يوافق 23 كانون الأول/ ديسمبر عيد ميلاد الطفلة الشهيدة "ريم"، الذي هو ذات يوم مولد جدها خالد نبهان أيضًا. واستشهدت ريم وشقيقها طارق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 بعد أن قصف الاحتلال منزلا بجوارهم، ما أدى إلى تضرر منزلهم وانهياره بالكامل في غزة. واليوم يرحل جد أطفال فلسطين كلهم العم أبو ضياء شهيدًا بعد أن قصف الاحتلال مكان سكناه في مخيم النصيرات.

أيقونة العالم الحرّ

شَخَصَ، أي ظَهر، شُخوصًا، أي ارتفاعًا، هذا تعريف اللغة للشخص، أما علم النفس فيضيف تعريفًا آخر للشخص character فضلًا عن الشخص المؤثر. الشخصية التي تبقى حاضرة في أذهان الناس مهما تعاقب الزمان، إذ تبقى كلماتهم وصورهم وكل شيء مرتبط بهم حاضرة في الذاكرة وشاهدة الناس.

الشخصية كما في علم النفس هي جملة الطرز والسمات التي يتميز بها الفرد عن غيره، فتكون مميزة له وبه، كالتي نتذكر بها الشيخ أبو ضياء على سبيل المثال، وعدنان البرش، ووائل الدحدوح. إنها الجانب الذاتي الذي يتميز به الفرد في توافقه مع بيئته وتوؤمه مع ظروفها حتى لو كانت في بيئة تصعب معها الحياة أو محاولة البقاء على قيد الحياة، فتظهر في أخلاق الفرد ومزاجه وقواه البدنية والعقلية.

وتتمظهر على شكل مجموعة من المظاهر والسمات الجسمية والعقلية والانفعالية والاجتماعية التي يمتلكها الفرد بطريقة مغايرة لمن حوله بحيث تجعله متميزاً عن غيره، كأن يكون أكثر ثباتًا وصبرًا وقدرة على التكيف. وبالتالي يتخذ مسارات من التنظيم المتكامل الذي يحتوي على جملة من الميول والاهتمامات والاستعدادات والمهارات الجسمية البدنية والعقلية.

 يتحدّد بمقتضاها الأسلوب الذاتي للفرد في تفاعله وتكيُّفه مع بيئته المادية والاجتماعية. حالة التكامل والتلاؤم الوظيفي لجميع الأنماط السلوكية والاستجابية التي يتعلّمها الفرد خلال ممارسته للأنشطة المختلفة في حياته داخل الجماعات كالأسرة والحي والمدرسة والعمل، أو أيًا كان شكل المجتمع، مثل مجتمع النزوح في غزة على سبيل المثال.

يكسر الحواجر

هذا الشيخ أبو ضياء رحمه الله، خالد نبهان، أوجد لها مكانًا في شاهدتنا، ابتسامته، لحيته، ملابسه، كلماته، نبرة صوته، بل أننا نسخنا قولًا عنه تحول لما يشبه مقولة فلسطينية "روح الروح" أصبحت مرتبطة به، وهي انزياح اجتماعي ثقافي صار تقليدًا موروثًا عنه لمعاني الوالدية، الجدّ، القريب، في فلسطين.

الشخص المؤثر هو الذي يتواءم مع الظروف ويضبط انفعالاته وتصرفاته وأفعاله وتعبيراته بمسار يساعد الناس من حوله ويخفف عنهم وطأة الظرف وصعوبتها. فالعم ضياء بعد أن فقد حفيدته "أيقونة روح الروح"، أصبح همّه مواساة الناس، والتواجد في المشافي يخفف عن الجرحى ويساعد الطواقم الطبية في الجانب الإنساني.

عرف أبو ضياء دوره في الحرب في انتقاله من الجدّ الحاني، الذي يلاعب أحفاده ويعطف عليهم. الجد الرحيم بأحفاده، يمشط شعر ريم ويحتضنها، ويساعد ابنته، وكثير من الشواهد الأخرى. يتغير اشتغال أبو ضياء الاجتماعي والعاطفي على مستوى غزة وخارجها، ويوسع دائرة تأثيره على المصابين والجرحى والمحتاجين والمشردين وعلى الحيوانات الأليفة.

وهو شخص يعي الدور الذي ينعكس في شخصيته المؤثرة وقبولها لدى الأهالي في غزة والجماهير عبر السوشال ميديا واللقاءات التي أجريت معه واللقطات التي نشرت له وهو يطعم القطط في زمن المجاعة والإبادة.

لا نبالغ حين نقول أن أبو ضياء نحت مصطلحًا جديدًا، وكذلك خلق حالة اجتماعية جديدة في الحرب، اتخذت انزياحات وسياقات مختلفة في مجتمع الحرب. كما فعل وائل الدحدوح في صموده وصبره وتضحيته ومقولته "معلش"، وكذلك أيضًا الشيخ الذي كان يصبّر الناس على فقدهم في تجلي معاني الشهادة ومقولته "تعيطش يا زلمة"، أصبحنا نردد هذه المقولات بوعي وغير وعي، في مناسباتها وغيرها في مجريات حياتنا الاجتماعية، وهذا ما يعنيه الشخوص/ الحضور للمؤثرين في حياتنا.

الأشخاص المؤثرين هم الذين لديهم القدرة على التفاعل مع المجتمع بمختلف شرائحه ومكوِّناته وظروفه، وهذا التفاعل يساهم في دفع الآخرين للمتابعة، بل وفي بعض الأحيان الاقتداء لأن أصحاب هذه الشخصيَّات تثبت أن الصمود فعلي واقعي في زمن كزمن الحرب والقتل والإبادة. لقد قتل حفيداي، روحي، بل روح روحي، وهأنا صامد، أنا مثال واقعي للصمود والثبات، بل والتأثير أيضًا في أعماق وعي الناس.

حتى أن مشاهد الشيخ أبو ضياء وهو يلاعب حفيدته ريم ويمشط شعرها، ويلعب معها، ستظل عالقة صورة ماثلة قائلا: "روح الروح". يغمس لحيته الطويلة مرارًا على وجه ريم النائمة، يعانقها مرة، وثانية وثالثة، حتى لأنه يستلقي إلى جانب جثمانها وهو مسجى في الكفن إلى جانب شقيقها الصغير. هذه الصور شاهدها كل العالم، ورفعها المتظاهرون في المسيرات والاحتجاجات على الإبادة التي تجري في غزة. وهذا دليل إلى تحولها إلى أيقون عالمية صنعها العم أبو ضياء ويحملها الآن أحرار العالم مهما اختلفت القضايا التي يحاربون من أجلها وستبقى كذلك.

رسائل مسموعة

أرسل العم أبو ضياء رسائل كانت آخرها قبل أن يستشهد بأيام، إحداها أن تنتهي الحرب لأجل الأطفال، كل الأطفال في العالم، أطفال غزة الذين أنهكتهم الحرب وبعثرت أجسادهم، الجرحى والحرجى والمبتورين والأيتام. ورسالته الثانية وكأنها موجه إلى ريم الحفيدة: لقد اشتقت ياريم ... تنازعني الروح... هل من لقاء؟ لقد توصل الله بدعائك يا عم أبو ضياء، فللك التقيت بروحك، لقاء الأرواح بعد شوق دام عامًا.

وعرف عن الشيخ نبهان عمل الخير وتوزيع بعض الملابس الشتوية على الأطفال خلال فصل الشتاء الماضي مع استمرار الحرب، كما أنه ظهر في مقاطع أخرى وهو يطعم القطط الضالة ويعتني بها. وظل العم يتنقل بين عائلات الشهداء والمصابين يواسيهم بذكر آيات من القرآن وأجزاء من السيرة النبوية، والاستشهاد بما حدث له. وانتشرت له العديد من المشاهد، وكان في أحدها يواسي طفلة بُترت قدمها جراء غارة إسرائيلية.

وكان آخر ما نشره خالد النبهان عبر فيسبوك قبل أسبوع، مقطع بعنوان "نحن على العهد باقون يا بلادي"، وأرفقه بوسم “روح الروح”. وظهر فيه العم أبو ضياء بصورة ثابتة له رافعًا علامة النصر، وكلمات من أنشودة “هل نلتقي؟” تظهر على الصورة، تقول “هل نلتقي فالبعد مزق خافقي؟ هل نلتقي من بعد شوقٍ محرقِ؟”.

يقول الشيخ الشهيد: "كأن (روح الروح) على قيد الحياة، يعني أنا كنت بودّع روحي، كنت أشعر أنها قطعة مني. كانت في كل يوم في كل لحظات جزء مني وأنا جزء منها، ألاعبها، أداعبها، أجيب لها أشياء، ما كنت أتوقع في لحظة من اللحظات إني أفقدها. كل شيء نتجرّعه إلا الفقد، يعني ممكن يتجرع الإنسان كسر، جروح، هدم، لكن إنه يفقد إنسان غالي على قلبه ويعدّه مهجة قلبه وروح روحه، إنه يفقده فجأة في لحظة غدر، لحظة قصف، يعني يتعرض لها بدون سابق إنذار، بدون تحذير، بدون وجه حق.

فأنا في هذه اللحظة لما فقدت ريم وطارق رحمة الله عليهم وعلى كل الشهداء، يعني كان في قلبي من المرارة والأسى وقساوة لحظة الفراق ما جعلني ما أتمالك نفسي غير إني أنا بتعامل معها كأنها على قيد الحياة، بقبّلها كأنها على قيد الحياة، مش قادر أستوعب مدى الصدمة التي تعرضت لها. بإذن الله سنبقى في هذا المكان، وإذا الله كتب لنا الحياة فمرحبًا بالحياة، وإن كان الله عز وجل كتب لنا الموت فمرحبًا بالموت ومرحبًا بلقاء الله. الناس هنا كلها كلمتها واحدة، لن نخرج من هذا المكان، حدث ما حدث، إن معنا ربنا سيهدينا، وكلنا ثقة في الله أن الله معنا ولن يتركنا ولن يخذلنا".

"مطلوب من العالم كل العالم أن ينظر لنا نظرة رحمة، خاصة ونحن نقترب غدًا من ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام، الذي نزل برسالة السلام كباقي الأنبياء والرسل. على مجلس الأمن والأمم المتحدة والعالم الحر والدول العربية أن يساعدوا في رفع الظلم عنا، إلى متى سنبقى في هذه الحال؟.

مشاهد في الذاكرة

أثناء بكاء الأم وابنتها أمام المستشفى قبل أن يتم دفن شهدائهم، حاول خالد نبهان مواساة الأم ضاربًا مثلًا بما حدث معه من استشهاد أحفاده وأفراد من أسرته. وقال لها “ماتوا أعز اتنين عندي، ريم وطارق -أحفاده- والله كلهم غاليين وكلهم عسل وكلهم ذهب صافي، هما راحوا عند ربنا اللي هو أحن مني ومنك، احنا زينا زيكم ماتوا لنا غاليين واستشهدوا، وعشرات أيضًا من جيراننا وولاد أخواتنا وأقاربنا... بس بنقول اللهم أجرني في مصيبتي، وطلب من السامعين ترديد الدعاء من ورائه.

وانتشر له مقطع فيديو وهو يواسي طفلة أصيبت بقذيفة إسرائيلية تسببت في بتر أحد قدميها، وقال لها إن هذه القدم ستسبقها إلى الجنة، كما انتشرت له مقاطع فيديو وهو يلعب مع الأطفال الصغار محاولًا التخفيف عنهم.