لا شك أننا منذ بدأت إبادة إخوتنا في غزة سمعنا وقرأنا ورأينا الكثير عن ضرورة المقاطعة، وتحرّينا عن المنتجات المعادية لتجنب شرائها إيمانًا بأن هذا هو السلاح الذي يمكننا المقاومة عبره، وقد رفعنا أصواتنا عند بدء الهدنة محذرين من التراخي والعودة إلى ابتياع منتجات معادية، مذكّرين أن المقاطعة حرب لا هدنة فيها،وتاريخ المقاطعة الاقتصادية: شعوب تقتص من محتليها هو الشعار لنا، فلم نكن لنموّل الحرب التالية، وتوقفُ إطلاق النار لا يعني أن عدونا لم يعد عدوًا، ولا أن مموليه سقطت عنهم جرائمهم، فسرعان ما نقض الصهاينة الهدنة وانقضوا على أهالينا بوحشية أكبر.
وليس غريبًا عليهم أن يكونوا بلا عهد لهم ولا ذمة، لكن نحن من يجب أن نوفي بعهدنا لإخوتنا وأنفسنا بالاستمرار في المقاطعة لنوضح أسباب اعتمادنا عليها في مجابهة العدو، إذ كلما تجبّر عدوانٌ ما تصبح مقاومته أصعب، وأمام قلة الخيارات المتاحة لمن يقاومون أنظمة عالمية متكتلة وليس عدوًا واحدًا بمفرده يبرز خيار المقاطعة باعتبارها مقاومة مشروعة.
تاريخ المقاطعة الاقتصادية: شعوب تقتص من محتليها
بالنظر إلى الوراء والعودة إلى تاريخ المقاطعة تطالعنا أمثلة تاريخية كثيرة واجهت فيها الشعوب مستعمريها أو ظالميها بسلاح المقاطعة الاقتصادية وكان لاستخدامها نتائج إيجابية. وفي الأصل تعود كلمة boycott إلى أول حادثة نعرفها؛ ففي القرن التاسع عشر قاطع الإيرلنديون وكيل الأراضي البريطانية تشارلز بويكوت لرفعه إيجار الأراضي ما أدى إلى عزل السكان له في النهاية.
وبالوصول إلى العام ١٩٣٠ كانت الهند تحت الاحتلال البريطاني المحتكر لموارد البلد والذي فرض على الملح ضرائب كبيرة رغم أنه من إنتاج الهند؛ فخرجت مسيرة الملح التي مشى فيها الهنود حوالي ٤٠٠ كم ليصلوا إلى شاطئ البحر ويصنعوا الملح بأنفسهم رفضًا لشرائه من البريطانيين، ثم وسعوا حركتهم وقاطعوا أي منتج بريطاني لينهار الاقتصاد البريطاني تدريجيًا وتخرج بريطانيا من الهند بعد سبعة عشر عامًا.
ولا ننسى نظام الأبارتهايد الجائر ضد السود في جنوب إفريقيا الذي حرمهم من أبسط حقوقهم فواجهه العالم بسلاح المقاطعة، دول كثيرة منعت استيراد البضائع الجنوب أفريقية ورفض الرياضيون المشاركة في أي مسابقات فيها حتى انهار اقتصاد البلد عام ١٩٩٠ وبدأ عصر جديد في تلك المنطقة.
اقرأ أيضًا: المقاطعة خيارنا: أبرز "ماركات" مستحضرات التجميل الداعمة للاحتلال
وثاني هذه الأمثلة حركة المقاطعة الفلسطينية BDS، وهو مثال مشرف نفتخر به والذي يخصنا ويخص قضيتنا الفلسطينية العادلة. تُعرَف حركة مقاطعة إسرائيل بـ BDS وهي اختصار للكلمات التالية: boycott divestment sanctions أي المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. وقد نشأت في عام ٢٠٠٥ متخذة سلاح المقاطعة الثقافية والأكاديمية والاقتصادية وسيلةً لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي والضغط عليه وفضح جرائمه وداعميه.
ونظام الاحتلال نفسه يعتبر هذه الحركة من أكبر الأخطار الاستراتيجية المحدقة به لما لها من تأثير متصاعد وفعّال، وقد قامت الحركة لمحاربة ومقاومة هذا الكيان الاستيطاني المتغوّل بعد فشل الحكومات في إخضاعه وإيقافه أو بكلمة أدق عدم رغبة النظام العالمي في إيقافه لأنه وهو واحد.
وكانت مطالب حركة الـ BDS:إنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستيطانه لكافة الأراضي الفلسطينية. إنهاء كافة أشكال الفصل العنصري ضد الفلسطينيين. احترام ودعم حقوق اللاجئين الفلسطنيين بالعودة إلى ديارهم التي هجروا منها واستعادة ممتلكاتهم.
حركة المقاطعة BDS بعد حرب الإبادة ضد غزة
ذكر تقرير لـ وول ستريت جورنال أن الحملات المؤيدة لمقاطعة إسرائيل حظيت بدعم محدود سابقًا، ولكن في الأشهر التي تلت بدء الحرب على غزة نما دعمها واتسع نطاقها وترافقت مع حملات سياسية وقانونية غير مسبوقة ضد الصهاينة؛ فالجرائم المروعة التي ارتكبها الاحتلال تحت عين العالم أجمع والموثقة بآلاف الصور والڤيديوهات والمشاهد التي تفطر القلوب.
أثبتت للغرب حقده ومدى إجرامه وكثّفت الاهتمام بأحقية قضيتنا وعدالتها؛ فبعد حرب الإبادة تعززت حركة المقاطعة في البلاد العربية والإسلامية، واندفعت شعوبنا بحزنها وغضبها وقهرها لاختيار هذا السلاح رفضًا للإبادة بوصفه الوسيلة المتوفرة لدينا لمحاربة عدونا الذي يصبّ حقده على إخواننا الغزاويين والفلسطينين.
ولم تقتصر المقاطعة على المجتمع العربي والإسلامي بل وصل صداها إلى المجتمع الغربي الذي استنكر في مظاهراته الطلابية جرائم الصهانية ودعا لمقاطعتهم، وقد أسهمت مواقع السوشيال الميديا في تعزيز المقاطعة والدعوة إليها عبر حملات مكثفة فضحت الشركات الداعمة للاحتلال ولم تكتفِ بالمقاطعة الاقتصادية إنما دعت لمقاطعة الاحتلال فكريًا وثقافيًا، والابتعاد عن الاحتفاء بالمناسبات والأعياد والأفكار المستوردة منهم والعودة إلى التمسك بهويتنا وإحياء قضايانا ومحاربة أي محاولة للتطبيع مع الاحتلال وترويجه.
لماذا اخترنا المقاطعة ولماذا نصرّ عليها؟ تكمن الإجابة في قراءة تاريخ المقاطعة في العجالة السابقة، وفي قراءة الواقع الحالي يتضح أن المقاطعة هي أحد الخيارات القليلة المتوفرة لدينا، ويأتي إصرارنا عليها من كونها كلمة حق عند عالم جائر وسلاحًا في يد المجتمعات المغلوبة على أمرها.
وقد شُكّلَت حملات خاصة لمقاطعة المشاهير العرب المنسلخين من همومنا والذين لم يقفوا مع غزة في معاناتها، وجاءت آراؤهم باردة محايدة تساوي الضحية بالجلاد، وربما تقف مع الجلاد أكثر، وكذلك مقاطعة القنوات الإعلامية المميعة للقضية والمطبعة مع إسرائيل! ولهذا الغرض افتتحت حسابات ومواقع خاصة للدعوة إلى المقاطعة وتسهيل معرفة المنتجات الداعمة للاحتلال واقتراح البدائل لمساعدة الملتزمين بالمقاطعة على الاستمرار فيها.
وللإجابة على سؤال: لماذا اخترنا المقاطعة ولماذا نصرّ عليها؟ تكمن الإجابة في قراءة تاريخ المقاطعة في العجالة السابقة، وفي قراءة الواقع الحالي يتضح أن المقاطعة هي أحد الخيارات القليلة المتوفرة لدينا، ويأتي إصرارنا عليها من كونها كلمة حق عند عالم جائر وسلاحًا في يد المجتمعات المغلوبة على أمرها. عنجهية أعدائنا وتكبر الشركات العالمية الداعمة له جعلتهم يظنون أننا بلا قيمة، وأننا لا نستطيع الاستغناء عن منتجات يقدمها أعداؤنا وأنهم بالتالي محصنون لا يتأثرون بنا كمستهلكين عاديين، لكنّ المقاطعة لها رأي آخر.
نتائج مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال في حرب الإبادة
الشركات التي حسبت أن مقاطعتنا موجة سرعان ما تزول فوجئت بخسارات هائلة؛ إذ خسرت ستارباكس ٧٪ خلال ثلاثة شهور، وهبطت قيمة أسهمها هبوطًا بمليارات الدولارات وسرّح وكيلها في الشرق الأوسط آلاف العمال. وأقفلت كنتاكي وبيتزا هت ٥٣٧ فرعًا في تركيا وأعلنت الشركة المشغلة لهم إفلاسها.
وكذلك فقد أنهت شركة إريا Erreá الإيطالية دعمها لاتحاد كرة القدم الإسرائيلي متأثرة بنتائج المقاطعة. وتلقت ماكدونالدز ضربة موجعة إذ خسرتها المقاطعة أكثر من ٧ مليار دولار واخفضت مبيعاتها في الدول العربية بنسبة بين ٥٠ و٩٠ بالمئة. ولم تسلم متاجر كارفور الفرنسية من تأثير المقاطعة واضطرت لإغلاق عدد من المراكز التابعة لها بينها أربع مراكز في الأردن.
مستقبل المقاطعة: حرب لا هدنة فيها
نظرنا إلى الماضي والحاضر، والآن فلنسدد نظراتنا إلى المستقبل لكي نتحدث في عدة نقاط؛ أولها: أننا أثبتنا قوتنا وأظهرنا لهذه الشركات أن اتحادنا ممكن ولسنا مجرد مستهلكين مدمنين لمنتجاتهم، أو شعوب متفرقة بلا حول ولا قوة، وهذا سيجعلهم يفكرون مليًا بشأن سياساتهم وبشأن من يدعمون كما فعلت الشركة الإيطالية على سبيل المثال، أما الشركات الممعنة في عدائنا والرافضة لمراجعة مواقفها تثبت من جهتها أنها ستظل في صف أعدائنا، وأن هذا خيارها الذي له منا المقاومة المشروعة متمثلة بالمقاطعة.
وثانيها: ألّا نستعجل النتائج، فالتجارب السابقة تعلّمنا أن المقاطعة طويلة الأمد، كقطرة الماء المثابرة التي تنجح ولو بعد زمن طويل في حفر الصخرة. أما ثالثها: فهو أن نفتخر بما سببناه لهم من خسائر لكن دون أن يكون هذا معيارنا الوحيد للمتابعة، فحتى لو لم يترتب على المقاطعة خسارات واضحة سنستمر بها، وإن كنا نراها على أنها أضعف الإيمان فنتائجها المبشرة تمنحنا الحماس والشعور بفائدة ما نفعل، إلا أننا نستمر فيها لأنها الموقف الواجب على كل مسلم له قلب وضمير.
اقرأ أيضًا: المقاطعة خيارنا: أنا مستغني مش مقاطع
المقاطعة لا تنتهي بوقف إطلاق النار، لأنها متعلقة بمبدأ وفكرة وليس بفترة، وقد أثبت عدونا مع كل من يدعمه استعدادهم لتكرار الإبادة كما نرى بأم أعيننا، وحتى في الأوقات التي تتوقف فيها الحرب مؤقتًا لا يلهو أعداؤنا بل يعدّون العدة ضدنا دائمًا، فيجب أن نكون نحن أيضًا على استعداد ونعدّ العدة ضده وأحد عتاداتها هي المقاطعة، ولعل أكثر ما يدفعنا إلى الثبات على موقفنا هو المتابعة الدائمة لأخبار غزة واستحضار معاناة أهاليها المستمرة من احتراقهم أحياء وتهجيرهم، وفقدانهم لأحبتهم وأسرهم وإصاباتهم وجروحهم الجسدية والنفسية.
وما يزيدنا ثباتًا على موقفنا هو دراسة النتائج الإيجابية التي أحدثتها المقاطعة على مر التاريخ والتأمّل بها خيرًا، وعدم تسفيه مجهود الملتزمين بها وعدم الانجرار للفخ أو الوسواس القائل بأن القطعة التي سأبتاعها وحدي لن تؤثر في الاقتصاد العالمي ولن تشكّل شيئًا، فالالتزام بالمقاطعة موقف ديني وأخلاقي أولًا وأخيرًا وبالحَث عليها ونصح بعضنا البعض دون تراجع ستثمر المجهودات وتصبح القطعة التي أرفض شراءها قطعتين ثم عشر ثم مئة، وهكذا إلى أن نحدِث الفارق المأمول ونهزّ عرش عدونا بكافة الأسلحة التي نملكها، ونكون دخلنا تاريخ المقاطعة الاقتصادية وكنا شعوب تقتص من محتليها.