بنفسج

قصة الشعب الذي لا يقهر

الأحد 19 يناير

الشعب الفلسطيني الشعب الذي لا يقهر
الشعب الفلسطيني الشعب الذي لا يقهر

حان وقت البكاء، بداية سوداوية، صحيح؟! هذه السوداوية يا سيدي هي أسمى أحلام مليوني شخصٍ تداعت عليهم القاصماتُ، حتى أن الزمن انتزع منهم حق البكاء، بل دعني أخبرك ألَّا شيء أقدر منها على ضمد جراحهم ورأب صدوع نفوسهم وتثبيت أفئدتهم. البكاء والنحيب كانا رفاهية لم يحظوا بها أمام أهوالٍ وقعت أمام أعينهم.

شاهدنا جزءًا منها على الشاشات أقلق منامنا وأرهق نفوسنا، فغدونا نتحكم في معدلات متابعتنا لها لئلا تتوقف حيواتنا. بل إن المرء ليشقّ عليه أن يبكي إذا فاق أساه حدًا معينًا يستحيل معه البكاءُ راحةً لمن استطاع إليه سبيلًا. غريبٌ توقعُك أن يفعل العائدُ من الموت شيئًا غير أن يبكي، "حان وقت البكاء" هي البشرى المنتظرة منذ الساعات الأولى للحرب، لكل من باتوا لا يُميِّزون إن كانوا قد نجوا أو نجى الراحلون دونهم.

أصوات النحيب والأنين المنبعثة من جروحٍ قلبيةٍ غائرة تكاد تُسمع الموتى، وأُوشك أن أرى العبرات المتسارعة لا تدري أيَّ شيء تبكي أولًا؛ المنازل المهدمة أم الذكريات الضائعة أم العمر المُهدر أم رفاق المنازل والذكريات والعمر الذين قُتلوا بغير ذنب دون فرصةٍ لِوداع أو مساحةٍ لوَصية. منذ التصاعد الأول لأدخنة الحرائق التي خلَّفتها الصواريخ مختلطةً برماد الأبنية المنقضَّة.

أصوات النحيب والأنين المنبعثة من جروحٍ قلبيةٍ غائرة تكاد تُسمع الموتى، وأُوشك أن أرى العبرات المتسارعة لا تدري أيَّ شيء تبكي أولًا؛ المنازل المهدمة أم الذكريات الضائعة أم العمر المُهدر أم رفاق المنازل والذكريات والعمر الذين قُتلوا بغير ذنب دون فرصةٍ لِوداع أو مساحةٍ لوَصية...

 كان واضحًا أن شيئًا لن يعود لطبيعته، وأن الأمور لن تعود لمساراتها قبل هذا المشهد، وفي يوم المعمداني تحديدًا اتضح أكثر أن هذا العالم سيخلع قناع الوَداعة ويواجهنا بنسخته الأقبح، وبالفعل جرت الأحداث نحو ما أثبت ذلك. ولكن في يوم "جمال الدين أبو العلا"، وفي يوم "هند رجب"، وفي يوم "يوسف" أبو شعر كيرلي، وفي يوم "إسماعيل الغول" وفي يوم "السنوار".

 وقبلهم وبعدهم وبينهم أيامٌ كثيرة لا تسعها الصفحات، وفي أيامهم أسماء لسِواهم لم نعرفها، بدا واضحًا أيضًا أننا أمام أبطالٍ خارقين في صمودهم وإبائهم وإخلاصهم لقضيتهم وفدائهم لأرضهم.  وهم على ذلك لا ينفكُّون ينزعون عن أنفسهم ثوب البطولة في تأكيد لمقولة أخذ صاحبها نصيبه منها بدوره، حين قال محمود درويش "البطل هو آخر من يعرف أنه بطل".

دارت رحى الحرب لعامٍ وأكثر، هاجمت أثقل الأسلحة وأحدث الصواريخ المدنيين في بيوتهم ثم في خيامهم، أحرقتهم أحياءً ونزعت جلودهم أمواتًا؛ ليدرك جيلنا فجأة أنه يشهد معركة بين سلالتين فريدتين من بني البشر، طفرتين چينيتين متضادتين، واحدة تحمل أحطّ خصال بني آدم كأن مسًّا من الشيطان فيها، وللثانية أنبلها وأنقاها حتى أن لو كان لعيسى -عليه السلام- نسلٌ لحسبناها، وهنا يكمن سرُّ إصرار كليهما على رفض الامتزاج.

بعد مزيج من العنف والوحشية لم نرَ له مثيلًا، وفي أعقاب قسوة تابعناها، وما خفي ربما كان أقسى، جاء الانتصار في صورة فرصةٍ لنفسٍ عميق، وإن كان فوق الرماد، ولكنه يبقى لأناسٍ لايزالون قادرين على رفع رؤوسهم وصلب قاماتهم والوقوف على أرضهم ولو بأقدامٍ مبتورة. فـ"نفسي الفداء لكل منتصرٍ حزين"، اجتمعت قوى الشر على عقابه لأنه -فقط- طمع في حياةٍ حقيقية.

أما إن كنت تسأل : هل انتهت القصة؟! إجابتي أن هذه ليست المرة الأولى على الأرض التي يتداخل فيها الأنينُ المكتوم مع همسات الفرح وأصوات الأنفاس العالية تشق إلى الصدور أعماقًا لم تعرفها منذ فترة، يحدث هذا كله ساعة الولادة، وفي التشابه علامة سيُجليها الزمان حتى تغدو بازغة كالشمس. وللحديث بقية، لأن للقصة بقية مادام في العمر بقية.