بنفسج

إسراء الجعابيص: يوميات في زنزانة

السبت 12 يونيو

الأسيرة إسراء الجعابيص
الأسيرة إسراء الجعابيص

في الجزء الأول من حكاية الأسيرة إسراء الجعابيص، تحدثت شيرين العيساوي عن صديقتها بحب، عرفنا إسراء في الطفولة والصبا على لسان شقيقتها مُنى، روت لنا عن الحادث والظلم المروع التي تعرضت له إسراء جعابيص. 

هنا في الجزء الثاني مع شيرين نغوص في الحكايا المؤلمة، لنتعرف أكثر على ما يحدث في أروقة الزنازين. بدا واضحًا مدى حب شيرين لإسراء رغم الفترة القصيرة التي قضتها معها، فبعد سماعها عن ذلك الحادث، أخذت تتابع أخبار إسراء أثناء وجودها في المستشفى، وكلما جاء محام هرعت إليه تسأله عنها.

 تقول: "حين كنت في سجن الدامون أبلغونا في إدارة السجن أن إسراء بحاجة لمرافِقة لرعايتها، فقدمت طلبًا وتم رفضه بذريعة أني أثير الشغب والتحريض، وشاءت الأقدار أن أنقل إلى سجن الشارون، والذي دخلته في لحظة إغلاق الغرف، كنت في زنزانة "2" وهي في زنزانة "4"، وما إن حلّ وقت الفورة- مصطلحٌ يُطلق على المدة الزمنية التي يسمح بها للأسرى والأسيرات الفلسطينيات بالخروج إلى ساحة السجن للتريض- حتى توجهت لزنزانة إسراء، وسألتُها بشوق: "هل تسمحين أن أضمك؟"، فابتسمت، وضممتُها بقوة.

الأسيرة إسرء الجعابيص
معتصم ابن الأسيرة إسراء الجعابيص

وتصف شيرين حال رفيقتها في ذلك الوقت: "حين جاءت إلى القسم كانت موجوعة جدًا، لا تستطيع فعل شيء، واعتنت بها الأسيرة المحررة عالية العباسي، وكنت أقدم مساعدتي في وقت الفورة، كانت تتحدث بعذوبة عن ابنها معتصم، لا سيما حين يلعب بشعرها، ويقفز فرحًا هو وأولاد الحارة عندما تلعب دور المهرج، ومن قوة علاقتهما، كانت إذا ما غيرت تسريحة شعرها أخذت برأيه، أما هو فرده الأبدي: "ماما أنتِ حلوة"، والهم الذي أرّقها بشدة فيما إذا كان معتصم سيراها جميلةً بعد ما آلت عليه، "هل سيراني وحشًا أم غولة"، هكذا هو سؤالها تمامًا، كنتُ أطمئنها بقولي: "معتصم أحبكِ لأنك ِأمه ولقلبكِ الطيب، وليس لشكلك، أيقني أنه سيحبكِ كيفما كنتِ"، وبالفعل، حين رآها في أول زيارة قال لها: "أنتِ حلوة يا ماما"، يا إلهي كم بلغت سعادتها حينها إلى درجة أننا جميعًا بكينا لفرحتها".


اقرأ أيضًا: قراءة سيكولوجية لخافضة العينين- الأسيرة إسراء جعابيص


"هل هناك ما يقلقها أيضًا بشأن معتصم؟"، تجيب بهدوئها المعتاد، كانت الأسيرة إسراء الجعابيص تهتم بتدريس ابنها في السابق، لذا، تساءلت دومًا: "كيف سيتأقلم مع غيابي في السجن"، هي واثقة بأن أخواتها سيقمن بالواجب، إلا أن قلقها استمر بشأن تراجع تحصيله الدراسي، والحمد لله أن رسائلها إليه منحته القوة ليعمل بوصيتها ويحافظ على تفوقه".

الأمر الذي لا يًصدق، أن يديها المحترقتان المنهكَتان من التشنجات، تحتفظان بقدرتهما السحرية في الأشغال اليدوية، وتنقل هذه البشارة صديقة دربها شيرين، بالقول: "مع أن يديها كانتا مَلفوفتين بالضماد إلا أن أمنياتها الصغيرة لم تمت، وقد أدهشتني حين أعربت عن رغبتها بأن تحيك شيئًا لعائلتها، وعلى الفور، أعطيتها ما لدي من خيطان وشجعتها على خوض التحدي، لن تصدّقي أن أول قطعة حاكتها تركت عليها بقعة دم سالت من أصابعها، فأرادت أن تغسلها لكني أخبرتها أنها حين تصل بهذا الشكل ستكون أجمل، كي يعرف أحبتها أن وجعها وفقدانها أناملها لم يثنِها عن تحقيق أروع انتصار على النفس".

الأسيرة إسراء الجعابيص
الأسيرة الفلسطينية إسراء الجعابيص

                                                                                           "لكن كيف استطاعت؟ "، سألتها بتعجب، فأجابت بنبرة تحمل الفأل: "كانت  تضع الإبرة بطرف أصبعها فيسيل منه الدم، ثم تسحبها بأسنانها، مشهدها هذا قال لنا: "أنا لستُ عاجزة"، كم أحببتها في هذا الموقف وزاد يقيني بإرادتها". وعن يوميات زنزانة جمعتهما آخر الأيام، تدخلنا إلى تلك الأجواء: "كنت أسألها باستمرار عما يؤلمها، وأدهن الكريمات على يدها وظهرها وأدّلكهما علّني أخفف الألم، كانت يداها دائمًا بين يديّ، ولعبتي المفضلة نكش شعرها، حين تنام، أرتب لها سريرها وأغطيها وأضعها بجانبها الراديو، فصوت ابنها في الإذاعة كفيلٌ بردّ الروح لها، أفتح لها زجاجة العصير وخزانتها، خوفًا من أن تجرح نفسها، وحين تبكي أسارع إلى مسح دمعتها، ليت كان بوسعي فعل ما هو أكثر، لقد بذلت جهدي لأرفع من معنوياتها، لذا ألصقت صورة معتصم على البُرش السرير- الذي فوقها حتى يكون أول وآخر ما ترى".

  حَملةٌ تأخرت ثم تلاشت

عزة النفس التي سبق أن ذكرتها إسراء في رسالةٍ لها: "أحس بالإهانة وأشعر بالخجل، وتعزّ علي نفسي لأنني بحاجة دائمة للآخرين، كل يوم أنظر إلى المرآة وأتألم بصمت وتتحطم روحي، أنا لست أسيرةً عاديةً تتحمل فقط همّ الأسر، بالإضافة لظلم السجان، حالتي المرضية الصعبة على أيّ مريض بين أهله، فكيف بحالتي أنا؟".

 تحاول صديقتها أن تقرّب الصورة أكثر: "من المستحيل أن تشكو حالها، بل إنها كانت تكتم كل ما تسببّ به الإهمال الطبي حتى لا تزعج الأخريات في الزنزانة، دعيني أذكر مثالًا بسيطًا وهو الاستحمام، فالحمام في الزنزانة صغير جدًا، لذا، كانت تترك ملابسها في الخارج، وقبل دخولها أفتح لها علبة الشامبو وأجهز لها كل ما يمكن أن تحتاجه، وبعد أن تفرغ أناولها ما تود ارتدائه، لكن في الوقت نفسه ترفض أن ندخل معها لمساعدتها، فمن وجهة نظرها أن الجميع سيتحرر يومًا ما، لذا عليها أن تعتاد على تدبر أمورها بنفسها".


اقرأ أيضًا: عن إسراء مرة أخرى: النص المكتمل


وتتابع شيرين نثر وفائها بين الثنايا: "أعجبتني جدًا وهي تتعالى على الجراح بزرع البسمة على وجوه القاصرات في السجن، تخيلي أننا كنا نخيط من وجوه الفراش لباس مهرج حتى تضفي أجواء المرح على الأسيرات الفلسطينيات، وقد تعاهدنا حين تخرج من السجن أن نشكل فريقًا تطوعيًا لدعم المرضى الوافدين من الضفة وغزة إلى مستشفيات القدس، من أجل ابتسامة تشق طريقها وسط الدموع".

الأسيرة إسراء الجعابيص
الأسيرة إسراء الجعابيص

وتتمنى أن تصل الرسالة للجميع: "نعم إسراء قوية، لكنها بحاجة لإكمال علاجها، أن يفتحوا لها على الأقل أصابعها، ذلك أن العظام واللحم ملتصقان ببعضهم البعض، سيتحسن وضعها الصحي لو أُجريت لها العمليات اللازمة، هي بحاجةٍ ماسة للعلاج حتى تستطيع أن تكمل السنوات المتبقية، حكاية هذه المرأة تختصر وجع كل أسير مريض يتعرض للإهمال الطبي، لكن أملنا في الله أولًا، ثم في صفقة قريبة يسجل فيها التاريخ نصرًا جديدًا للحرية".

وتنظم هذه العبارة بكثيرٍ من الفخر: "علاقتي معها نور تسللّ إلى عالمٍ مظلم، كثيرًا ما تبادلنا الذكريات عن شوارع المدينة العتيقة والحنين إلى الصلاة في المسجد الأقصى، إنها إنسانة رائعة، ملؤها الطيبة والمرح، وكم تمنيت أن نخرج سويًا حتى أضعها في عيوني، ومن يدري.. وما ذلك على الله ببعيد".


اقرأ أيضًا: عن الألم الذي لا آخر له ولا قاع


وحول التضامن الذي حدث مؤخرًا على الصعيد الإعلامي والجماهيري مع الأسيرة إسراء الجعابيص، تعطي رأيها: "كان يجب أن يحدث في بداية اعتقالها، إسراء لم تفعل شيئًا، وكل مطلبها الحرية. حكمها عال والتهم باطلة ليس لها أي سندٍ قانوني، وبرأيّ أن هذه الحملة جاءت متأخرة مع الأسف، وازداد الأمر سوءًا حين تم رفض الاستئناف في قضيتها".

 قصة طالت سيُقدَّر عدد أيامها بــ 4015 يوم وليلة، بطلتها باتت تكره النظر إلى المرآة، وليتها تجد مرآةً سحرية كي ترى فيها التفاصيل الجميلة وحسب. تختم شيرين الحكاية بمشهد معتصم حين زارته بعد خروجها من السجن: "كان ينظر إليّ طوال الوقت ويضحك بخجل، أخبرته أني سأهتم به لأني صديقة أمه، وقرأتُ في عيونه هذا الرجاء: "حدثيني عن ماما"، شعرتُ بفرحته حين أخذتُ أقصّ عليه بعضًا من مواقفنا الطريفة حتى أُطمئنه أن "ست الحبايب" بخير، حينها، تقافزت من وجهه براءة ابتسامة لن أنساها".