بنفسج

أحلام معلقة: عن طلاب بلا مدارس في غزة

الإثنين 20 أكتوبر

واقع التعليم في غزة
واقع التعليم في غزة

عامٌ دراسي جديد بدأ في معظم أنحاء العالم باستثناء مدينة غزة. "غزة" بلا تعريفٍ أو مقدمات، فهي غنيةٌ عن التعريف، المحور الحاضر وحديثُ كل الأطراف. إلا أن العالم لا يعرف أن غزة تتصدر كل عام أوائل فلسطين في الثانوية العامة، بمنافسةٍ شديدة بين محافظات الوطن، وأنها جامعةُ القامات العلمية في مختلف المجالات، فهي مدينة العلم والثقافة التي يشهد الجميع بتميز أبنائها وذكائهم العالي وتلهفهم للتعلم والتعليم.

أصرّ الاحتلال أن يحاربها بدايةً بتدمير مدارسها وجامعاتها ومراكزها العلمية، مستهدفًا كوادرها التعليمية وعلماءها، فكانوا أهدافًا مباشرة له، محرومين من حقهم الأساسي في التعلم. ولم يكن نهجه جديدًا، ففي كل حربٍ كان يستهدف المؤسسات التعليمية بالتدمير. إلا أن الغزيّ ظل متمسكًا بحقه في الاستمرار بمسيرته التعليمية، مستخدمًا إياها سلاحًا للمقاومة والبقاء رغم التحديات وسط الدمار والحصار.

تعلم رغم القهر

inbound2461192489165146564.jpg

"ديما عايدية"، صحفية فلسطينية وأمٌ لأربعة أطفال يدرسون في مراحل صفية مختلفة، منها الإعدادية والابتدائية، تحدّثت عن الوضع الأكاديمي لأطفالها وصعوبته بعد نزوحهم مراتٍ عدة من مكان معيشتهم وتنقلهم وسط الخوف، ما أثر بدوره على أطفالها نفسيًا وتعليميًا. حاولت ديما الاستمرار في تخطي الرعب الذي يحيط بهم.

بدأت مشوارها خلال الحرب مع أطفالها بحصصٍ تعليميةٍ منزلية أعدّتها بنفسها، بما يتوفر لديها من معلوماتٍ، كلٌّ حسب عامه الدراسي، معتمدةً على شبكات البحث والتواصل وتنزيل الرزم الدراسية والفيديوهات التعليمية. لكن الاحتلال كان ولا يزال حتى هذه اللحظة يحارب كل محاولات الاستمرار، فانقطاع شبكة الإنترنت والنزوح المتكرر حال دون استكمال ما بدأت به، مثلها مثل معظم الأهالي، مما جعل الأطفال في حالة عدم تركيز بسبب النزوح المتكرر والقصف المستمر.

إلا أن الإصرار والصمود كانا دافع ديما الأول، فقامت بتسجيل أبنائها في النقاط التعليمية التي شكّلها بعض المعلمين والمعلمات بمبادراتٍ شخصية في مناطق النزوح، والتي تصفها ديما بأنها مبادراتٌ ممتازة، رغب فيها الأطفال بالتعلم برفقة أصدقائهم، رغم توقفها في الشهور الأخيرة بسبب النزوح مجددًا، ما اضطرها إلى مراجعة أطفالها فيما سبق وتعلموه لحين تحسن الأوضاع.


اقرأ أيضًا: جيل النور... قصة الإرادة والصمود


وفي حديثٍ لبنفسج تقول ديما: "في كثير من الأوقات يرفض أطفالي الدراسة، إلا أنهم أحيانًا يهربون إليها محاولين الانشغال بها بعيدًا عن أصوات القصف والخوف. في الواقع أستذكر مع أطفالي ذكريات بداية كل عامٍ جديد، وأقلّب صورهم القديمة في مدارسهم، أشاهدها معهم وتعود بنا ذكريات النجاح والتفوق. يتمنى كل واحدٍ منهم العودة إلى مدارسهم التي دُمّرت. أطفالنا الذين لا ذنب لهم حُرموا أبسط حقوقهم في التعليم والالتحاق بصفوفهم الدراسية مثل أطفال العالم. تمرّ سنوات من أعمارهم وهم يحاولون الصمود في وجه التجهيل والحرمان."

وفي السياق ذاته، لم يتوقف المعلمون عن أداء رسالتهم التعليمية رغم التحديات الصعبة، بل حاولوا استدراك ما فات لتعويض الطلبة بوسائل بديلة ومبادرات تطوعية وسط النزوح والدمار.

صف تعليمي دون سقف

inbound6505450841924578086.jpg

إسلام قريقع، خريجة جامعة الأقصى تخصص لغة إنجليزية، عملت في عدة مدارس خاصة في غزة، واعتادت خلال الإجازات الصيفية على إقامة مخيمٍ صيفي تستهدف فيه الأطفال من الجيران والأقارب لاستغلال وقت الإجازة في التعليم والتعلم عن بُعد، بالإضافة إلى الدروس الخاصة لمساعدة الأطفال على تعلم اللغة الإنجليزية من خلال اللعب. وجدت إسلام نفسها خلال الحرب أمام أصعب تحدٍ يمرّ به المعلم، لكنها كانت على قدرٍ كبير من التضحية والصدق.

تصف إسلام لبنفسج حال طلاب غزة الذين لم يلتحقوا بصفوفهم منذ عامين بسبب تدمير المدارس بشكلٍ تام، باستثناء بعض المدارس الخاصة القليلة التي دُمّرت جزئيًا، والتي تبعد مسافاتٍ بعيدة عن أماكن النزوح.

توضح إسلام الأبعاد النفسية على الأطفال وابتعادهم عن التعليم خلال هذه الفترة، وثقل الأيام التي واجهوها في حياة المخيم الصعبة، من حمل المياه والوقوف على "التكيات". هذه المشاهدات البائسة رصدتها أثناء تواجدها في رفح، فَوَلّد ذلك لديها شعورًا قويًا بالحاجة للعودة إلى التعليم، فبادرت بتدريس اللغة الإنجليزية والمواد الأساسية لطلاب منطقتها من مالها الشخصي.

صف تعليمي سقفه السماء، ومقعده قطعة قماشٍ خفيفة، يجلس الأطفال بشكلٍ دائري بأمعاءٍ خاوية وعيونٍ شهدت ما شهدت من الأشلاء والدمار، يتبعون معلمتهم ويشدّهم صوتها وحركة قلمها متلهفين للمعرفة. بعضهم لم يعد يذكر الطريقة التي يُمسك بها قلمه، فترشده معلمته من جديد، وتقدّم له الأنشطة الحركية للابتعاد عن الملل مع جوائز رمزية تحفزه على الاستمرار. هكذا كان شكل مبادرة إسلام، التي حاولت من خلالها تعليم الطلاب اللغة الإنجليزية ليتمكنوا من شرح معاناتهم بما تيسّر من اللغات.


اقرأ أيضًافرح المقيد: فتح بدأ بالقرآن ولأجله أكملت المسير


واجه معلمو النقاط التعليمية والمبادرات معيقاتٍ لا حدّ لها، منها نقص أدوات التدريس، وارتفاع أسعارها إن وُجدت، ونقص الكتب والرزم الدراسية التي اضطر الأهالي لحرقها لإشعال النار لتحضير الطعام والتدفئة، بالإضافة إلى حالة اليأس التي أصابت بعض الأهالي الذين عبّروا بقولهم: "ليش نتعلم وإحنا راح ننقصف ونموت؟!"، ناهيك عن العائق المادي وسعي الأطفال للبحث عن عملٍ لمساعدة أسرهم في تأمين الطعام والمياه.

ورغم كل ما ذُكر، ومالم يُذكر من تحديات، واصلت النقاط التعليمية مسيرتها بشكلٍ منظم، بطابورٍ صباحي وحصصٍ نموذجية ومتابعة المشرفين. وختمت إسلام حديثها برسالتها التي تقدمها دائمًا لطلابها: "نحن نتعلم من أجل فلسطين، من أجل غزة، نتحدى ونكافح حتى لا تُسلب بقية الأرض منا."

جيلٌ كامل من طلاب المرحلة الابتدائية كان من المفترض أن يقضي أيامه هذه في التعرف إلى المدارس ورياض الأطفال، وهي مرحلة عمرية حساسة تُبنى فيها المهارات التعليمية للطفل، بالإضافة إلى نموه النفسي والاجتماعي. إلا أن أطفال غزة يعيشون واقعًا مختلفًا فرضه الاحتلال.

سياسة ممنهجة للتجهيل

inbound2938616291195336257.jpg

الصحفية آصال أبو طاقية أكدت في حديثها لبنفسج معاناتها مع أطفالها في مراحلهم الابتدائية الأولى خلال عامي الحرب، حيث شكّل ذلك تحديًا كبيرًا لهم في غياب المدرسة والصف والأصدقاء والمعلمات. حاولت آصال تعويض النقص من خلال التعليم الإلكتروني عن بُعد، فتابعت دروس الصف الثالث والرابع ومرحلة البستان والتمهيدي لطفلتها الصغيرة بشكلٍ منزلي وبإمكانيات بسيطة. لم يكن ذلك سهلًا مع انقطاع الإنترنت والكهرباء، فكانت تستعين بضوء الهاتف المحمول لاستكمال الحصص الافتراضية التي أعدّتها لهم.

تضيف آصال: "بالنسبة لي، واضح جدًا أن حرمان أطفالنا من التعليم لم يكن صدفة، بل سياسة ممنهجة من الاحتلال. قصف المدارس، وتحويل بعضها إلى ملاجئ، وحرمان آلاف الأطفال من مقاعد الدراسة، ليس بغرض تدمير الحجر بل استهداف لجيلٍ كامل ينشغل بالبقاء وينسى التعلم والإبداع."

أكثر من 620,000 طالبٍ وطالبة حُرموا من التعليم النظامي الكامل في غزة، وما يزيد عن 90% من المدارس في القطاع دُمّرت وفقًا لتقارير وزارة التربية والتعليم. هذه الأرقام الصعبة والتفاصيل العميقة تشكل دعوةً مفتوحة للضمير الإنساني، بألا يُترك هذا الجيل وحيدًا في مواجهة الاحتلال الذي سلبه الأم والحياة، وحلمه البسيط في حمل حقيبته وكراسته.