بنفسج

سيرة لاتينيات في ريف فلسطين: القابلة عليا

الجمعة 12 يونيو

يسلط هذا المقال الضوء على السيرة الذاتية للسيدة توماسا أنطونيوس غونزالس ( 1905-1970)، المرأة الكوبية من أصل إسباني التي هاجرت إلى فلسطين عام 1930م، واستقرت فيها حتى وفاتها عام 1970. تعتبر غونزالس نموذجًا لعدد من الأمريكيات الجنوبيات من اللواتي وصلن فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، وعشن في ريفها، حيث كنَّ متشاركات في الأصول والنشأة المبكرة في بلدانهن، وفي التحديات التي واجهنها في فلسطين وفي ردود أفعالهن.

تعتبر سيرة توماسا أنطونيوس غونزالس وقريناتها في ريف فلسطين؛ إحدى تجليات العلاقة الاجتماعية بين المهاجرين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى دول قارة أمريكا الجنوبية بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وشعوب تلك الدول.

 

توماسا أنطونيوس غونزالس وقريناتها في ريف فلسطين، اندمجن وقمن بكل ما تقوم به أية امرأة ريفية في منطقة رام الله، فكن ربات بيوت متفانيات، وفلاحات يؤدين واجبهنَّ على أكمل وجه، كما أن بعضهن امتلكن مهارات إضافية ميزتهن عن غيرهن من النساء فكانت بعضهنَّ ممرضات مشهورات وقابلات مجتهدات.

ويبدو من خلال تتبع سيرتها وسيرة غيرها من نساء أمريكا الجنوبية ممن قدمن إلى فلسطين مع أزواجهن، وعشن معهم في بلدات شمال شرق رام الله مثل: سلواد، والمرزعة الشرقية، وكفر مالك، وبيتين وغيرها، أنَّهن تزوجن في بلدانهن من فلسطينيين، ورضين بالهجرة مع أولادهن إلى مجتمعات أزواجهن، وأنَّهن اندمجن في المجتمع وأصبحن جزءًا من مشهده العام.

 

لا يفرقهن عن غيرهن من النساء الريفيات الفلسطينيات سوى اللكنة التي تكشف بسرعة أصولهن البعيدة. لقد قمن بكل ما تقوم به أية امرأة ريفية في منطقة رام الله، فكن ربات بيوت متفانيات، وفلاحات يؤدين واجبهنَّ على أكمل وجه، كما أن بعضهن امتلكن مهارات إضافية ميزتهن عن غيرهن من النساء فكانت بعضهنَّ ممرضات مشهورات وقابلات مجتهدات.

 

 | سيرة السيدة توماسا

 

ولدت توماسا أنطونيوس غونزاليس في مدينة ترينيداد في كوبا عام 1905 لأسرة كوبية ميسورة الحال، تمتلك مزارع قصب السكر والدخان. تزوجت موسى عوض حمد حامد عام 1928م، وأنجبت منه سارة. هاجرت توماسا إلى فلسطين، وعاشت مع أهل زوجها، واندمجت في حياة أهل الريف.
 
وأعلنت عن إسلامها في المسجد الأقصى، ومُنحت اسم عليا. تعلمت القَبَالة وذاع صيتها في بلدة سلواد، والبلدات المجاورة وبقيت كذلك إلى أن توفيت عام 1970.

ولدت توماسا أنطونيوس غونزاليس في مدينة ترينيداد في كوبا عام 1905 لأسرة كوبية ميسورة الحال، تمتلك مزارع قصب السكر والدخان. كانت توماسا قد أنهت لتوها المدرسة حين وصل موسى عوض حمد حامد ( 1895-1959) كوبا، عام 1925، بعد رحلة بحرية استمرت ثلاثة أشهر. كان شابًا ريفيًا بسيطًا، لم يعرف اللغة الإسبانية، وليس لديه أي مهنة سوى خبرته في فلاحة الأرض. كان من جيل الشباب الهاربين من نتائج الحرب العالمية الأولى والباحثين عن مستقبل أفضل والمتسلحين بطموحٍ عالٍ ورغبة جامحة في تحقيق أهدافه.

 

عمل في بادئ الأمر بائعًا متجولًا، وفي إحدى جولاته ساقه قدره إلى منزل عائلةٍ إسبانيةٍ الأصل. كانت سيدة المنزل كريمة مع الغرباء، فرحَّبت بموسى، وداومت على إمداده بالطعام والشراب كلما مر من جانب المنزل. تعرف موسى على ابنتها توماسا وتزوجها عام 1928م، وأنجبت منه سارة. هاجرت توماسا إلى فلسطين، وعاشت مع أهل زوجها، واندمجت في حياة أهل الريف، وأعلنت عن إسلامها في المسجد الأقصى، ومُنحت اسم عليا. تعلمت القَبَالة وذاع صيتها في بلدة سلواد، والبلدات المجاورة وبقيت كذلك إلى أن توفيت عام 1970.

 

"لبست عليا الثوب الفلاحي وكان أبيض مطرَّزاً بحرير. كانت حنونة ، كل العالم بحبها. الجميع بقلها يا ستي. كانت تراعي الفقير. وكان لسانها رطب بذكر الله، كانت دايمًا تقول الحمد لله واللهم صلي على محمد وما شاء الله. كانت داية متميزة، كانت تْخَبيلنا الحلو إلي تأخذه من المولود وتعطينا إياه". يقول الحاج أحمد.

يتذكر الحاج أحمد يوسف عوض، الحاجة عليا وحياتها في بلدة سلواد فيقول:" عاشت معنا عليا في نفس الحوش. والدي أخو جوزها، كانت بنت عز، وهذا بانَ من أول أيام ما وصلت. لبسها وطريقة حياتها، ونظافتها، تدل على أنَّها من عائلة ميسورة الحال. أهلها ودُّولها مصاري وتذاكر على شان ترجع بس هي رفضت، لأنَّها أسلمت وكوبا بلد فيها انحرافات. عاشت الله يرحمها فلاَّحة، تحفر الارض وتحصد الزرع مع والدي. أنا حصدت معها، أثناء الحصيدة كانت تغني باللغة الإسبانية. كان لها صوت جميل وحنون".

 

يكمل، "لبست عليا الثوب الفلاحي وكان أبيض مطرَّزاً بحرير. كانت حنونة كثير، كل العالم بحبها. الجميع بقلها يا ستي. كانت تراعي الفقير. وكان لسانها رطب بذكر الله، كانت دايمًا تقول الحمد لله واللهم صلي على محمد وما شاء الله. كانت داية متميزة لديها مهارات، كانت تْخَبيلنا الحلو إلي تأخذه من المولود وتعطينا إياه. هي كانت تأخذ على المولود نص دينار وفلقتين صابونة، وإذا المولود ذكر يعطوها حلو. كان معها شنطة فيها العدة. شنطتها مستطيلة لونها بني أو قهوجي".

 

بعد وقتٍ قصيرٍ من قدوم تُوماسا إلى سلواد، اصطحبها زوجها موسى إلى المسجد الأقصى، وهناك أعلنت إسلامها أمام أحد المشايخ، وأصبحت تدعى عليا. تقول الحاجة سارة عن إسلام أُمِّها : "أخذ والدي أمي إلى المسجد الأقصى، وهناك أعلنت إسلامها. بس إسلامها صار قوي لمَّا رأت في المنام بأنَّ سهل الوسطية ( سهل إلى الجنوب من سلواد) قد انتقل إلى كوبا، وهناك هبَّت النار في السهل، وانحشرت مع أمَّها، قرَّبت النار عليهم، وتأكد الهلاك، وبعدها طلعوا على رفعة بسيطة للهرب من النار، وهناك قالت أمي أشهد أن لا اله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فبعدت النار" . وقد روت كُثريات بأنَّ عليا كانت امرأة صالحة، ورعة، صابرة، تقية، تكره الغيبة والنميمة، تؤدي فرائضها على أكمل وجه.

 

 | مقتل الزوج

 

تقول الحاجة سارة ، " لما صارت الثورة الكوبية أمي وصَّت أهلها عشان يديروا بالهم على والدي وأنْ لا يضروه، على الرغم أنَّه سافر على كوبا وتركها في سلواد، وتزوج هناك إمرأة أخرى، وودَّى أولاده على سلواد عشان تربيهم أمي، بس والدي قُتل في الثورة الكوبية وكذلك اثنين من أخواني".

عاد موسى إلى كوبا ونجح في أعماله التجارية، وأصبح ميسورًا وذاع صيته، وامتلك مزارع قهوة ودخان وقصب السكر، الأمر الذي مكنه من بناء بيت جميل في بلدته سلواد. لكنَّه تزوج من كوبية أخرى تدعى "بيَّاتا" وأنجب منها: مانولو، سيتو، مالغاريتا، برُفيليو، سيرا، مانولا، كوره، وقد عاد بهم ليستقروا في بلدة سلواد.

 

تحكي الحاجة أديبة الحلح عن الاستقبال الذي حظي به أولاد موسى عند وصولهم لأول مرة إلى سلواد، فتقول: " أنا شفت الباصات لما وقفت عند منطقة عراق الخروف. جميع البلد لاقتهم، عملوا لهم زفة كبيرة. كان مانولو طويل كثير، فالنسوان قُلن: يا مانولو يا مانولْ.. عالجرسي كاعد بيشور يا صلاتك يا محمد شو ربا طول.

 

عاش أولاد موسى في كنف السيد عليا لعدة سنوات، تخدمهم بكل حب ووفاء، وقد استبدلوا أسماءهم بأسماءٍ عربيةٍ، فأصبح مانولو صبحي، وسيتو عوض، وبرُفيليو عطا، وكوره ميَسَّر، لكنَّ حياتهم تبدلت مع اندلاع الثورة الكوبية في خمسينيات القرن الماضي. كان موسى وقت الثورة تاجرًا كبيرًا فناهضها بفطرته المحبة للتملك والحريصة على ( شقا العمر)، لكنَّ حركة التاريخ جاءت معاكسة لما حلم به.

 

استولى الثوار على ممتلكاته وأصبح مطاردًا إلى أن قُبض عليه في فندق في مدينة سينفويغوس، المشهورة بزارعة السكر، وأعدم، كما قتل الثوار أولاده مانولو وسيتو، أما ابنه برُوفيليو فالتحق بالجيش الأردني واستقر في الأردن، وانقطعت أخباره بعد أحداث أيلول عام 1970.

 

تقول الحاجة سارة عن هذه المرحلة؛ وقد انتابتها الحسرة على ما حدث لوالدها وإخوتها: " لما صارت الثورة الكوبية أمي وصَّت أهلها عشان يديروا بالهم على والدي وأنْ لا يضروه، على الرغم أنَّه سافر على كوبا وتركها في سلواد، وتزوج هناك إمرأة أخرى، وودَّى أولاده على سلواد عشان تربيهم أمي، بس والدي قُتل في الثورة الكوبية وكذلك اثنين من أخواني".

 

 | السيدة عليا والقبالة

 

ش12.png
القابلة سارة ووالدتها عليا التي ورثت منها مهنة القابلة


دفعت الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة السيدة عليا للعمل. فاختارت مهنة القبالة. توجهت إلى دائرة الصحة في رام الله واستشارت الأطباء، فوافقوها في مرادها، فاشترت عدة القابلة، وبدأت بالعمل، ثمَّ أخذت دورات في مديرية الصحة. امتازت القابلة عليا بالهدوء واللطف وخفة الحركة وحسن التدبير، وقد كانت هذه الصفات مبعث راحة لنساء البلدة. ولعل لغتها الإسبانية ولكنتها الغريبة ضاعفت من جاذبيتها لدى المجتمع المحلي.

 

تضمن برنامجها رعاية المرأة بعد الولادة وإعطائها الارشادات اللازمة والعناية بالمولود؛ بتغسيله وإطعامه لمدة أربعين يومًا، وكانت تتقاضى على هذه المهمة أربعين قرشًا. تضاعف راتبها إلى نصف دينار وقطعتي صابون وحلوان كان يتضاعف إذا كان المولود ذكرًا أو جاء بعد حرمان، وكان آخر ما تقاضته دينارًا أردنيا واحدًا وذلك عام 1967. بقيت القابلة عليا على رأس عملها رغم كبر سنِّها، ومرضها بالأزمة إلى أن وافتها المنية عام 1970، وقد سلَّمت مهنتها لابنتها سارة التي أصبحت مشهورة في محيطها. رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه.

 

كفر مالك.jpg
بلدة كفر مالك التي عاشت فيها القابلة عليا مع ابنتيها إلى أن توفيت عام 1970

أراد هذا المقال الكشف عن جانب مجهول من تاريخ الريف الفلسطيني، في منطقة رام الله عبر سرد سيرة غونزاليس التي كانت جزءًا من ظاهرة انتشرت في بلدات شمال شرق رام الله. لقد عاشت في النصف الأول من القرن العشرين مجموعة من اللاتينيات في الريف الفلسطيني وتطبعن بطباع أهله، وأصبحن جزءًا من المجتمع وتفاعلاته.

 

لقد كانت السيدة توماسا جزءًا من هذه الظاهرة، ولم تكن تجربتها الوحيدة في هذا السياق فهنالك تجارب أخرى مشابهة؛ كتجربة السيدة دنيس من جزر المارتينيك في البحر الكاريبي والتي تزوجت من فلسطيني وعاشت في قرية كفر مالك عقودًا من الزمن مع ابنتيها، وأصبحت ممرضة مشهورة يلجأ اليها مرضى القرية إلى أن توفيت عام 1970.