بنفسج

القابِلة سارة موسى حمد حامد: سيرة ريفية من القرن العشرين

الجمعة 12 يونيو

شكَّلت سيرة القابلة سارة موسى عوض حمد حامد، نموذجًا لحياة ريفيات منطقة شمال شرق رام الله في القرن العشرين، حيث امتازت المرأة في تلك المنطقة بالعيش في ظل قيم اجتماعية تقدس العائلة وتتفانى في خدمتها، فتحيا جُلَّ وقتها ربة بيت مطيعة، ترعى زوجها وتربي أبناءها وتسعى في أعمال منزلها، وتنخرط بكليتها في الحياة الاقتصادية القائمة أساسًا على الزراعة، وتمارس بعض المهن الأخرى؛ كالحياكة والتطريز وغيرها.

سيرة سارة

IMG_6864.JPG
سارة حامد في بلدتها

ولدت الحاجة سارة في مدينة ترينيداد في كوبا، في شهر شباط عام 1930م. والدها موسى عوض حمد حامد ( 1895-1959) ريفي فلسطيني، من بلدة سلواد شمال شرق رام الله. وصل جمهورية كوبا بعيد الحرب العالمية الأولى واستقر فيها، وعمل بداية حياته بائعًا متجولًا حتى أصبح تاجرًا معروفًا يمتلك مزارع للقهوة والسكر، وقد قُتل واثنين من أولاده على يد الثوار الكوبيين إبان ثورة كاسترو الشهيرة، وأمُّها الحاجة عليا (توماسا أنطونيوس غونزاليس) ( 1912-1970)، فتاة كوبية من أصل إسباني، تلقت تعليمًا مدرسيًا، تزوجت وتركت وطنها واستقرت في فلسطين، عملت قابلة في بلدة سلواد حتى وفاتها.

وصلت الحاجة سارة إلى سلواد مع أمها عام 1930. تزوجت من إسماعيل يوسف حمد حامد ( 1933-2008)، الذي أنجب منها طفلة، وسافر إلى الولايات المتحدة واستقر فيها حتى وفاته. تعلمت الحاجة سارة مهنة القبالة من والدتها، وباشرت عملها منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وأصبحت مشهورة في بلدتها وفي القرى المجاورة، إلى أن تقاعدت عام 2004.

البدايات في مهنة القَبالة

ولدت الحاجة سارة في مدينة ترينيداد في كوبا، في شهر شباط عام 1930م. والدها موسى عوض حمد حامد (1895-1959) ريفي فلسطيني، من بلدة سلواد شمال شرق رام الله.
 
بدأت قصتها مع القبالة، حين استغاثت إحدى الجارات بها لمساعدتها في توليد زوجة ابنها. كانت والدة سارة مشغولة في بيت إحدى الحوامل، ذهبت سارة وخاضت أول تجربة لها عام 1956م.

بدأت قصة الحاجة سارة مع القبالة، حين استغاثت إحدى الجارات بها لمساعدتها في توليد زوجة ابنها. كانت والدة سارة مشغولة في بيت إحدى الحوامل، وأمام الإلحاح في الطلب، قبلت سارة تحمل المسؤولية وذهبت إلى بيت الحامل، ولما وصلت البيت كانت المرأة الحامل في المراحل الأخيرة من عملية الوضع، وما كان على سارة إلاَّ تقديم القليل من المساعدة، وما هي إلاَّ لحظات وإذا بالمولود الجديد يأتي إلى النور.

لم تكن الحاجة سارة تدرك في حينها بأنَّها، وفي أول تجربة لها، ستكون أول من لمست يداها جسد القائد الفلسطيني خالد مشعل، وكانت هذه الولادة التي حدثت عام 1956م باكورة مشوارها المهني. أثنت نسوة الحارة عليها، وكذا أمها التي اقترحت اصطحابها وتعلّم المهنة، خصوصًا بعد تقدم سنَّ الأم، ومرضها بالأزمة.

الحاجة سارة لنفسها أسلوبًا خاصًا في التعاطي مع حالات الولادة، فكانت غالبًا ما تزور حالة الولادة في الأيام الثلاث الأولى ثم مع نهاية الأسبوع، تذهب لحمَّام الطفل، والاطمئنان على الأُم، ولا تعود ثانية إلاَّ في الحالات الطارئة.

وتتحدث الحاجة سارة عن بدايات مشوارها فتقول: "عملي في البداية كان مناكدة، مرضت أمي، وحاولت بعض نسوان البلد العمل محلها، لكن لم يحصلوا على شهرة أمي. كانت أمي محبوبة كثير عند الناس، اشتد المرض عليها ولحّت علي عشان أعمل معها. ومرة جاء علي أبو الذنين وكانت مرته من رمون، نادى على أمي وأمي أقنعتني بالذهاب معه محلها، قالت لي أمي عليك مساعدتها فهي امرأة غريبة عن سلواد، وذهبت والله رزق الحامل بمولود أسموه حسين. كانت أمي تخرِّفني كثير عن طبيعة الولادات وكيفية مواجهة مشاكل الولادة".

شكّلت وفاة الحاجة عليا عام 1970، نقطة تحول في حياة سارة المهنية، فقد تشجعت على الحلول محل والدتها، خصوصًا لِما رأته من تفاعل الناس مع والدتها، سواءً في كثافة المشاركة في الجنازة وتقديم واجب العزاء، والإلحاح عليها لتحل محل أمها. فبدأت بهمَّة جديدة حتى لمع نجمها، وذاع صيتها في سلواد والقرى والمجاورة. مرت عليها ليال كانت تشرف في إحداها على ثلاث حالات ولادة، كما حدث معها عندما ذهبت في نفس الليلة من دار السيد عصام سياغة، في حارة رأس علي، إلى دار السيد عاطف عزام في حارة دار عظيم، ثم إلى دار الحاج هاشم في حارة البلدية.

الحاجة سارة لنفسها أسلوبًا خاصًا في التعاطي مع حالات الولادة، فكانت غالبًا ما تزور حالة الولادة في الأيام الثلاث الأولى ثم مع نهاية الأسبوع، تذهب لحمَّام الطفل، والاطمئنان على الأُم، ولا تعود ثانية إلاَّ في الحالات الطارئة. أمَّا بخصوص ما كانت تتقاضاه من أجر، فقد كان متروكًا لأهل المولود، وتذكر الحاجة سارة بأنّها امتنعت في مناسبات عدَّة عن أخذ الأجر من العائلات الفقيرة. أمَّا آخر ما أشرفت عليه من حالات الولادة، فكانت لزوجة السيد محمود زامل حامد التي أنجبت طفلة.

لقد اكتسبت الحاجة سارة مهارتها من هضمها لتجربة أمها، ورغبتها الصادقة في تخليد ذكراها عبر إجادة مهنتها. ساعدها في ذلك شخصيتها الهادئة، وحنكتها في التعامل السلس مع الحوامل، ويديها الملائكيتين اللتين منحهما الله دون غيرهما، حصرية اللمسة الأولى لمئات من أطفال سلواد والقرى المجاورة. لقد عمَّقت تجربتها عبر مزاولة المهنة لعشرات السنين، وحضورها لعدد لا بأس به من الدورات الطبية، والاستفادة التي حصلت عليها من بعض الأطباء خصوصًا الدكتور فؤاد حسنة.

مهمة اجتماعية وطنية

كان لعمل الحاجة سارة بعدًا وطنيًا واضحًا، فالصراع على فلسطين له أبعاده الديمغرافية، وتزداد يومًا بعد يوم أهمية الوجود الفلسطيني البشري خصوصًا في ظل استمرار تدفق الهجرات الصهيونية وتوسع الاستيطان. ولعله من نافلة القول بأنَّ بعث الحياة في نفوس الفلسطينيين وتكثير سوادهم، لا يروق للاحتلال، ولا ينسجم مع تطلعاته لرؤية فلسطين خالية من سكانها الأصليين.
 
ناهيك عن كون الحاجة سارة ساعدت فلسطينيات في إنجاب قادة وكوادر للحركة الوطنية الفلسطينية لهم وزنهم مثل خالد مشعل، وقدورة فارس، وإبراهيم حامد. الحاجة سارة لنفسها أسلوبًا خاصًا في التعاطي مع حالات الولادة، فكانت غالبًا ما تزور حالة الولادة في الأيام الثلاث الأولى ثم مع نهاية الأسبوع، تذهب لحمَّام الطفل، والاطمئنان على الأُم، ولا تعود ثانية إلاَّ في الحالات الطارئة.

تكشف تجربة الحاجة سارة وقريناتها الريفيات جانبًا من واقع المرأة الريفية الاجتماعي. فمن الواضح أنَّ الريفيات انخرطن في المجتمع وتحملهن بعض المسؤوليات التي تتطلب احتكاكًا عاليًا في الناس، ولم يكنَّ معزولات في غرف مغلقة، يعانين من ضيق الحيز الاجتماعي الذي يمارسن ضمنه حياتهنَّ اليومية، بل إنّهن شاركن الرجال في الأعمال الزراعية المختلفة، الأمر الذي تطلب خروجهن الدائم إلى الحقول والبساتين وعملهن جنبًا إلى جنبٍ مع الرجال.

وكانت بعضهن قد تميزن ببعض الأعمال ذات الأهمية العالية للمجتمع الريفي البسيط، مثل الحاجة سارة التي أصبحت قابلة محترفة، تقوم بعملها بكل تضحية وتفان ودقة، وتتحمل ما يفرضه هذا العمل من أعباء اجتماعية كبيرة (مغادرة المنزل في ساعات متأخرة ليلًا...) ومسؤولية مهنية عالية (الحفاظ على المرأة الحامل وجنينها...) ناشرةً البسمة على شفاه الريفيين البسطاء.

كان لعمل الحاجة سارة بعدًا وطنيًا واضحًا، فالصراع على فلسطين له أبعاده الديمغرافية، وتزداد يومًا بعد يوم أهمية الوجود الفلسطيني البشري خصوصًا في ظل استمرار تدفق الهجرات الصهيونية وتوسع الاستيطان. ولعله من نافلة القول بأنَّ بعث الحياة في نفوس الفلسطينيين وتكثير سوادهم، لا يروق للاحتلال، ولا ينسجم مع تطلعاته لرؤية فلسطين خالية من سكانها الأصليين، ناهيك عن كون الحاجة سارة ساعدت فلسطينيات في إنجاب قادة وكوادر للحركة الوطنية الفلسطينية لهم وزنهم مثل خالد مشعل، وقدورة فارس، وإبراهيم حامد.  

لقد كانت الحاجة سارة مدركة للبعد الوطني في عملها، وهذا ما روته في أكثر من مناسبة، حيث كانت نبرة التحدي للاحتلال واضحة في حديثها عن تجربتها. روت بنشوة المنتصر عددًا من قصصها في مواجهة الاحتلال.

لقد كانت الحاجة سارة مدركة للبعد الوطني في عملها، وهذا ما روته في أكثر من مناسبة، حيث كانت نبرة التحدي للاحتلال واضحة في حديثها عن تجربتها. روت بنشوة المنتصر عددًا من قصصها في مواجهة الاحتلال، فتقول في إحداها:

"ذات ليلة من ليالي شتاء عام 1981م، ذهبت إلى بيت السيد مشهور موسى حامد؛ لولادة زوجته الأولى روحية بنت أبو فواز، الكائن في حي السحيلة بعد ما جيَّبت المرة وقررت أروِّح. وقتها كان في سلواد عملية قتل لشخص مشتبه بتعاونه مع الاحتلال، جاءت معي حماة المرة المخلفة وامرأة أخرى لتوصيلي، وصلنا عند دار أبو حمدان، كان الشارع مليء باليهود. لما شافونا أداروا البواريد علينا، كان معي شنطة وضو. رأيت الحاج محمود أبو فردة مختار البلد معهم. قلت له مساء الخير. منعوه من الرد عليَّ، قعَّدونا على عرق سنسلة الحاج شريف. تعرَّفوا علينا.. بدأ الكابتن مانو باستجوابي. سألني عن اسمي وعن عملي وعن زوجي، وإن كنت حجيّت .

تكمل، "وسألوني عن الذي مات في البلد قبل أيام وان مات أو قتل، ومن قتله. قال لي ضابط المخابرات أنني أمشي كثير في الليل وأعرف المخربين. قلت له أنني أمشي فقط مع النسوان مثل ما انت شايف. سألني عن الكفوف التي ألبسها... سألني عن دار محمد عبد الحميد وعن دار راجح وعن دار رئيس البلدية وعن دار مصطفى حمادة( مجموعة من الأسرى والمناضلين ) ولما جاوبت بأنني لا أعرف. اتهموني بالكذب وبأنني أعرف البلد وأخفي الحقيقة... استمرينا على نفس الوقفة ساعة ونصف حتى ذهب الجنود وذهبت أنا إلى البيت".

وتحكي الحاجة سارة عن قصة أخرى مع الاحتلال وظلمه، فتقول:" مرة من المرات، طلبت مرة حامل تسكن حارة رأس علي من جوزها إحضار الداية، فذهب لإحضار أمّه قبل إحضار الداية. أمه كانت تسكن حارة الوسطية البعيدة. لما وصل عندها، دخل الجيش البلد، استنى شوية حتى يروح الجيش. بعدها جاء واستنى عندي شوية حتى الجيش يطلع من البلد، بعدها رحنا على البيت وجدنا المرة الحامل مخِّلفة، والمولودة ميتة. اجتمع علينا وقتها جهل المرة الحامل بطريقة التعامل مع الجنين، وظلم الاحتلال الذي أخَّرنا عن الذهاب إلى الحامل". أمَّا ما هو أكثر إيلامًا في ممارسات الاحتلال، فكان حرمانه لها من توليد ابنتها الوحيدة التي كان عليها أن تلد في كل مرة في مستشفيات الاحتلال في الداخل، كونها تحمل هوية القدس.

| انتفاضة الأقصى واستئناف العمل

انتفاضة.jpg
انتفاضة الأقصى عام 2000

تراجع دور الحاجة سارة مع انتشار المستشفيات وكبر سنِّها، لكنّ اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000 والإغلاقات المتكررة للمدن والبلدات الفلسطينية، وانتشار الحواجز الاحتلال العسكرية، التي أعاقت وصول الناس إلى المستشفيات في رام الله، ناهيك عن الحالة الاقتصادية الصعبة للناس التي سببتها ممارسات الاحتلال، وإلحاح المجتمع على الحاجة سارة للاستمرار في مزاولة مهنتها. كل ذلك دفع الحاجة سارة للعودة إلى عملها من جديد. كان مشهد عودة الحاجة سارة متميزًا.

ابنة السبعين عامًا تستعيد سيرتها الأولى، وكأنها شابة في أوج نشاطها وحيويتها، والمجتمع في ذروة مقاومته للاحتلال ينزع لاستدعاء لماضي بخبراته العميقة، وفائض حنانه الذي غيبته تحولات ما بعد أوسلو.

طلب الهلال الأحمر الفلسطيني من الحاجة سارة الدوام في مقره في بلدة سلواد، الكائن في دار رشيد في حي الوسطية. رفضت الحاجة سارة ذلك وفتحت غرفة توليد في بيتها. وأخذ الناس يتوافدون عليها من سلواد وقرى أبو فلاح والمزرعة الشرقية وبرقة ...إلخ.

أكملت الحاجة سارة مسيرة طويلة من العطاء حتى كبر سنها، وتجاوزت الخامسة والثمانين عامًا وتراجعت صحتها، لكنَّ الله أبقى على عقلها المتوقد حتى أخر لحظات عمرها.

وتذكر الحاجة سارة كيف أنّ دارها قد شهدت العديد من حالات الولادة، في ظروف صعبة جدّا. وتقول عن هذه المرحلة :" كانت الكثير من نسوان سلواد والقرى المجاورة يأتوا عندي للخلفة، فيناموا ليلة ويخلفوا ويذهبوا لدورهم، مرات كنت أحوِّل الحوامل في حالات صعبة على المستشفيات في أريحا ورام الله والمقاصد.

تضيف، "ومرات كان بعض الدكاترة غير مقتنعين بصعوبة الحالة، وبضرورة الولادة في المستشفى وكنت أناقشهم وأثبت لهم ضرورة حصول الخلفة عندهم.. ومرات ما أقدر ألحق المرة، فتخلف قبل وصولها عندي. في مرة من المرات جاءت عندي مَرَة من قرية برقة وكانت قد تأخرت بسبب الحواجز فخلَّفت على الدرج. وفي كثير حالات كانت تحدث ولادات دون دكتور ولا داية، بيجي أهل المرة المخلِّفة ويطلبوا ورقة إثبات حدوث الخلّْفة حتى يقدِّموها للصحية، لأنَّ عندي ختم الداية...".

أكملت الحاجة سارة مسيرة طويلة من العطاء حتى كبر سنها، وتجاوزت الخامسة والثمانين عامًا وتراجعت صحتها، لكنَّ الله أبقى على عقلها المتوقد حتى أخر لحظات عمرها. رحلت بهدوء، كما كثيرات من بنات جيلها، وأسلمت روحها لبارئها في الثاني من آذار من العام 2015. رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه.