إن كان السجن عذاباً، فإن فيه علاوةً على مشقته عذابًا من لون آخر.
إن كان السجن عذابًا، فإن فيه علاوةً على مشقته عذابًا من لون آخر، أشدُّ إذلالًا وتنكيلًا. كانت القصة في أيام السجن تبتدئ حينما تأتي الإدارة تخبر ممثلة الأسيرات بجملة مختصرة فحواها أن واحدةً من الأسيرات لديها "سفرية" في اليوم التالي، وأحياناً يأتي الخبر في ذات يوم "السفرية" فجراً ومن تلك اللحظة تحمل الأسيرة هم هذه السفرية شديدة الكربات.
توحي الكلمة بعكس ما تعني، فالأمر ليس سفريةً للسياحة ولا تجوالًا مريحًا، إنما هي قطعة من الشقاء المستمر والتعب المضاعف الذي قد تمتد آثاره لشهر كامل بعد انتهاء "السفرية"، إنها البوسطة والرحلة فيها وعناؤها الذي تظل آثاره ملازمةً للأسرى حتى بعد انتهاء "السفرية" أو حتى انتهاء مدة السجن بأكملها.
تتوزع الأسيرات الفلسطينيات بين سجني هشارون (قرب يافا) والدامون(على سفح الكرمل\حيفا) ويعرضن للمحاكمة في معسكر عوفر أو معسكر سالم أو في محاكم مدينة القدس تبعًا لمكان إقامة كل منهن، والوصول لهذه المحاكم يتطلب رحلةً قد تمتد لثلاثة أيام أو خمسة في بعض الأحيان في الوقت الذي فلسطين كلها لا تحتاج أكثر من 12 ساعة لتقطعها من أقصى شمالها لأقصى جنوبها، وعلى الأغلب فإن هذه الرحلة تتكرر في حياة الأسيرة داخل السجن ما لا يقل عن 5 مرات إن كان حكمها أقل من عام، أما إن زاد عن ذلك فالرقم مفتوح قد يتخطى الـ10 رحلات أو ربما 20!
| شقاء الرحلة إلى عوفر!
ما إن تعرف الأسيرة تاريخ محاكمتها القادمة، حتى يصبح مقترنًا بمشقة البوسطة، و كلما ورد حديث المحاكم بين الأسيرات، يبدأن جميعًا بالدعاء لمن ستكون محكمتها قريبة بأن يهون الله عليها ما ستراه في البوسطة من تعب، و يبدأ مع هذا الدعاء ابتهالٌ مستمر لله أن تنجو الأسيرة من أن تتعرض لتفتيش عارٍ قبل ركوبها البوسطة، حتى أنك تشعر أن هم البوسطة أكبر بكثير من هم المحكمة ولائحة الاتهام ومدة الحكم، وما إن يصدر الحكم على إحداهن حتى تجد نفسها تلقائيًا حين عودتها للسجن، تقول لك "هاي آخر بوسطة قبل بوسطة الترويحة" قبل أن تتحدث عن أي أمر سوى ذلك، سمعت هذه الجملة من أسيرات حكم عليهن بالسجن لـ9 سنوات، أو 15 سنة أو ما دون ذلك أو أكثر!
وإن كانت جملة كهذه توحي بأمر; فإنها بلا شك توحي بحجم اللاإنسانية التي تحكم سير هذه "السفرية" التي تشبه الجحيم إن لم تكن بذاتها جحيمًا. تدار البوسطات على يد وحدة تسمى (النحشون)، يمتاز أفرادها ببنية جسدية قوية جداً وبفظاظة ملحوظة وجبروت يتقصدون به إذلال الأسرى إجمالاً، وإن كانت فطرة الله للمرأة تقضي بأنها الأضعف جسديًا فإن هذا الضعف يتضاعف خلال تنقل الأسيرات في البوسطة، خصوصًا حين يكون ظرف المرأة الفسيولوجي يحكم عليها بتعبٍ جسدي شديد وحاجةٍ ماسة للراحة، بدل الجلوس لساعات قد تتجاوز 12 ساعة في بعض الأحيان على مقعد حديدي بارد مجرد، في مساحة ضيقة للغاية، ما يورث لأغلب الأسيرات آلاماً مزمنة في الظهر. ولا تكاد أسيرة لا تمر بهذه المعاناة مرة واحدة على الأقل خلال فترة اعتقالها.
تبدأ الرحلة لأسيرات سجن الدامون قبل تاريخ المحكمة المحدد بيوم قرابة الثامنة صباحًا حيث يتم إخراجهن من القسم إلى غرف الانتظار ليتم تفتيشهن، الذي قد يكون عاديًا و قد يتعرضن للتفتيش العاري أيضاً حسب مزاج أفراد النحشون المسؤولين عن تلك البوسطة التي ستقلهن للمحطة التالية من العذاب، و في هذا قمة الإذلال و الامتهان لكرامة الإنسان و التعدي على حرمته!
وبعد التفتيش يتم تقييد يدي الأسيرة وقدميها، وإصعادها للبوسطة ممنوعةً من أن تحمل معها أي صنف من أصناف الطعام، أو أي شيء في جيوبها مهما كان، حتى لو كانت مسبحةً، وشهدتُ أكثر من مرة، و فعلتها أنا أن أضع المسبحة كسوارٍ في يدي لئلا أمنع من حملها داخل "زنزانة البوسطة"، عدا عن جدالات كثيرة ليسمح لنا بالاحتفاظ بالمصحف في جيوبنا، وحصل عدة مرة أن مُنعت أسيرات من ذلك، وأمرن بوضعه لدى أفراد وحدة النحشون حتى انتهاء الرحلة التي يخيل للمرء لوهلة أنها لا يمكن أن تنتهي!
تنطلق البوسطة قرابة التاسعة و النصف من سجن الدامون وصولاً إلى مركز توقيف الجلمة، الذي يعتبر محطة انتظار للبوسطات لتجميع الأسرى من كافة سجون لواء الشمال، و نقلهم إلى محاكمهم، و قد يستمر الانتظار في البوسطة في هذه المحطة لأربع ساعات أو خمسة، حيث تبقى الأسيرات طوال هذه المدة محتجزات في "قفص" داخل البوسطة، فالكراسي الخاصة بنقل الأسيرات مفصولة تمامًا عن بقية الأسرى، محاطة بالحديد من كافة الاتجاهات إضافة لباب حديدي يغلقها، وهي بالكاد تتسع للأسيرة أن تمكث فيها جلوسًا طوال مدة النقل، مقيدة اليدين والقدمين، ولا استثناء في هذا، سواء كانت الأسيرة مريضة أم لا، ولا حتى لو كانت اعتقلت و هي جريحة.
على سبيل الذكر لا الحصر نقلت إسراء جعابيص بهذه الطريقة لمحاكمها في مدينة القدس، كما لمى البكري و هي أسيرة قاصر، وحلوة حمامرة، وعبلة العدم وسواهن وفي معظم الحالات فإن الأسيرات الجريحات هن صاحبات إصابات بالغة، فعدا عن الطبيعة الجسدية الضعيفة للمرأة، يضاف لها الوضع الصحي الحرج لأسيرات كثيرات أما مصابات بأمراض مزمنة، أو يعانين من إصابات لحظة الاعتقال.
| ذكريات عالقة
أمضيت ساعة كاملة في البوسطة أنظر للبلاد المسلوبة، اختطفت نظرات سريعة وعابرة إلى بحر حيفا، كمن يقاتل الفناء ظمأً ببضع قطرات ماء، وأبكي بكاء حارقًا، بكاء يمزق نياط القلب.
في يوم الإفراج عني، قيدت يداي وقدماي وصعدت إلى البوسطة، البوسطة الأخيرة في حياة أي أسير، تلك التي يعد لها الأيام ولا يهون عليه مشقتها سوى أنها الأخيرة، وانطلقت من حيفا متجهةً إلى حاجز الجلمة أقصى شمال مدينة جنين، لأول مرة أشرفت على منظر السجن كاملًا من الخارج، بدا خانقًا وبشعًا، لم أكن لحظتها قادرة على استيعاب معنى أن صاحبات السجن اللواتي عشت معهن أيامًا وليالي بكل تفاصيلها قد تركتهن خلف هذه الأسوار المتراكبة بعضها فوق بعض وفوقها أسلاك شائكة، وأبراج مراقبة وحكايا كثيرة من ألم مدفونة وراء هذه الغابة من "الاسمنت" دون أن يعي أحد عنها شيئًا إلا من ذاق مرارها.
كلما أوشك عقلي على استيعاب ذلك خنقني بكاء حارق، أمضيت ساعة كاملة في البوسطة أنظر للبلاد المسلوبة، اختطفت نظرات سريعة وعابرة إلى بحر حيفا، كمن يقاتل الفناء ظمأً ببضع قطرات ماء، وأبكي بكاء حارقًا، بكاء يمزق نياط القلب، بكاء الحرقة والقهر والكمد والحزن، بكاء من يرى بلاده الضائعة لأول مرة في عمره مقيدًا، بكاء ابن البلاد الذي ينكل به فيها، ويُذَلُّ على أرضها ويهان!
إن هذا الكلام الطويل جدًا ليس إلا اختصارًا لكرب البوسطة، غيضٌ من فيض.