرين، فكتب له النجاة إنذاك، لتقتله "إسرائيل" الآن".

تكمل لبنفسج: "طفلي كان يحب هواياته بشدة، كان يمارسها بشغف مثل كرة القدم والسباحة وركوب الخيل،لم يكن مجرد طفل عادي، بل كان ينبض بالحياة في كل لحظة، ويمغمر كل مكان يذهب إليه بالفرح والضحكات.

خالد لم يكن فقط ابني الوحيد، بل كان مشروع حياتي، مصدر سعادتي وفخري وقوتي. كانت ابتسامته وطاقته الإيجابية تضيء أي مكان يتواجد فيه، لدرجة أن كل من حوله كانوا يحبونه كما لو كان الطفل الوحيد في هذا العالم. كان قلبه الصغير مليئًا بالحب والبراءة، وروحه كانت مليئة بالأحلام التي لم تتحقق".

 كان لخالد هوايات يحبها، كان يمارسها بشغف مثل كرة القدم والسباحة وركوب الخيل،لم يكن مجرد طفل عادي، بل كان ينبض بالحياة في كل لحظة، ويمغمر كل مكان يذهب إليه بالفرح والضحكات. خالد لم يكن فقط ابني الوحيد، بل كان مشروع حياتي، مصدر سعادتي وفخري وقوتي

في كل ليالي آمال يلوح أمام ناظريها ضحكة خالد، شعره الكيرلي الذي تحب، السن المكسور الذي يميزه حين يضحك، ونظرته وهو خائف عندما يراها مريضة أو حزينة، فتضيف لبنفسج: "كان كتير بقلق عليا لو تعبت وعيونه بتقلي أنا موجود عشانك، ما تبكي يا إمي".

تكمل: "وجود خالد في كل تفاصيل حياتي جعلني متصالحة مع كل شيء حتى الخسارات أو الإخفاقات التي كانت في حياتي كنت أتجاوزها لأن خالد موجودًا، لم يكن شيئا مهمًا في حياتي كوجوده فيها ولا شيء كان يجعلني أقوى مثلما كان حضوره يفعل. خالد لم يكن فقط طفلي، بل كان الأمان والراحة التي كنت ألجأ إليها دائمًا".

أحلام لم يُكتب لها البروغ

أح.jpg

تحكي لنا والدته عن حبه العميق لغزة رغم صغر سنه، فماذا تفعل البلاد بأولادها ليحبوها كل هذا الحب، لا أحد يعلم سر العلاقة بين الغزي وغزة سواه، فتقول لبنفسج: "خالد كان يعشق كل شبر في غزة وكأنها كلها بيته حتى عندما كنا نسافر خارج غزة كان دومًا يتحرق شوقًا للرجوع، أذكر أنه بكي كثيرًا.

 فقد قضينا آخر عيد أضحى له في تركيا وكان يريد أن يقضي العيد في غزة ووعدته بعدها أنه سيكون هذا أخر عيد له خارج غزة، وأننا مهما سافرنا سنعود وقت الأعياد الى غزة، ولكن هذا لن يحصل أبدًا بعد قتل "إسرائيل" له".

أما عن أقرب الأماكن في غزة لقلبه، مزرعة جده، وأماكن الألعاب والمطاعم، كان ينتظر موسم الزيتون ليساعد والدي في قطافه، ولكن الجد رحل مثله تمامًا والأرض وكل غزة، أما المطعم الذي كان يحبه خالد "أيطاليانو" والذي دمره الجيش الإسرائيلي بالكامل، وقتل أصحابه جميعًا دفعة واحدة.

كانت أم خالد تجاهد لأجل الثبات والصبر، تستطع مرات ومرات أخرى يغلبها يأسها، فتبكي بعنف، في مرة وبعد نوبة حزن شديدة، زارها خالد في المنام مرتديًا أجمل ملابسه، ويخبرها أنه بخير. فتقول لبنفسج: "هديك اللحظة حسيت أنه الله بطبطب على قلبي وأنه خالد مبسوط وبرعاية الله".

تنهي حديثها لبنفسج: "كان خالد هو المستقبل، كل أحلامي تتعلق به وبمستقبله. كنا نحلم سويًا بسعادته، بنجاحاته، وبكل خطوة كان من المفترض أن يخطوها في حياته، كنت دائمًا أتخيل يوم تخرجه لدرجة أنني جعلته يلتحق بمدرسة بريطانية  دولية لكي يتجنب ضغط الثانوية العامة وانتظار النتائج، أريد أن أراه يكبر ليصبح شابًا يحقق أحلامه مثلما يحلو له، كنا نتحدث عن الكثير من الأشياء الصغيرة التي كان ينتظرها مثل السفر لرؤية العالم واكتشافه ولكن الاحتلال دمر كل شيء، لم يدمر فقط بيوتنا، بل دمر أحلامنا وآمالنا".