بنفسج

شتاء يطرق أبواب النازحين: فصول الإبادة المتجددة

الإثنين 17 نوفمبر

معاناة أهالي الخيام في الشتاء
معاناة أهالي الخيام في الشتاء

قد يظنّ البعض أن الحرب انتهت، وأن ما شاهدوه من خراب المدن وخروج الناس من بيوتهم هو الفصل الأخير من الحكاية… لكن الحقيقة أننا نعيش فصولًا جديدة لا تقلّ قسوة عن الحرب نفسها. فالشتاء، الذي كان يومًا فصلًا للحياة والراحة، أصبح وجهًا آخر للمعاناة، وامتحانًا جديدًا لقلوب لم تعد تحتمل المزيد. الشتاء هنا ليس طقسًا عابرًا… الشتاء هنا معركة.

ها هو الشتاء يقترب، ونحن ما زلنا في الخيام. هل يمكن لأحد أن يتخيّل معنى أن تستقبل فصل البرد وأنت تعيش تحت قماش مهترئ أتلفته الشمس، وجرحته الشظايا، وأثقلته الغبرة وأصوات القصف؟ هل يمكن أن تتخيّل أن يكون سقفك بلا جدار، ومأواك بلا باب، وأن يصبح الدفء مجرد أمنية مؤجّلة؟

بعض الناس هنا لا يملكون حتى خيمة مكتملة… فقط أربع قماشات معلّقة على أعمدة صدئة، لا تصدّ لهيب الصيف ولا تمنع زمهرير الشتاء. وكلما هبّت ريح شعرنا أن كل ما حولنا قد ينقلب في لحظة. وحين تتجمّع الغيوم، يبدأ الآباء في شدّ الحبال وهم يعرفون مسبقًا أن القماش لن يصمد. أما أول قطرة مطر هنا، فهي ليست علامة على الشتاء… بل إعلان بدء الغرق.

ليلًا، أسمع بكاء الأطفال من شدّة البرد؛ بكاء يشقّ الخيمة ويشقّ القلب. أحاول أن أجمّع كلمات مواساة، لكن الكلمات تتجمّد مثل أصابعهم الصغيرة.
وأسمع الرجال في الخارج يتصايحون وهم يحاولون إصلاح خيامهم، يدعون الله أن يمنح القماش قوة لا يملكها، وأن يصمد أمام الهواء والمطر. حتى الأغطية ترتجف… والأجساد ترتجف… والقلوب ترتجف.

أما برد هذا الشتاء… فلا لغة تكفي لوصفه. البرد هنا لا يشبه برد المدن ولا برد البيوت الدافئة. البرد في الخيمة ليس إحساسًا عابرًا، بل سلاحٌ يطعن من كل اتجاه: يطعن جسد الطفل الضعيف، ويطعن ظهر الأم المنهكة، ويطعن قلب الأب الذي يرى عجزه مكشوفًا أمام أولاده. كيف يمكن أن أشرح أننا نواجه هذا البرد بقطعة قماش نسمّيها خيمة؟

كيف أقول إن الخيمة لعنة في الصيف ولعنة في الشتاء؟ من سمّاها “مأوى” ظلمنا وظلم الإنسانية التي نحاول التمسك بها بأظافر التعب. الخيمة ليست بيتًا… بل محاولة يائسة للنجاة؛ فصل آخر من فصول العذاب الذي يعيشه الغزي في رحلته للخلاص من محتلّ لا يترك لنا حتى رفاهية الألم الطبيعي.

كيف أصف ما لا يُوصف؟ كيف أشرح شعور الرياح حين تعصف بنا ليلًا وكأنها تدعو الخيمة للاستسلام؟ كيف أصف تلك اللحظة حين تنقلب الخيمة مع أول زخة مطر، فتصبح الأرض طينًا، والملابس مبللة، والقلوب خائفة؟ كيف أصف مشهد الأم الأرملة التي تقف وحدها مع أطفالها، تمسك بعمود الخيمة بيد، وتحتضن طفلها باليد الأخرى، وتبكي بصمت لأن دموعها لا وقت لها لتنزل؟

كل هذا يحدث… ونحن لم ندخل عمق الشتاء بعد. وما ينتظرنا كارثة أخرى، مأساة جديدة، فصول بؤس لا نعرف نهايتها. كنا يومًا ننتظر الشتاء بفارغ الصبر. كنا نتغنّى بغيوم أيلول وبرفق قطرات أكتوبر على النوافذ. كنا نشتهي دفء كانون ونحمل ذكريات الطفولة تحت المطر. أما اليوم… تغيّر كل شيء.
اليوم نخاف الشتاء.

نرتعب من مجرد سماع اسمه. خيامنا مهترئة، أجسادنا مرهقة، ونفوسنا لم تعد تحتمل المزيد. لا أحد يعلم بحالنا إلا الله. ولا خيار أمامنا إلا أن نغوص في مطره، في وحله، في برده، في خوفه. وليس لنا إلا الله. فالشتاء هنا لا يطرق الأبواب… لأنه لا يوجد أبواب ليطرقها. هو يدخل فجأة، بلا استئذان ولا رحمة؛ يتسلل من ثقوب الخيمة، من أطرافها، من الأرض التي لا تمنع ماءً ولا طينًا. يدخل إلى صدور الأطفال قبل الخيمة، وإلى العظام قبل الملابس، وإلى الأرواح قبل الأجساد.


اقرأ أيضًا: مطر فوق الخيام: برد يعرّي المأوى ويكشف الألم


هل أحدثكم عن ليالي الخيام؟ عن محاولات الآباء إشعال النار بقطع خشب مبتلة؟ عن الأمهات اللاتي ينفخن في الجمر المتعب ليمنحن أطفالهن لحظة دفء؟ عن البطانيات التي لم تعد تقوى على منح الدفء لكثرة ما ابتلّت بالمطر؟ عن الأطفال الذين ينامون بملابسهم كاملة لأن نزعها يعني بردًا مضاعفًا؟
عن النساء اللواتي يسهرن الليل خوفًا على صغارهن؟ وعن رجال يهرعون بين الخيام عند كل هبّة ريح ليطمئنوا على جيرانهم وكأن الخوف هنا عائلة واحدة؟

ومع كل هذا، ورغم كل هذا… ما زلنا نقول الحمد لله. ليس استسلامًا، بل إيمانًا بأن لله حكمة، وأن في عمق الألم نورًا ينتظر لحظة ظهوره. يا رب، نحن عبادك في الخيام، ضعفاء بين يديك، نطرق باب لطفك الذي لا يُغلق، ونرفع وجوهنا إلى سمائك التي ترسل المطر ذاته الذي يؤلمنا. يا رب، لا مأوى لنا إلا رحمتك، ولا ستر لنا إلا عطفك.

أرهقنا البرد، وأغرق المطر ما بقي من قوتنا، فامدد علينا من دفئك غطاءً، ومن عطفك سكنًا. يا رب، لا تجعل خيامنا امتحانًا يفوق طاقتنا، ولا ليالينا الطويلة وِزرًا على قلوبنا. ارفع عنّا ما لا يرفعه إلا وجهك الكريم، واجعل في كل قطرة رحمة، وفي كل رجفة سكينة، وفي كل ليل طويل نورًا يطمئن أرواحنا. اللهم كن معنا… فليس لنا سواك.