بنفسج

فداء عساف في أعالي الكرمل: معاناة السجن والسرطان

الجمعة 11 يوليو

الأسيرة المريضة فداء عساف
الأسيرة المريضة فداء عساف

فداء سهيل عساف (49 عامًا) من بلدة كفر لاقف في قلقيلية، تعمل بالتطريز الفلسطيني الشعبي الفلَّاحي، ترسم الجمال وتحبكه وسط معاناةٍ تعيشها كباقي الفلسطينيين، ومعاناة أخرى تخصها هي وحدها، ليكون قدرها دربًا مليئًا بالآلام أحيانًا وبالحرمان أحيانًا أخرى، برغم ذلك، وصفتها عائلتها بأنها مرحة وتضحك دائمًا، حنونة على الجميع، على والديها وأخواتها الأصغر منها وعلى ابنتها الوحيدة قطر الندى.

تزوجت فداء وعاشت أولى محطات الاختبار الرباني بالحرمان، ولم تنجب أطفالًا إلا بعد ثمانية عشر عامًا، بعد أن سافرت للأردن وتعالجت وأجرت عملية زراعة أجنة، فأنجبت وحيدتها وطفلتها المدللة (قطر الندى)، هذه الابنة التي كرست فداء أيامها من أجل إسعادها ودلالها "كانت ما تخليها تحتاج إشي أو حدا"، وكبرت الآن لتكون صديقتها ورفيقة أيامها.

قبل أكثر من 10 أشهر، شُخصت فداء بمرض سرطان الدم، لتكون محطة جديدة من الحرمان، وخاضت رحلة مستمرة من العلاج في مدينة نابلس، كانت عائلتها تهتم بها، ويحرصون على دعمها حتى تتجاوز رحلة العلاج بأقل الأضرار وبدعم نفسي ممن حولها.

ورغم أن العلاج كان في نابلس، إلا أنها اضطرت لإجراء فحص ضروري يتعلق بمرضها، في مدينة رام الله، وبالفعل ذهبت فداء عساف برفقة أختها "فلسطين" صباح يوم الإثنين بتاريخ 24/2/2025، وأجرت الفحص وفي طريق عودتها من رام الله اعترضتها سيارة شرطة الاحتلال.

لحظات الاعتقال شهدها الأهل

الأسيرات المريضات في سجون الاحتلال

على غير عادة الطرق في الضفة، كانت طريق فداء وأختها سهلة يسيرة بلا حواجز أو أزمات تعيق طريق عودتهن من رام الله إلى قلقيلية، إلا أنه كان هنالك حاجزًا تيارًا على مدخل بلدتهن كفر لاقف، وهي المحطة التي لم تصلها فداء بعد، بالقرب من بلدة جيت بين مدينتي نابلس وقلقيلية على مفرق البلدة تحديدًا، اعترضتهن سيارة شرطة الاحتلال فجأةً، بطريقة أخافتهن وظنن في حينها أنهن على وشك الوقوع في حادث سير.

 لذا تنحت أخت فداء "فلسطين"، وهي التي تقود السيارة حينها، عن سيارة الشرطة، ومن ثم وقفت حتى توجه كلماتها نحو شرطة الاحتلال أن فعلتهم هذه كادت تقودهن لمصيبة، اعتقدت فداء وأختها أن الشرطة أوقفتهن من أجل تحرير مخالفة سير بحقهن كما يحدث دائمًا من شرطة الاحتلال بحق الفلسطينيين، وعندها نزلت قوات الاحتلال من سيارة الشرطة وطلبوا هوياتهن، أعادوا هوية فلسطين لها.

أما فداء، فعندما وجدوا اسمها بالهوية سارعوا برفع السلاح في وجهها وأنزلوها من السيارة وقاموا بتكبيل يديها ووضعها على جانب الطريق، عاشت أختها فلسطين في ذلك الوقت حالة من الصدمة وسألتهم مرارًا ماذا تريدون منها؟ لكنها كانت أسئلة بلا أجوبة. سرًا، اتصلت فلسطين بوالدها حتى يأتي لمكان الحدث، وفعلًا لقربه من المكان حينها وصل والد فداء سريعًا لهن، كان جنود الاحتلال يصرخون على ابنته ويمنعونها من أي تحرك عليها، ومنعوها من التكلم مع أختها، ومن ثم أخذوا هاتفها.


اقرأ أيضًا: في مركز التحقيق.. وفصول المسرحية السمجة


 وضعوها في البداية في جيب الشرطة، ومن ثم نقلوها لسيارة لونها أبيض واقتادوها إلى معسكر(أرائيل) مدة أربعة ساعات للتحقيق، وكان الأهل يتأملون وينتظرون انتهاء التحقيق حتى يفرج عنها. تقول أختها فاطمة: أنا بحكي معكم ومش مصدق إنه فداء لهسا عندهم!نقلوا فداء بعد المعسكر إلى سجن الشارون سيء السمعة ومن ثم إلى سجن الدامون، وطيلة هذه الفترة حرمت فداء من الدواء يتوجب عليها أن تأخذه بشكل يومي دون انقطاع.

حتى الآن لا معلومات واضحة للأهل عن طبيعة التحقيق وكيفيته مع الأسيرة فداء عساف، لكنهم يعلمون أن جنود الاحتلال يحققون معها بتهمة التحريض، وهي التهمة التي توجهها محاكم الاحتلال ضد غالبية المعتقلين والمعتقلات في هذا الوقت منذ بداية طوفان الأقصى. تقول أختها فاطمة إن العائلة تلقت الخبر كالصاعقة بحسب وصفها، "لحد الآن ما حدا مستوعب اللي حدث معها وأنه فجأة تم الاعتقال! ما كنا متوقعين بحياتنا أنه من الممكن نتعرض لهيك موقف..".

إهمال طبي متعمد للأسيرات في سجن الدامون

الإهمال الطبي في سجون الاحتلال

أخبرتنا العائلة أن الطريقة الوحيدة لمعرفة أخبار الأسيرة فداء عساف من خلال الأٍسيرات المحررات وزيارات المحامين لهن بعد متابعة مجموعة أهالي الأسيرات. "في البداية لم نكن نعلم عنها أي شيء وبعد فترة أسبوعين أو أكثر تواصلنا مع أهالي أسيرات أخريات، وكان هنالك رسالة قد بعثتها فداء مع إحدى الأسيرات خلال زيارة محامي لها، وبعد ذلك بدأنا بالتواصل مع أهالي بقية الأسيرات."

أوصلت فداء للعائلة رسالة بأنها بخير رغم أنها منعت من العلاج اليومي الإجباري لأكثر من شهر ونصف، حتى أُجبرت عيادة السجن من خلال المحاكم والمحامي الخاص بها على إدخال أدويتها، وهذا التأخر حتمًا أثَّر سلبًا على مرضها بسرطان الدم، إضافة أنها تعاني في السجن من آلام حادة بأسنانها ولم يعطوها أية علاج، واكتفوا بحبة أكامول تعطى لها كل فترة بحسب اختيارهم لا احتياجها.

تقول فاطمة: الموضوع بالنسبة لنا فوق الخيال! معاناة أهالي الأسرى أليمة، أختي التي تعاني من مرض سرطان الدم وجميعنا خائفون عليها ومن كنا معها وبجانبها ندعمها حتى تمضي مرحلة علاجها، اليوم صرنا جميعنا بحاجة من هو بجانبنا ليسندنا في غيابها عنا،فداء تركتنا وتركت وراءها أهلها وابنتها وزوجها، يا الله أعِنَّا! علما بأن آخر محكمة للأسيرة فداء كانت بتاريخ 21/5/2025 وأجلت حتى تاريخ 22/7/2025.

رسائل من العائلة

الأسيرة فداء عساف

"فداء مكانتها كبيرة وهي غالية علينا جميعنا، الجمعات اليوم تنقصها وكل شيء يذكرنا بها وبالذات أمي وأبي لأنها كانت كل يوم تأتي عليهم فتزورهم وتتفقدهم لكن اليوم كل شيء ناقص، حتى المكالمات اليومية التي كنا نحكيها صارت ناقصة بغيابها". قالت أختها فاطمة وتقول العائلة أن أمورًا كثيرة تغيّرت فيهم، لا الصوت يشبه صوتهم ولا ضحكاتهم بقِيت كما كانت، تصعب عليهم جمعات الأخوات عند أهلهن بدون فداء، فهي التي كانت تجلس معهم وهي تحيك خيوطها وتعمل بجد وجهد وشغف، كانوا يطلبون منها دائما أن تعلمهن حتى يساعدنها في عملها، لكنها لا تحب أن ترهق أي أحد معها،  كان عملها متقنًا وجميلًا ومميزًا.

"أذكر كم كانت تتعب حتى تعمل عملًا متقن ومرتب، كانت تصمم وتحيك فساتين من تراثنا الفلسطيني وأشياء كثيرة من تراث بلدنا". ولمسنا أيضًا في بنفسج عند محاورة العائلة أن فداء كانت تحب وطنها فلسطين حبًا صادقًا، فعندما كانت تسافر تقول فداء دائمًا:  "ما في مثل وطني بين كل الأوطان، تراب بلادي ما بتبدل بكل مال الدنيا". وتؤكد العائلة أن فداء ليست وحدها، فكثيرات هن مثل فداء ولهن قصص مشابهة لقصتها ممن تركن أهلهن وأولادهن وأزواجهن! "أسيراتنا قناديل عز" هكذا وصفوهن..


اقرأ أيضًا: سهام أبو سالم أكبر أسيرة في الدامون بعمر 71 عامًا


 تقول فاطمة: أنا الأخت الصغرى بين أخواتي، فداء كانت الحنونة علي والأم الثانية لي، كانت "تنيمني" بجانبها على التخت، وكانت تقول لأهلي عندما تأتي فاطمة سآتي لأنام في المنزل عندكم، هذا الموضوع فقدته منذ أشهر، فاقدين وجودها وضحكتها، كنت دائما أعلق عليها وتقول لي شو بك مني يا فاطمة شو بدك مني؟ فأقول لها عشان بحبك وعشانك أقرب حدا علي يا فداء، أمي وأبي يفتقدونها بشدة، فأمي تبكي كل يوم عليها، فهي التي كانت تطبخ لهم، وتكثر من زيارتها لهم، كلها تفاصيل نفتقدها، الكل يفتقدها وضحكتها وطلتها، أخواتها وأخوانها، أهلها وأحبابها، الكل ينتظرها..

رسالة من قطر الندى (13 عام)– الأمل الذي من أجله تصمد فداء: بكلمات صادقة ومؤثرة، حرصنا أن لا نغير في صياغتها أو كلماتها حتى تصل كما هي، رسالة من طفلة لأمها الأسيرة: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا قطر الندى بنت الأسيرة فداء عساف، أنا كثير مشتاقة لماما، وحاسة بفراغ كبير من بعدها، مشتاقة لصوتها وصوت ضجتها، مشتاقة لتفاصيلها وتفاصيل يومي معها ونصائحها اليومية اللي كانت تعطيني إياها، ماما كانت ملجأي الوحيد في هاي الحياة، وأنا هسا فاقدة هذا الملجأ، ما حدا رح يعوضني مكانها لأنها هي كانت أملي الوحيد.

تؤكد العائلة أن من ضَحّين بحريتهن من أجل كرامة شعبهن، ومن أجل تحرير الوطن ومقدساته، ومن تحَمَّلن تلك المعاناة التي طالتهن، وطالت أمهاتهن وآباءهن وأبناءهن وأزواجهن من خلفهن، أفلا يكون الشعب لهن أوفياء؟

تكمل: "أنا بنتها الوحيدة ما إلي خوات ولا أخوة، بس هي عوضتني عن الأخت والأخ والصاحبة كمان، عوضت مكان أي شخص ناقص بحياتي، هسا حياتي بدونها فراغ تام، حبيبتي ماما، أنا كثير مفتقدة صوتك في البيت، مفتقدة ريحة الطبيخ اللي كنت تطبخيلنا إياه في البيت وريحتك إنت كمان! حبيبتي يا أمي ربنا يفك أسرك وترجعيلنا بالسلامة عن قريب وأشوفك بخير وصحة تامة يا رب، بحبك كثير".

أما العائلة فتطالب الرأي العام أن يرفع أصواتهم من أجل الأسرى وتحديدًا الأسيرات،  لأنهن يعانين داخل السجون وبينهن الحوامل والأمهات والقاصرات. تؤكد العائلة أن من ضَحّين بحريتهن من أجل كرامة شعبهن، ومن أجل تحرير الوطن ومقدساته، ومن تحَمَّلن تلك المعاناة التي طالتهن، وطالت أمهاتهن وآباءهن وأبناءهن وأزواجهن من خلفهن، أفلا يكون الشعب لهن أوفياء؟ وقدموا أبياتًا من الشعر للأسرى الأبطال وللأسيرات الماجدات وذويهم الأحبة مما قاله الشاعر: تَصَبَّرْ إنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ ولا تَجْزَعْ لنائبةٍ تَنُوبُ فإنَّ اليُسْرَ بعد العُسْرِ يأتي وعنْد الضّيقِ تَنْكَشِفُ الكُرُوبُ.