حرب طوفان الأقصى تطحن رحاها بقوة، غزة تئن دون توقف. الدماء الفلسطينية تنزف غزيرة، البيوت تُدمَّر بلا رحمة؛ خالية كانت من ساكنيها أو حتى فوق رؤوسهم.. لا يُشكل ذلك فارقًا، غالبية أهل غزة يدفعون إلى النزوح قسرًا إلى جنوب القطاع، ومغاوير بواسل لا ينفكون يقاتلون بأبسط الإمكانيات عدوًا غاشم يمتلك أحدث الأسلحة وأوفرها ذخيرة، لا يدخر من جهده جهدًا للقضاء على كل ما هو فلسطيني وبمباركة عالم منافق يرتدي جلود ضأن على قلوب ذئاب.
والأحرار من هذا العالم، أينما كانوا، ومنْ كانوا (فذلك لا يهم): فلهم حكاية أُخرى، الحرب تطحن قلوبهم بلا هوادة، وشعور بالقهر يكاد يكتم أنفاسهم، ويؤرقهم البحث عن وسيلة لفعل شيء ما. أما المتواطئون ففي جعبتهم طوال الوقت من المبررات الكثير الكثير لتبرير هذه الإبادة والتطهير العرقي.
بدأ العام الجديد 2024 دون أن يحمل في أفقه ما يبشر بأن نهاية قريبة قد تكون منصفة لمعاناة غزة المحاصرة المجوَّعة منذ 17سنة تلوح في الأفق. وكيف لمن هي مثلي، تعشق وطنها، وتكره الظلم، ولا تطيق الذل، أن تصمت وتلزم جانب الحياد؟
"تجربة مُرة.. قاسية.. تفيض قهرًا!"
كتبت الفصل الأول منها المتعلق بالاعتقال، ثم ركنتها جانبًا وغبت عنها، وكنوع من ألاعيب الذاكرة ومراوغاتها؛ نسيت أين خزنت الملف على حاسوبي، ووجدت أني فقدتُ الشهية لكتابة المزيد. كثيرًا ما حاولت إقناع نفسي بالعودة، ولكن دون جدوى.
كثير من محطاتها لا أرغب في تذكرها، لو كان بمقدوري أن أمسحها من ذاكرتي لفعلت. الغريب في الأمر، أني وبعد تحريري في صفقة طوفان الأحرار (يناير 2025) شرعت أرتب أفكاري وأستعد لكتابة تجربتي في الأسر بحماسة؛ لأني أؤمن بضرورة التوثيق. لا بد من كتابة تجاربنا بقضها وقضيضها، لأنها في المحصلة تُوثِّق ولو جزءًا يسيرًا من سيرتنا الجمعية. لا بد لنا أن نحكي روايتنا، بكل تفاصيلها، كما نراها ونؤمن بها، فإن لم نحكها نحن، سيحكيها غيرنا بطريقته ورؤيته الشوهاء وجُل أكاذيبه!
كتبت الفصل الأول منها المتعلق بالاعتقال، ثم ركنتها جانبًا وغبت عنها، وكنوع من ألاعيب الذاكرة ومراوغاتها؛ نسيت أين خزنت الملف على حاسوبي، ووجدت أني فقدتُ الشهية لكتابة المزيد. كثيرًا ما حاولت إقناع نفسي بالعودة، ولكن دون جدوى، لا أدري؛ هل كان نوع من الهروب من ذكريات لا أريد لها أن تعود إلى وعيي؟ أم...؟؟ حقًا.. لا أدري!
"كوابيس ليلية"
يبدو أن الشعور بالأمان الذي كنت أشعر به في سابق عهدي قد تبدد ومضى مع أول مجموعة من جيشهم اقتحمت بيتي، وعلى ما يبدو أيضًا أنه ضل الطريق ولم يعد بمقدوره العودة مرة أخرى.
شعور بعدم الأمان يلاصقني، لا ينفك يضغط عليّ، يطاردني، ويحاول سحقي. ما إن يسدل الليل ستاره القاتم على الكون، حتى تفيق أفكاري ذاتها: "سأستيقظ مرة أخرى على لغطهم داخل بيتي". وعندما أنهض من فراشي لقيام الليل أتفقد البيت.. هل هم هنا؟ هل يتجولون في حديقة البيت وسيقتحمونه عما قريب، وعندما أفند أفكاري، أجدها نزغ من عمل الشيطان: فأحمد ربي برضى.
يبدو أن الشعور بالأمان الذي كنت أشعر به في سابق عهدي قد تبدد ومضى مع أول مجموعة من جيشهم اقتحمت بيتي، وعلى ما يبدو أيضًا أنه ضل الطريق ولم يعد بمقدوره العودة مرة أخرى.
"غرباء في بيتي في ثلث الليل الأخير"
تجاهلت الأمر، وانقلبت إلى الداخل أستر نفسي بملابس الصلاة وأوقظ زوجي.. ثم سارعت صوب غرفة بناتي، أوقظهن بهدوء لعل ذلك يحميهن من صدمة أتوجس حدوثها.
لغط غريب ورطانة صاخبة أيقظتني، أزحت غطائي جانبًا، وبعجالة نهضت من فراشي أستطلع ما يجري. أمام باب غرفتي كانت المفاجأة. الممر يعج بجنود الاحتلال الذين أُميزهم جيدًا من ملابسهم، مدججين بالأسلحة؛ سترات واقية، خوَّذ معدنية، بنادق رشاشة أوتوماتيكية مزودة بكشافات ضوئية سلَّطوها على وجهي، وبعضهم كان ملثم الوجه، تخيلت نفسي في ميدان معركة رغم أني في بيتي أرتدي ملابس نومي، صرخ بي أحدهم آمرًا بعربية ثقيلة: قف مكانك! جرى ذلك في أجزاء من الدقيقة.
تجاهلت الأمر، وانقلبت إلى الداخل أستر نفسي بملابس الصلاة وأوقظ زوجي.. ثم سارعت صوب غرفة بناتي، أوقظهن بهدوء لعل ذلك يحميهن من صدمة أتوجس حدوثها.
لحقوا بي واقتادوني تحت تهديد السلاح إلى غرفة الاستقبال، بأمر من أحدهم، وبدا لي أنه الضابط المسؤول عن الوحدة العسكرية. فتشتني مجندتين جسديًا بدقة، وأجرى الضابط المسؤول معي تحقيقًا بسيطًا لتشخيص هويتي. ثم صورني بهاتفه النقال، وبعد لحظات أمر المجندتين أن ترافقاني لإحضار بطاقة الهوية. وهو يقول موجهًا كلامه لي: الشاباك يريدون منك إجابات لبعض الأسئلة.
قلت: ماذا تقصد؟ قال: أنت رهن الاعتقال الآن، أحضري بطاقة هويتك بسرعة، وهيا معنا. قلت بإصرار: لا أستطيع الخروج من دون حجابي وجلبابي وحذائي، أريد تغيير ملابسي؛ لا أستطيع أن أخرج هكذا. ساومني، ولكن إصراري اضطره للانصياع لطلبي. مضت معي المجندتان. صدمني منظر بيتي.. الفوضى تنشر في كل مكان، لا أدري متى أو كيف حدث ذلك، وعلى ما أظن أنني لم أغب برفقتهم سوى بضع دقائق!
نُزعت الفرشات من أماكنها عن الأسرَّة وقُذف بها أرضًا، الملابس أُخرجت من الخزائن ونُثرت أرضًا، الطين على شكل دعسات بساطير يلوث السجاد الذي يغطي أرضيات المنزل، والأهم من ذلك كله أني لم أعثر على أي من أفراد أسرتي؛ زوجي، ابني، بناتي، لا أدري أين هم؛ شغلني الأمر في ظل هذا الارتباك الذي يعصف بي وسألت نفسي: هل اقتادوهم إلى الشارع أم إلى مكان آخر؟ ماذا فعلوا بهم؟
دخلت معي المجندتان بسلاحهما إلى الغرفة، وانتظر الجنود يحرسون خارجها، أخذت إحداهما بطاقة الهوية. توضأت، وارتديت جلبابي وحجابي وحذائي. أخرجتاني من غرفتي، إحداهما مشت أمامي والأخرى خلفي. في صالة الجلوس وجدت زوجي وأبنائي يجلسون على المقاعد، لا أدري شيئًا مما جرى معهم، عاجلت لمصافحتهم واحتضانهم. لم يستوعبوا الأمر، تساءل زوجي: ماذا يجري؟ لماذا ترتدين جلبابك؟ أين أنت ذاهبة؟ وألحت عيون أبنائي بأسئلة أخرى.
أجاب الضابط المسؤول: لن تتأخر، ستعود قريبًا، نحتاج منها إجابات لبعض الأسئلة. لم أتصور أن تأخذ مني الإجابة على بعض أسئلة الشاباك التي ادعاها الضابط سنة كاملة! سألني الضابط قبل خروجي: أين موبايلك؟؟
اقرأ أيضًا: الأسيرات يرددن الجميل: الحرية صُنِعت بصمود غزة ومقاومتها
قلت:" لا أدري". قال:" من الأفضل لك أن تحضريه قبل أن نضطر لفعل أشياء لا ترغبين بها". خشيت حينها أن يؤذوا عائلتي.. فناديت ابنتي وسألتها: "أين الموبايل الأخضر؟" أحضرت الموبايل الخاص بها والذي أستعمله أحيانًا، وتستعمله هي دومًا لحضور دروسها على تطبيق تيمز للدراسة عن بُعد. عاجل الضابط لسحبه من يدها بعنف، صرختُ: "اتركه، هذا الموبايل تدرس هي عليه دروسها المدرسية.. اتركه لها.. هو ليس لي".
صرخ بي:" لا شأن لك بذلك".. وضعه في جيب سترته، فإذا به يحمل فيها أيضًا الموبايلات الأربع الأخرى الموجودة في البيت.. قلت في نفسي: يا إلهي، لم يبق في البيت أي موبايل. في تلك اللحظة، شاهدت أحد الجنود يفصل الأسلاك المتصلة بحاسوب أبنائي ويحمله معه. قلت:" اتركه لهم" ولكنه أجابني بخشونة أيضًا: "لا شأن لك بذلك".
نظرت في عيون عبد الرحمن؛ كانت الدموع تتلألأ فيها. جويرية عانقتني بقوة وتمسكت بي باكية ترفض تركي. زوجي أظهر تماسكًا لحظيًا وصلابة أعرفها جيدًا في طباعه ولكن القهر بدا واضحًا في نظراته وقسمات وجهه.
اقرأ أيضًا: في الدامون مرت ذكرى ميلادي: فأهدتني الأسيرات
وقبل أن أغادر البيت برفقتهم، قال لي الضابط المسؤول بالإنجليزية: "نحن لم نحطم لكم شيئًا.. وها نحن عاملناكم باحترام، انتبهوا ألا تقولوا إن اليهود لم يحترموننا" وشدد على كلمة "يهود"! أجبت ملاحظته بنظرة تشكيك، ثم أشحت وجهي إلى الناحية الأخرى أرصد الفوضى التي عاثوها في البيت.
أمسكت المجندتان بكلتا يدي واقتادتاني للخارج، فإذا الشارع كله مطوق بعدد كبير من المركبات العسكرية، ضحكت في نفسي.. يا إلهي، لقد أنجزوا مهمة اعتقال مطارد شديد الخطورة. هذا هو الجيش الذي يقولون عنه إنه الجيش لا يُقهر.. يأتي بهذا العدد الضخم من الجنود والأسلحة والمركبات في جوف الليل لاعتقال امرأة معتلة الصحة تنام بسكينة في فراشها. وأضفت: تبًا لكم!
أمام باب منزلي قيَّد الضابط المسؤول يدي بكلبشات بلاستيكية سميكة حادة الحواف وأمر الجنود أن يُركبوني في جيب " بوز النمر"، وتوزع الجنود الذين يرافقوني على المركبات الأخرى الثلاث التي تنتظر في المكان، ولا أدري إن بقي غيرهم في بيتي أم لا.
داخل الجيب عصبوا عيني بعصبة بيضاء مخططة طوليًا بخطوط داكنة اللون، أعرفها جيدًا وأراها يوميًا في الصور على عيون الشبان الذين يُعتقلون يوميًا. تحركت المركبة العسكرية تسير بي متجهة صوب المدخل الشرقي لمدينة قلقيلية، أمام معسكر ال DCO توقفت المركبة العسكرية لبضع دقائق، سمعتهم يتكلمون بالعبرية التي لا أفهم إلا كلمات قليلة منها، ثم استأنفوا السير إلى الجنوب الشرقي، ثم انعطفت المركبة العسكرية إلى الجنوب الغربي، وأدركت أننا متجهون إلى معبر" إلياهو" الذي يربط الجهة الغربية من الضفة بالخط الأخضر..
كنت مرتبكة جدًا.. قلقة.. أتوجس مما سيحدث لاحقًا. وأنتظر في كل لحظة عقب بندقية أن يهوي على كتفي.. أو بسطار يركلني.. أو قبضة تضرب رأسي من الخلف.. فما أبشع أن مضي الواحد منا في المجهول بين مجموعة كبيرة من أعدائه المدججين بالأسلحة، بينما هو معصوب العينين مقيد اليدين لا يدري ما سيفعلون به بعد لحظات!!