بنفسج

د. رفعت العرعير: وجه غزة الذي قتله الاحتلال

السبت 11 يناير

رفعت العرعير... نحن لسنا أرقامًا
رفعت العرعير... نحن لسنا أرقامًا

إذا كان لا بد أن أموت، فليأتِ موتي بالأمل، فليصبح حكاية".. قالها رفعت العرعير قبل استشهاده، دمج بين فعلي الأمل والموت، ظل بارعًا في نص النصوص الشعرية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، آمن بقضيته الفلسطينية وظل يحكي عنها بكل المحافل الدولية، وأقسم بينه وبين نفسه في بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، أنه إن كُتبت له نجاة من الحرب فسيكون كاتبًا يحكي عن الشعب المكلوم ومشاعره في ظل أشرس حروب التاريخ.

 كان يكتب بالإنجليزية دائمًا لتصل نصوصه إلى العالم بأسره، ليقل بمليء الفم: "نحن هنا.. وعندما نكتب عن الشهداء يجب أن نذكر أن الاحتلال قتلهم، يجب أن لا نُترك للفعل المجهول". وهذه المادة تسليط الضوء  على الشاعر والأديب الفلسطيني ابن حي الشجاعية الشهيد رفعت العرعير، سيرته الذاتية، وأعماله، ونصوصه عن القضية الفلسطينية، منصته "لسنا أرقامًا" الذي كان مساهمًا بارزًا في فريقها، يحكي بها بالإنجليزية عن قصص الشهداء الفلسطينيين.

في سيرة رفعت العرعير

رفعت العرعير في الذاكرة.jpg

أكاديمي وشاعر فلسطيني، ولد في غزة 23 أيلول/ سبتمبر 1979، متزوج وله 3 أبناء، حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية عام 2001 من الجامعة الإسلامية في غزة، ودرجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة "يونيفرستي كوليدج" في لندن، ودرجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة بوترا في ماليزيا عام 2017. عمل أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية في غزة، وأشرف على قسم الإعلام الاجتماعي في المركز الفلسطيني للإعلام، وأحد مؤسسي مشروع "نحن لسنا أرقامًا".

له مؤلفات عديدة، أبرزها كتابه "غزة تعود للكتابة" الذي خرج للنور في عام 2014، وبعدها أصدر كاتبه "غزة تخرج عن صمتها، وكتب مقالات باللغة الإنجليزية في عدة صحف أجنبية، وأبرزها افتتاحية لنيويورك تايمز عام 2021. في ما وهب حياته لأجل فكرته التي آمن بها، وورثها لطلابه، فاهتم بتعليمهم أسس سرد الرواية الفلسطينية التي تمزج بين المقاومة والحياة، ليحكوا عن فلسطين بالإنجليزية وليوصلوا الرسالة السامية إلى العالم، وليدحضوا الروايات الإسرائيلية التي تظلم الفلسطينيين.

وجه غزة المقاوم بالكلمة

حفيد رفعت العرعير.jpg

بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014، نشط رفعت العرعير في الحديث عن حكايات الشهداء، رفض أن يكونوا أرقامًا، بل أصر على النظر إليهم أنهم أحلام وأمنيات وقصص، فساهم في تأسيس موقع "نحن لسنا أرقامًا"، لتوثيق قصص الشهداء. وفي كتابه الذي ألفه بالإنجليزية "Gaza Writes Back"، عمل على تجميع قصص الكّتاب الشباب في غزة، الذين عانوا ويلات الحروب المتواصلة والحصار الإسرائيلي على مدى 17 عامًا.

وثق العرعير  الرواية الشفوية لمن عاصروا الحقبة الزمنية التاريخية القديمة، وعكف على سرد حكاياتهم وتوثيقها، وعقب على خطواته بتوثيق حكايا كبار السن: "الرجل الذي أنا عليه الآن بسبب القصص التي روتها لي أمي وجدتي". يجزم العرعير أن رواية القصص تتجاوز القيمة التعليمية إلى الحاجة لامتلاك روايتنا القديمة، إذ أن القصص التي يرويها السكان على أي أرض كانت، هي دليل جازم بأن لهم حق في الأرض.

وأثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2023، ظل صامدًا في شمال غزة ورفض النزوح للجنوب بعد أوامر الإخلاء، الرجل المحب لحي الشجاعية أبى الخروج منه، وكان يتنقل بعد انقطاع الإنترنت والاتصال ليتمكن من الولوج لمواقع التواصل الاجتماعي لينشر نصوصه بالإنجليزية للعالم. وكان له بصمة وحضورًا كبيرًا على العديد من القنوات التلفزيونية الأجنبية، ليكون صوت غزة في ظل العالم المتخاذل، وليدحض روايات الاحتلال الكاذبة.

لم يتوقف عند حد الظهور على القنوات، بل أسس صفحة "شهداء غزة" لتوثيق قصص الشهداء وصورهم، وعرف الصفحة قائلًا: "لأنهم ليسوا أرقامًا، هُنا نحكي قصة الشهداء، حياتهم، ذكرياتهم، أحلامهم.. اكتبوا لنا وأرسلوا، لنحكي لكلّ العالم عن شهداء غزة". واهتم بترجمة كل قصص الشهداء الواردة على الصفحة إلى اللغة الإنجليزية، لإثبات الرواية الفلسطينية وفضح جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي غزة.

ماذا قالوا عن الأديب رفعت العرعير؟رفعت العرعير نحن لسنا أرقامًا.jpg

قبل رحيله، وتحديدًا في نوفمبر، أعلن رفعت العرعير عن نصه الشعري، الذي أوحى لقارئه باقتراب أجل كاتب النص، لربما أخبره حدسه بدنو الأجل، فكتب لمحبيه قائلًا: إذا كان لا بدّ أن أموت.. فلا بد أن تعيش أنت..‏لتروي حكايتي.. ‏لتبيع أشيائي..‏وتشتري قطعة قماشة وخيوطًا.. (فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل) كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة.. ‏وهو يحدّق في السماء.. منتظرًا أباه الذي رحل فجأة.. دون أن يودّع أحدًا.. ولا حتى لحمه أو ذاته".

إذا كان لا بدّ أن أموت.. فلا بد أن تعيش أنت..‏لتروي حكايتي.. ‏لتبيع أشيائي..‏وتشتري قطعة قماشة وخيوطًا.. فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة.. ‏وهو يحدّق في السماء.. منتظرًا أباه الذي رحل فجأة.. دون أن يودّع أحدًا.. ولا حتى لحمه أو ذاته...

ألقى الممثل الاستكتلندي براين كوكس قصيدة رفعت الأخيرة، في ما ألقتها أيضًا ناشطة أمريكية في مقطع مصور تدواله رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وجابت صورته أرجاء المظاهرات الداعمة لفلسطين، وظل الشباب الغزي يحكي شعره ويتناقله. كان سلاح رفعت قلمه وكلمته، وبراعته في حياكة النصوص الشعرية، وقدوته محمود درويش وعمر الخيام وشكسبير، قال معرفًا عن نفسه: "أنا أكاديمي، وإذا هاجم جنود الاحتلال بيتي، فإني سألقي عليهم القلم.. ولو كان آخر شيء أفعله".

عرفته شوارع الشجاعية، أحبها وأحبته، رفض فكرة أن يكون مغتربًا، على الرغم من براعته وإتقانه للغة الإنجليزية، وفطتنه التي تؤهله للإبداع خارج حدود الوطن، إلا أن البلاد حاضرة في قلبه، وأكد ذلك صديقه المقرب الكاتب يوسف الجمل: "كان فخورًا بكونه ابنًا للشجاعية، ويتحدث كثيرًا عنه في كل المحافل".

في ما قال صديقه وتلميذه ياسر عاشور: "رفعت العرعير رجل يمكنه زيارة أي دولة في العالم، لكن خيار العودة لديه كان دائمًا حتميًا، ظل يكرر هذه الفكرة، وسمعت من صديق لنا كان مغتربًا وعاد لغزة أن رفعت تحدث معه بفكرة العودة للمكان الذي يشبهه". تحدث الكاتب أنس أبو سمحان في حوار صحافي سابق عن صديقه، وأضاف: "رفعت كان يناضل بطريقته الخاصة، آمن بأنه ثغر من ثغور القضية، ويجب عليه استغلال منصبه الأكاديمي والشعري بأكبر قدر ممكن لإيصال صوت فلسطين".