بنفسج

مطر فوق الخيام: برد يعرّي المأوى ويكشف الألم

الإثنين 17 نوفمبر

مطر يغرق الخيام في غزة
مطر يغرق الخيام في غزة

"غرقنا ونحن نيام، غرقنا عند أو شتوة"، العراء الذي يكشفه أو المطر يعني أن الخيام لا تتصدى وغير مجهزة لحماية الناس، ولا هي تعتبر مأوى لهم، لقد غرقوا قولًا لا مجازًا أو مبالغة، تسربت المياه فوق رؤوسهم وأغطيتهم ومقتنياتهم التي جمعوها بأثمان غالية، كيس طحين دونه الروح، كيلو أرز أو عدس يكفي قوت أسبوع، وربما أقل، ملابس شحيحة، حاجيات لا ينظر إليها في الوضع الطبيعي تبدو ذهبًا بالنسبة لهم، كلها أغرقتها المياه.

  المشهد داخل المخيمات كشف عن مأساة مركبة؛ تجهيزات شتوية شبه معدومة، خيام غير صالحة للوقوف أمام الرياح، غياب شبه كامل لشبكات تصريف المياه، انتشار سريع للأمراض، ونقص حاد في الأغطية والملابس. 

المطر والخيام مأساة مركبة

الشتاء في غزة.jpg

على الرغم من أنّ الشتاء ليس مفاجئًا، إلا أن ما تملكه العائلات من تجهيزات شتوية يكاد يكون معدومًا. معظم الخيام خالية من المدافئ، ومن الأغطية السميكة، ومن البسط العازلة للرطوبة. ومع هطول الأمطار الأولى، غمرت المياه الأثاث البسيط، وتشوّهت الأرضيات الترابية، وتحولت الحياة داخل الخيمة إلى صراع مع البرد الذي يتسرّب إلى العظام.

تقول أم محمود، وهي أم لخمسة أطفال: "إحنا ما بدنا شي غير ندفي ولادنا. ما في مدفأة، وما في حرامات تكفي. بالليل بنسمع صوت الهوا والمطر، وبنقعد كلنا بحضن بعض عشان الدفا. ابني الصغير صار يرتجف طول الليل."

في خيمة مجاورة، يحاول أبو يوسف سد الثقوب البلاستيكية بقطع من النايلون:  "بيوعدونا بتجهيزات للشتا، بس لما ينزل أول مطر بنكتشف إنه ولا إشي جاهز. الأرض بتغرق، والهوى بيفوت من كل الجهات." 

عدم صلاحية الخيام… مأوى هش لا يحمي من شيء الخيمة التي يُفترض أن تكون مأوى تحوّلت إلى مصدر قلق يومي. الكثير من الخيام مهترئة، مَمزّقة من الزوايا، أو مثقوبة من السقف. المطر لا يجد صعوبة في التسرّب، والرياح ترفع أطراف الخيمة أثناء العواصف، ما يجعلها بيئة غير صالحة إطلاقًا للسكن، خاصة للعائلات التي تضم أطفالًا صغارًا أو مسنين.


اقرأ أيضًا: النساء خلف الشوادر.. بحثًا عن زواية آمنة


تقول أم عبيدة، التي تعيش في خيمة مساحتها أربعة أمتار فقط: "الخيمة ما عاد تنفع. المطر بنزل علينا من السقف، والمية بتدخل من الأرض. صار عندي ولدين مرضوا من البرد والرطوبة، وما في مكان ننقل عليه. كل خيمة أسوأ من الثانية."

ويضيف أبو عمار، وهو يحاول رفع السقف المتهدل بعصا خشبية: "هاي الخيام إلها سنين. بتمسكش لا مطر ولا هوا. والله مرات بنضل صاحيين طول الليل بس نمسك الخيمة بإيدينا خوف إنها توقع علينا." بنية الخيام الحالية لا توفر الحد الأدنى من الحماية، وهي أقرب إلى قماش ضعيف يقف عاجزًا أمام أي عاصفة.

غياب تصريف المياه… المخيم يتحول إلى بحيرة

الحياة المأساوية لأهل غزة في الخيام.jpg

مع كل موجة مطر، يتحول المخيم إلى مستنقع كبير. لا توجد شبكة لتصريف المياه، ولا قنوات جانبية مخصصة لرفع المياه بعيدًا عن الخيام. ونتيجة لذلك، تَغمر المياهُ الطرقات الترابية، وتتجمع حول مداخل الخيام، وتجبر الناس على السير فوق الطين، وعلى رفع الأغطية والفرش خوفًا من وصول المياه إليها.

يقول أبو قصي وهو يقف أمام بركة مياه تحيط بخيمته: "شوفوا المي وين وصلت، ما بنقدر نطلع ولا ندخل. صار المخيم كله طين. لو في بس تصريف بسيط كان الوضع اختلف."

أما أم ليان، فتعاني من وضع أكثر قسوة: "المي دخلت على فرشنا. طول الليل بنشفط مي بعلب بلاستيك. ما في مكان جاف نقعد عليه. حتى الغاز ما قدرنا نشغله من الطين اللي حواليه."

أما الازدحام ونقص النظافة الناتج عن غياب البنية التحتية خلق بيئة مثالية لانتشار الأمراض. الأطفال هم الأكثر تضررًا، يعانون من نزلات برد شديدة، والتهابات صدرية، وانتشار فيروسات المعدة. ومع غياب العيادات القريبة، تتحول الأمراض البسيطة إلى حالات معقدة.

تقول أم سارة، وهي تحمل طفلتها التي تعاني من السعال: "من يومين والبنت ما بطلت تسعل.لازم مكان دافئ وما في رطوبة… طيب وين؟ كل الخيمة مي ورطوبة، ولسا التشاء بأوله".  ويضيف أبو حمزة، الذي فقد ابنه قبل عام بسبب الأوبئة والفايروسات: "المرض هون أسرع من الناس. يوم واحد من البرد بيخلي الولد ينهار. المية اللي حوالينا بتجيب بعوض وروائح، وفي ناس صار معها طفح جلدي."

كما أن أحد أخطر التحديات هو ندرة الملابس الشتوية والأغطية الثقيلة. وفي حال ابتلت الملابس أو الأغطية بسبب تسرب المياه، لا تمتلك العائلات بديلًا عنها. جهود التجفيف داخل الخيمة شبه مستحيلة في ظل البرد، فتبقى الملابس مبللة لساعات طويلة، ما يضاعف خطر المرض. تقول أم حسن: "عندي بس طقمين لأولادي. لما يبتل واحد ما بنلاقي غير نلبسهم المبلول. ما في شمس ولا مكان ننشر فيه. كل يوم ببكي لأن ابني الصغير ببرد وما عندي غطا ناشف."


اقرأ أيضًابيت مهدوم وذاكرة: فتات النفس بين الركام


أما غادة، وهي فتاة في الرابعة عشرة، فتشرح وضعًا مؤلمًا: "تيابي كلها صارت مبلولة. قعدت يومين أنشرهم جوّا الخيمة وما نشفوا. رحت على المدرسة وأنا لابسة جاكيت مبلول، ورجعت وأنا مريضة." نقص الملابس الشتوية يجعل من المطر حدثًا كارثيًا، لا مجرد حالة جوية عابرة. واقع خيام النازحين في ظل غزارة الأمطار ليس مجرد معاناة مؤقتة، بل حالة إنسانية معقدة تتكرر كل عام دون حلول جذرية.

الخيمة التي يُفترض أن تكون ملاذًا أصبحت مكانًا يهدد الصحة والكرامة. تجهيزات الشتاء شبه معدومة، الخيام مهترئة وغير صالحة، لا تصريف للمياه، الأمراض تنتشر بسرعة، والملابس والأغطية غير كافية. تروي شهادات الناس أن أملهم ليس كبيرًا، إذ لا يطلبون رفاهية، بل أساسيات تحفظ حياتهم في فصل لا يرحم. هذا الواقع يستدعي تحركًا عاجلًا لتأمين بدائل حقيقية تحميهم من البرد، وتعيد لهم ما تبقى من قدرتهم على الصمود.