بنفسج

اليوم العالمي للصحة النفسية: الاستثمار في استقاء المعلومة

الأحد 10 أكتوبر

تُدقُّ طبول التوعية بالصحة النفسية في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، منذ 28 عامًا، في ما يُسمى بيوم الصحة النفسية العالمي، وخلال السنوات الأخيرة ، ومع توفر الإنترنت، ولاحقًا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، باتت المعلومات المتوفرة حول الصحة النفسية سهلة التناول للجميع، وأصبح الوعي بأهميتها في تزايد يوميًا، وأصاب الكثير من الناس حمّى البحث في ثنايا كل ما يتعلق بالنفس وصحتها ومكنوناتها المختلفة؛ فهذا الموضوع يمس كل فرد منا بغض النظر عن جنسه ودينه ومستواه الفكري أو المادي، كما أنه مساحة غامضة للكثيرين، مما يغري بالغوص فيها لاكتشاف أبعادها، بالإضافة إلى كونه علمًا حديثًا نسبيًا، مما يعطي صاحب الاختصاص فيه ميزة مجتمعية وربما مادية أيضًا.

| الاستثمار في الصحة النفسية

الصحة النفسية1.jpg

لقد تم الاتفاق في هذا العام على أن يكون الموضوع الرئيس لاحتفالية يوم الصحة النفسية العالمي هو "الاستثمار في الصحة النفسية"، إذ تشير دراسات إلى المردود المادي الذي يقارب الأربعة أضعاف في مجال التوسع في علاج الاكتئاب والقلق مثلًا، كما أعتقد أنه من الاستثمار الجيد في الصحة النفسية أيضًا أن نرفع صوت الموثوق والمدعم علميًا من المساحات المختصة بالصحة النفسية، لأن فضاء الشبكة العنكبوتية يختلط فيه الغث بالسمين، فكل حزن أصبح اكتئابًا، وكل تغير في المزاج أصبح اضطراب ثنائي القطب، وكل تفكير زائد أصبح قلقًا، وكل خوف أصبح فوبيا، وكل انقباضة قلب عند تذكر تجربة صعبة أصبح اضطراب ما بعد الصدمة، وكل طبع سيء عند الشريك أصبح اضطرابًا في الشخصية! بالإضافة أيضًا إلى وجود الكثير من الموارد المهدرة في المساحات الضبابية التي تدعي اختصاصها في العلوم النفسية.

 كما أن انتشار تلك الأبواق غير الموثوقة للصحة النفسية قد شوهت المسار الصحيح لمسارب علم النفس؛ فاللايف كوتشنج غير المستند إلى علم، واستشاريو العلاقات الأسرية من غير المتخصصين، وأخصائيو علم الطاقة الذين لا طاقة لي بالبحث عن شاكراتهم، انتقالًا إلى صفحات الأمهات التي تستمد من تجربتها مع طفلها علمًا يُدرّس. وكذلك مختصو التنمية البشرية الذين اجتاحوا الساحات بلا أي رادع أو رقيب، سيخبرونك أن من حقك أن تعيش حياة سعيدة تخلو من المنغصات، وأن على علاقاتك أن تكون مثالية وإلا فهي سامة، وعليك بترها، وأن بإمكانك تحقيق أي حلم تتوق إليه شرط شغفك، وأن الوظيفة للضعفاء، لذا عليك إنشاء مشروعك الخاص، وأن بإمكانك علاج جسمك من أوجاع كثيرة بصورة حاسمة وبدون أدوية، وأنك تستطيع إعادة برمجة حياتك والسيطرة على مشاعرك في سبعة أيام!

| أجيال نرجسية!

لقد بدأنا نرى جيلًا يتصف بالجَلد النفسي المتواضع، جيلًا يتمركز تفكيره حول ذاته فقط، لا يجد بأسًا في الارتقاء على أكتاف الآخرين ليحقق نجاحاته، ويحاول التعويض عن هشاشته النفسية بالسعي نحو النجاح البراق حتى وإن كان خاويًا.
 
 لا يتحمل المسؤولية كإنسان راشد ولا يواجه نتيجة أخطائه، ولا يشعر بالذنب إذا ما عمل على تجريح شركائه في العلاقات مثلًا، فهو لم يتعلم التعاطف مع غيره، ولا يتقبل نقدًا مهما كان بسيطًا أو بنّاءً. كما أنه يعتقد أنه يستحق معاملة خاصة بسبب عظمته المتخيلة. لكن يا ترى، بمن تذكرنا هذه الصفات؟ نعم، إنها صفات النرجسي!

أكاد أرى فرويد وبيك وغيرهما من عمالقة علم النفس يضجون فزعًا في قبورهم، فتلك ادعاءات بعيدة عن العلم، كما أن الحزن محطة مهمة وحتمية في حياة الإنسان ليستلذ طعم السعادة، وليصبح قادرًا على الإحساس بجراح الآخرين، ويلزم الإنسان بعض التغافل ليسير مركب العلاقات، والظروف المحيطة قد تحرمك من الوصول إلى مبتغاك حتى لو كنت شغوفًا به، وليس كل إنسان عنده من الملكات الفكرية والمادية ما يمكّنه من إنشاء مشروعه الخاص. تلك معادلات صعبة لا يمكنك الجزم بها، وقد يمضي المرء شهورًا في العلاج النفسي المستند إلى الأدلة العلمية ضمن جلسات منتظمة ليتقدم بضع خطوات واثقة باتجاه التغيير الإيجابي شعوريًا وسلوكيًا وفكريًا.

 ولأن الافتقار إلى التوازن والوسطية في الكثير من شؤون الحياة هو سمة مجتمعية كما هي فردية، بتنا نلمح انتقالًا في الكثير من الجوانب  الحياتية من النقيض إلى النقيض.  فعلى سبيل المثال، تربّت الأجيال في العهد الماضي القريب في جو به الكثير من الكبت والتحكم والسيطرة، ليس فقط من قبل الأبوين، بل من قبل العائلة الممتدة بأكملها، نظرًا لكون الجدات والأعمام والعمات يعيشون في المكان ذاته، وكان يُنظر إلى الأطفال كمجموع دون الالتفات إلى فردانية كل واحد منهم.

كُبر أولئك الأطفال ليؤسسوا أسرهم – النووية – الخاصة، وليجنبوا أطفالهم ما عاشوه يوما تراهم يطلقون العنان لهم باسم الحرية، ويحلّون عن أيديهم أي قيود بحجة التربية الإيجابية، ولا يلومونهم على أي سلوك خاطئ بحجة التقبل.

كَبُر أولئك الأطفال ليؤسسوا أسرهم – النووية – الخاصة، وليجنبوا أطفالهم ما عاشوه يوما تراهم يطلقون العنان لهم باسم الحرية، ويحلّون عن أيديهم أي قيود بحجة التربية الإيجابية، ولا يلومونهم على أي سلوك خاطئ بحجة التقبل، ويسلطون الضوء على كل واحد منهم بشكل سينمائي بحجة متطلبات السوشال ميديا، فأصبح كل طفل يغفو ويصحو ويأكل ويضحك ويبكي والكاميرات تحيط به في كل لحظة، كما أصبح له حساب على انستجرام وفيسبوك وغيرهما وذلك منذ نعومة أظفاره، حتى في الجانب الديني تراهم لا يتطرقون فيه إلا نادرًا، بحجة أن على الالتزام أن يكون قرارًا ذاتيًا خالصًا حتى لا يتم التراجع عنه لاحقًا.

لنستعد إذًا لاستقبال أجيال من النرجسيين الذين سيحولون حياة من حولهم إلى جحيم إن لم ندرك أنفسنا ونصحح المسار للعودة إلى قواعد التربية الصحيحة بلا إفراط ولا تفريط ومن منابعها الموثوقة.

وكنتيجة لما سبق، لقد بدأنا نرى جيلًا يتصف بالجَلد النفسي المتواضع، جيلًا يتمركز تفكيره حول ذاته فقط، لا يجد بأسًا في الارتقاء على أكتاف الآخرين ليحقق نجاحاته، ويحاول التعويض عن هشاشته النفسية بالسعي نحو النجاح البراق حتى وإن كان خاويًا، لا يتحمل المسؤولية كإنسان راشد ولا يواجه نتيجة أخطائه، ولا يشعر بالذنب إذا ما عمل على تجريح شركائه في العلاقات مثلًا، فهو لم يتعلم التعاطف مع غيره، ولا يتقبل نقدًا مهما كان بسيطًا أو بنّاءً.كما أنه يعتقد أنه يستحق معاملة خاصة بسبب عظمته المتخيلة.

لكن يا ترى، بمن تذكرنا هذه الصفات؟ نعم، إنها صفات النرجسي! لنستعد إذًا لاستقبال أجيال من النرجسيين الذين سيحولون حياة من حولهم إلى جحيم إن لم ندرك أنفسنا ونصحح المسار للعودة إلى قواعد التربية الصحيحة بلا إفراط ولا تفريط ومن منابعها الموثوقة، ولا ننسى أن نطلب المعونة من الذي خلق النفس وسوّاها أن يعيننا في طريقنا نحو السواء النفسي، وأن يجعل ذلك الطريق مباركًا محفوفًا باللطائف.