بنفسج

د.سماح جبر: حديث النفس الكامن وراء حضور امرأة

الأربعاء 08 يونيو

على ذات المقعد جلست يوما كطالبة، ثم كمنتفعة، والآن أجلس كمحاورة لأخصائية الطب النفسي والمعالجة النفسية الدكتورة سماح جبر. وكم آمل قريبا أن أشاركها العمل كزميلة في حقل علم النفس الذي شغفت به حتى قبل أن ألتحق ببرنامج ماجستير علم النفس الإكلينيكي حيث التقيت بالدكتورة سماح، وأثارت إعجابي خلال مسيرتنا التعليمية، كامرأة قوية مهنيا مؤمنة بقضيتها ذات ثقافة واسعة.

تجاذبنا أطراف الحديث قليلا قبل البدء بطرح أسئلة المقابلة، كانت ببشاشتها وعينيها الواثقتين ترنو إلى الإجابة عنها، فهي لا تدخر جهدا في سبيل كل ما ينفع الناس بشكل عام، والنساء بشكل خاص.. ولا غرابة في ذلك، فقد نشأت الدكتورة سماح في بيئة ليست فقط داعمة للإناث، بل تمدها بالامتيازات أيضا، وهو ما يكاد يكون نادرا في مجتمع أبويّ كمجتمعنا.. مما جعلنا نتوق إلى وجود نماذج نسوية قوية يكون لها حضورها الفاعل والمؤثر في المجتمع الفلسطيني، كما أنها تعلم أن موقع "بنفسج" يُعنى بكل ما يسهم في نهضة المرأة وحضورها.

| حدثيني عن سماح

ج16.png
 

بادرتها "حدثيني عن سماح جبر". سكتت برهة، ثم قالت: "هذا سؤال واسع جدا لا يمكن الإجابة عنه ببضع كلمات". شعرتُ بالحرج، فأردَفَت دفعا له عني: "دعيني أحدثك باختصار، المنظومة الأخلاقية الروحانية عندي تتمثل في حديث الرسول الكريم "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس". " فأنا أحاول أن أنفع الناس بما وهبني إياه الله من معرفة ومقدرة على تحليل الأمور. أقوم بذلك بعدة مسارات؛ أحدها وليس وحيدها هو عملي كطبيبة نفسية، لكني أؤمن بدوري الأوسع من ذلك، فأنا أمتهن التعليم أيضا بالرغم من المسؤوليات المتعلقة به وذلك لأن عندي التزاما أخلاقيا يحتّم علي ذلك، كما لا أدخر جهدا في حقل البحث لأنه يسمح لنا أن نشهد على الحقبة الزمنية التي نحياها.

أعتقد أن طريقة تفكيري وميلي الإنساني مهجّن بخبرات أوسع بكثير من بكثير من جغرافية بلادنا وثقافتنا  وذلك بسبب اطلاعي على تجارب إنسانية أخرى والتي أتعاطف معها وأشعر أنها ذات فائدة لنا. وأعتقد أن أكثر ما يؤنسن الفلسطينيين الذين تسلب إنسانيتهم بشكل ممنهج هو مقدرتهم على المساهمة في الفكر والتجربة الإنسانية الخاصة على نطاق أوسع؛ لذلك أرى أن هناك بعدا لمساهمتي المعرفية خارج الإطار الفلسطيني.

غ5.png
 

كما أعتقد أن هناك محاولة كبيرة لتصنيفي من قبل الإعلام والمؤسسات، إلا أنه من الصعب تصنيفي؛ فأنا لا أنتمي إلى أي نادٍ أو فئة، وأفكاري ذاتية وأصيلة. كما أني أحسن العمل كفرد وأدرك صعوبات العمل ضمن فريق؛ بالرغم من إيماني بأهمية العمل الجماعي، لكني أعتقد أنه يؤخرني ويقيدني. فأنا حريصة جدا على الاستقلال الشخصي بكافة المعاني، وذلك حتى أستطيع أن أقدم أكثر. أنا إنسان لا أملّ وأستمتع بالوحدة، عندي مقدرة ذاتية على تسلية نفسي،عملي يفرض علي أن أصرف وقتا كبيرا مع الناس؛ لدرجة أني أشتاق لأن أخلو بنفسي، فعندي مقدرة عالية على أن أستأنس وأتأمل".

| خبرات مبكّرة

"خبراتي المبكرة، بالإضافة إلى الاختلاط مع الآخر خارج بلادنا والسفر المبكر كانت من الأسباب التي جعلت عندي حساسية عالية تجاه الناس ذوي الصفات الطيبة والكريمة، بغض النظر عن لونهم ودينهم وعرقهم وكل التصنيفات الأخرى. أنا أسافر وحدي مذ كان عمري ثمانية عشر عاما، وأعتقد أن تجارب السفر المبكر والاختلاط مع الناس يوسعان القلوب والعقول". تقول.
 
ما الكتاب المفضل لديك؟ أجابت: "طبائع الاستبداد" للكواكبي"، وكذلك كتاب "الاستحمار" لعلي شريعتي، وسير العظماء والقصص القرآني. أما عن الشخص الذي تأثرت به فأطرقت قليلا تفكر، ثم قالت: علاقاتي ليست بالكثيرة لكنها متينة وطويلة المدى، ربطتني إحداها بسيدة تسمى (بيتسي مايفيلد)؛ وفرت لي العديد من الفرص عندما كنت في بداية حياتي، ولكن الموت حال دون أن أرد لها شيئا من جميلها. قالت لي قبل وفاتها: “لا أريد منك شيئا، ردي الجميل للآخرين”.

تكمل ضيفتي كلماتها، وكلّي مأخوذ بذلك الحديث الملهم: "خبراتي المبكرة، بالإضافة إلى الاختلاط مع الآخر خارج بلادنا والسفر المبكر كانت من الأسباب التي جعلت عندي حساسية عالية تجاه الناس ذوي الصفات الطيبة والكريمة، بغض النظر عن لونهم ودينهم وعرقهم وكل التصنيفات الأخرى. فأنا أسافر وحدي مذ كان عمري ثمانية عشر عاما، وأعتقد أن تجارب السفر المبكر والاختلاط مع الناس يوسعان القلوب والعقول.

أنا من عائلة صنعت نفسها بالاجتهاد، وليس بالانتماء لأي حزب أو عشيرة أو التسلق على جهود الآخرين. وهذا درس علّمنيه والدي، كما علمني أن أحب الوطن وأهله بدون أطر وهو بذلك حررنا من التحيزات والتعصبات الموجودة بالمجتمع"ما بين الشعر والأدب، تقول د. سماح، أنها تتنقل للترويح قليلا عن النفس في مهنة من أصعب المهن وأكثرها إرهاقا، فليس هناك أقسى على الإنسان من أن يكون مستودع بوح الآهات والزفرات.

غ4.png

فما بين شعر الرومي والعطار، كما شوقي والمنفلوطي والمتنبي والقباني نزار، وبمشاهدة الأفلام الوثائقية عندما يسمح لها الوقت، تلقي ضيفتنا أثقال مهنتها؛ لتعود إلى من يطلب مساعدتها بطاقة متجددة.

سألتها ما الكتاب المفضل لديك؟ أجابت: "طبائع الاستبداد" للكواكبي"، وكذلك كتاب "الاستحمار" لعلي شريعتي، وسير العظماء والقصص القرآني. أما عن الشخص الذي تأثرت به فأطرقت قليلا تفكر، ثم قالت: علاقاتي ليست بالكثيرة لكنها متينة وطويلة المدى، ربطتني إحداها بسيدة تسمى (بيتسي مايفيلد)؛ وفرت لي العديد من الفرص عندما كنت في بداية حياتي، ولكن الموت حال دون أن أرد لها شيئا من جميلها. قالت لي قبل وفاتها: “لا أريد منك شيئا، ردي الجميل للآخرين”

كذلك صديقتي مريم سلّام، صديقة مصرية جمعتني بها أيام الدراسة في فرنسا، افترقنا منذ أربعة عشر عاما، ولا أزال أحمل حبا عظيما في قلبي لها ولعائلتها. وكان لي خال رحمه الله، كان يعمل سائقا لسيارة عمومية تنقلت معه في كثير من أسفاري، وهناك دارت معظم أحاديثنا، كان قليل الكلام ولكنه إذا تكلم قال جميلا، فكأنه كان زاهدا في الدنيا ساخرا منها، توفي بشكل مفاجئ صدمنا جميعا.

| صوت المستضعفين

غ2.png
"هل شككت يوما بصحة اختيارك لتخصصك؟" تساءلتُ، أجابت بلا تردد: أبدا، كنت ولا زلت على ثقة باختياري، ولكن ما يخيفني حقا أن هذا التخصص يعطي الكثير من القوة المطلقة، القوة أن تحجر على أحدهم، أو أن تصفه بفاقد الأهلية، أو ربما القوة لتحتجز أحدا في المستشفى حارما إياه من حريته؛ مما شكل لي هاجسا حول كيفية موازنة هذه القوة دون الوقوع بأخطاء مهنية. كما ينشغل بالي كثيرا بتخفيف سطوة الطب النفسي وإجراءاته القاسية أحيانا.

أهم هدف مستقبلي شخصي هو مساعدة أفراد العائلة الآخرين بالاستمرار في العيش داخل القدس؛ فكما تعلمين أن القدس العربية تنكمش تحت أقدامنا، كما أحب مساعدة العاملين في ذات المهنة كي تزداد ثقتهم بأنفسهم، وكي ينتجوا معرفة في العلوم النفسية من وحي السياق والثقافة الفلسطينية. بالإضافة إلى تكريس وقت للتدوين؛ لأن عملي كطبيبة نفسية يجعلني في موقع قريب جدا من تجارب الناس والذين هم عادة الأفراد المنسيون والمهمشون: كالمدمنين وفاقدي الرشد، وضعيفي الذكاء، وغيرهم من النساء المعنفات، والفئات الضعيفة في المجتمع الذين يتم إغفال أصواتهم. ولأنني أحظى بصوت مسموع في المجتمع أشعر بمسؤولية إيصال صوتهم لجمهور أوسع.

تنقل الدكتورة عبارة لشاب جامعي، تم إدخاله قسرا لمستشفى الأمراض النفسية، معبرا عن إحساسه حينها: "شعرت أن العالم كله قد اغتالني". أنا لا أفضل العلاج النفسي في مستشفى الأمراض النفسية، وأتمنى أن تتطور خدماتنا، ويزداد الوعي المجتمعي، لنصل لدرجة الاستغناء قدر المستطاع عن هذه المستشفيات؛ فتقوية ممارسات الصحة النفسية المجتمعية، والتدخل المبكر لعلاج تلك الأمراض يحول دون الدخول إلى المستشفيات.

وضربت الدكتورة سماح نصوصا من رواية "مي .. ليالي إيزيس كوبيا" للكاتب واسيني الأعرج، والتي تظهر جزءا من الألم والعجز اللذين يجتاحان المقيم في مستشفى الأمراض النفسية، حيث تصف الكاتبة مي زيادة فترة مكوثها في العصفورية بعبارات صعبة مثل: (أنا لم أكن مجنونة، كنت مصابة فقط بآلام الفقدان التي لا دواء لها سوى الإنصات بهدوء لحرائقها)".

كتاب ما وراء الجبهات.jpg


وعن أهم إنجاز في حياتها المهنية، تقول ضيفتي: "الكتابة الدورية التي أقوم بها بأقل مما يجب أن تكون، بسبب ضيق الوقت، كذلك كتاب "ما وراء الجبهات" الذي نشر باللغة الفرنسية، والفيلم المنبثق عنه. ويعود الفضل فيه إلى المخرجة الفرنسية (ألكساندرا دولس) التي أولت اهتماما بالغا بما أكتب؛ فقدمته للجمهور الفرنسي على أحسن وجه".

| الاضطرابات النفسية

 

 

في تعريفها للأمراض النفسية، وتشخيص المرض النفسي، عرّفته الدكتورة بالأنماط الفكرية والشعورية والسلوكية الخارجة عن المألوف، والتي تسبب الضيق لصاحبها،  أو لمن حوله، وتسبب تأخرا في الدور الاجتماعي أو الوظيفي. وفي لغتنا العربية نستخدم مصطلحي أمراض واضطرابات كمترادفات بالرغم من وجود فرق بينهما، فالاضطرابات لا نعرف لها سببا واحدا واضحا، بعكس الكثير من الأمراض. لذا كان من الأنسب استخدام مصطلح اضطرابات في حقل علم النفس؛ حيث الأعراض متفاوتة والأسباب متداخلة، ومتفاعلة ما بين عوامل داخلية لدى الفرد، وعوامل لها علاقة بالسياق البيئي والاجتماعي الذي يحيط به.

كما يشير مصطلح اضطراب إلى إمكانية إصابة فردين مختلفين بنفس الاضطراب غير أنهما متغايران تماما في الصورة السريرية. فمثلا من الممكن أن نرى شخصين مصابين بالفصام: أحدهما أنثى يهيّأ لها أن مذيع التلفاز يغازلها، والأخرى مصابة بنفس الاضطراب الفصامي، ولكن تشعر أن جميع زملائها في العمل يتآمرون عليها، أو ربما تكون قد انعزلت عن جامعتها أو وظيفتها.

كما يسمى اضطرابا أيضا؛ لأن الفرد قد يتحسن، وتختفي الأعراض لفترة من الزمن، ثم تعود للظهور مجددا، وبشكل شديد. فحص الفرد يعتمد على تدريب الطبيب النفسي؛ الذي يؤهله للتشخيص من خلال مقابلة الناس، وإجراء الفحص الطبي المفصل، والحديث معهم بحيث يكتشف المشاعر وطريقة التفكير، وذلك بعد تصريح المريض بشكواه الرئيسية التي أحضرته للعلاج. كما يلاحظ الطبيب عينة بسيطة من سلوك المريض من خلال تفاعله معه؛ فالمريض المرتاب قد يكون مرتابا أيضا مع الطبيب النفسي، كذلك المريض في نوبة الهوس قد يبدو متحمسا أو متعاليا بشكل واضح خلال الجلسة، مما قد يعرض الطبيب النفسي إلى إساءات معنوية واعتداءات من المرضى أحيانا.

يبذل الطبيب الجهد لبناء ثقة مع هذا المريض للاطلاع أكثر على أفكاره ومشاعره. وبناء الثقة هو ما يدفع المريض للانفتاح أكثر، والمشاركة بأفكاره دونما تحفّظ. كما يتم سؤال المريض عن أثر تلك الشكوى والأعراض على حياته ودراسته، وعمله حتى يتم تقدير حجم الضرر الحاصل له، وأحيانا يلزم مقابلة أحد أفراد العائلة للتأكد من بعض التفاصيل.

أما عندما سألتها إن كان من الطبيعي أن يصاب الإنسان باضطراب نفسي فأجابتني بسؤال: هل من الطبيعي أن يكون إنسان في الخمسين عمره ولم يصب بأي مرض عضوي؟ من النادر ألا يصاب الفرد بمرض عضوي، وكذلك مع مرور الوقت فإن الكثير من الناس قد يصابون باضطراب نفسي في إحدى مراحل حياتهم، ولكن ليس من الضرورة أن يكون ذلك الاضطراب شديدا. نحن نعلم أن هناك حوالي 300 اضطرابا مختلفا، جزء كبير منها بسيطة وعابرة، وهناك فئة منها دائمة ومزمنة، ومعظم الناس يصابون باضطرابات نفسية تكون عابرة كالرشوحات.

في بعض الدراسات التي تتبعت حياة بعض الأفراد لمدة 35 عاما تبين أن 70% منهم قد أصيبوا باضطرابات نفسية. وأيضا هناك الكثير من الألم النفسي المرافق للفقدان، والحداد، والظروف الضاغطة، ومشاكل العمل، والعلاقات الإنسانية، والقهر السياسي، والظلم الاجتماعي. كلها حالات من الممكن أن تؤدي إلى التوتر النفسي، وتسوق المصابين بها إلى العناية الطبية النفسية المتخصصة.

| معاناة النساء مضاعفة

بالرغم من عدم حتمية وقوع المرأة باضطراب نفسي متعارف عليه، كالقلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة؛ نتيجة للعنف إلا أنه مؤذ جدا، وهدام نفسيا، ويترك ندوبا في دماغ تلك المرأة، ويسيء إلى صورة الذات لديها.
 
كما يتأثر به الأطفال بشكل بالغ، فبعض الدراسات العالمية أشارت إلى أن 60% من الأطفال الذين تتعرض أمهاتهم للعنف يطورون اضطرابات نفسية، وهذه نسبة هائلة. 

وفي خصوصية أمر النساء في فلسطين، وعن وجود أبحاث تقيّم حجم الاضطرابات النفسية التي تصيبهن؛ أشارت الدكتورة جبر إلى توفر بعض الدراسات التي اختصت بذلك، شاركت في إحداها، وكانت دراسة طولية تابعت فيها نساء أنجبن حديثا لمدة ستة أشهر من بعد الولادة؛ فتبين أن 27% منهن يعانين من اضطرابات اكتئابية. ولكن معظم الدراسات التي أجريت في فلسطين تجري مقارنة بين الذكور والإناث المشاركين بالدراسة، ومعظمها كذلك تشير إلى أن الاضطرابات لدى النساء هي أعلى منها لدى الذكور.

كما تشارك مؤخرا في دراسة عن المراهقين في منطقة القدس، وقد أظهرت أن عدد الإناث اللواتي يحتجن إلى رعاية نفسية أكثر من عدد الذكور. وهذه الظاهر تعزى إلى عدة أسباب؛ أحدها التفسير الهرموني، وثانيها الدور الاجتماعي، فهو عامل مهم للغاية؛ حيث تتعرض الإناث إلى عنف وضيم بنسبة أكبر من الذكور في المجتمعات الأبوية بشكل عام بما فيها المجتمع الفلسطيني، كما أن استقلالهن المادي أقل من الذكور، فهذا الضعف في الدور الاحتماعي لديهن يجعلهن تحت عوامل ضغط نفسي أعلى، وبدون شك فإنهن معرضات للقلق والاكتئاب بنسبة تقارب ضِعف الذكور.

نحن ندرك أن العنف لا يقتصر على الإيذاء الجسدي، فماذا عن العنف المنزلي؟ وهل هناك دراسة تشير إلى حجم ذلك العنف الذي تتعرض له النساء في مجتمعنا؟ أجابت الدكتورة جبر بالإيجاب، تقول: "هناك دراسة تشير إلى حجم العنف المنزلي الي تتعرض له النساء في فلسطين وكانت نتائجها صادمة، حوالي 29% من النساء المتزوجات أو اللاتي سبق لهن الزواج تعرضن للعنف بأشكاله المتعددة، في قطاع غزة بنسبة أكبر منها في الضفة الغربية، وذلك يشمل العنف بأشكاله المختلفة.

وبالرغم من عدم حتمية وقوع المرأة باضطراب نفسي متعارف عليه؛ كالقلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة؛ نتيجة للعنف إلا أنه مؤذ جدا، وهدام نفسيا، ويترك ندوبا في دماغ تلك المرأة، ويسيء إلى صورة الذات لديها. كما يتأثر به الأطفال بشكل بالغ؛ فبعض الدراسات العالمية أشارت إلى أن 60% من الأطفال الذين تتعرض أمهاتهم للعنف يطورون اضطرابات نفسية، وهذه نسبة هائلة. كما يعتبر العنف المنزلي واحدا من عشرة عوامل إساءة نفسية للأطفال، وبشكل خاص للإناث منهم.

| إيقاف العنف أولاً

أننا في وزراة الصحة أنشأنا مراكز للإرشاد الأسري في المستشفيات العامة لبحث مواضيع العنف. أعتقد أنه سيكون لائقا أكثر لو اتبعنا هنا في فلسطين نموذج التدخل لوقف العنف الذي لا يقتصر على المرأة، بل يجب أن يشمل أبناءها وزوجها إن كان هو المعنّف.
 
بمعنى، أن تقدم الخدمات لكلا الطرفين: المعنِّف والمعنَّف، لأن المعنِّف قد لا يكون سويّا نفسيا ويحتاج إلى علاج، وإن كان سويّا فيجب عمل الإجراءات القانونية الرادعة. 

إن كان هذا هو حال النساء في فلسطين، فهل تتجه النساء للطب النفسي لتلقي الخدمات العلاجية؟ تقول الدكتورة جبر نعم لكن بنسبة أقل بكثير من المتوقع والمفروض. فبالرغم من إصابة النساء بالاضطرابات النفسية الشائعة بنسبة تقارب ضعف الرجال إلا أن البيانات الموجودة في العيادات النفسية تظهر أن ثلثي المراجعين هم من الرجال! وإن كان يدل هذا على شيء فإنه يدل على وجود عقبات تمنع وصول النساء للخدمة العلاجية.

فعلى سبيل المثال تقول بعض النساء أنها تضطر إلى الهروب من أهل زوجها لتتمكن من المجيء، أو أن زوجها قد تدخل وأوقف الأدوية، أو يتم منعها من العلاج من قبل الأهل خشية فوات فرصتها في الزواج فيما بعد. نحن نعلم أن من يتلقى الخدمات النفسية يتعرض للوصمة الاجتماعية والتمييز ضده، ولكن إن كان هذا الشخص أنثى فإن التبعات الاجتماعية ستكون مضاعفة بالنسبة لها.

من المهم جدا أن لا نتعامل مع النساء المعنفات بأنهن مريضات، بل يجب حلّ العنف والتبليغ عنه وإيقافه. "نحن نقدم المشورة والمرافقة العلاجية حتى تصل المرأة المعنفة إلى قرار كيف ستتعامل مع هذا العنف الواقع عليها، إذ لا يمكن تقديم علاج ذي معنى، مع التعرّض إلى العنف في المنزل. لذا يجب العمل بداية على وقف العنف.

ذاك الحال المؤلم الذي وصفته ضيفتنا دفعني لأن أسألها إن كانت تساعد النساء المعنفات، لكنها أبدت اقتناعها أن العلاج النفسي لا يتماشى مع استمرار التعنيف، ووضحت أنه من المهم جدا أن لا نتعامل مع النساء المعنفات بأنهن مريضات، بل يجب حلّ العنف والتبليغ عنه وإيقافه. "نحن نقدم المشورة والمرافقة العلاجية حتى تصل المرأة المعنفة إلى قرار كيف ستتعامل مع هذا العنف الواقع عليها، إذ لا يمكن تقديم علاج ذي معنى، مع التعرّض إلى العنف في المنزل. لذا يجب العمل بداية على وقف العنف؛ حتى تكون قادرة على استقبال العلاج فيما بعد.

ومن الجدير بالذكر – تكمل الدكتورة جبر - أننا في وزراة الصحة أنشأنا مراكز للإرشاد الأسري في المستشفيات العامة لبحث مواضيع العنف. أعتقد أنه سيكون لائقا أكثر لو اتبعنا هنا في فلسطين نموذج التدخل لوقف العنف الذي لا يقتصر على المرأة، بل يجب أن يشمل أبناءها وزوجها إن كان هو المعنّف. بمعنى، أن تقدم الخدمات لكلا الطرفين: المعنِّف والمعنَّف، لأن المعنِّف قد لا يكون سويّا نفسيا ويحتاج إلى علاج، وإن كان سويّا فيجب عمل الإجراءات القانونية الرادعة. في كل الأحوال، استمرار العنف يبطل العلاج النفسي.

المعالجة النفسيّة

النساء بحاجة إلى أطر تساعدهن على توضيح مطالبهن، هناك فئات معينة من النساء لهن تجارب متشابهة كأمهات الأطفال الذين تم اعتقالهم، والذين يشعرون بالعجز عن حماية أطفالهن، كما يشعرن بالذنب أيضا.
 
كذلك زوجات الأسرى اللواتي يحملن أعباء الأم الوحيدة، بالإضافة الى شعورهن بالتهديد والعجز تجاه الأفراد الذين يحبونهم، والنساء المحررات اللواتي يحتجن إلى مساعدة على إعادة الاندماج في المجتمع.

سألت ضيفتي إلى أي مدى تتراوح طرق العلاج، بين جعل المريض أكثر قدرة على التفاعل الاجتماعي أو تلقي علاج عقاري؟ أجابتني بأن الطبيب حسن التدريب يدرك تماما متى يستخدم العقاقير ومتى يستخدم العلاج النفسي ومتى يستخدمهما معا، وفي كثير من الأحيان أعتقد أن الدمج بينها يعطي نتائج أفضل.

تتابع: "هناك بعض الاضطرابات الذهانية التي لا يجدي التدخل معها كلاميا قبل أن يتم إيقاف الأعراض الذهانية الحادة لأنها بدورها تعطل العمل العلاجي، لذا لابد من تخفيف وإيقاف الأعراض الذهانية قبل البدء بالعلاج الكلامي الذي يساعد على الاستبصار والبصيرة ويعتبر مفيدا في جميع الأحوال. والعلاج الكلامي هو عبارة عن مجموعة كبيرة من العلاجات، علينا أن نميز الغث من السمين منها لأن هناك الكثير من الناس الذين يدّعون تقديمهم للعلاج الكلامي لكن ما يقدمونه حقيقة هو مهاراتهم العادية في الكلام وهم ليسوا خريجي مدارس علاجية محترفة. ليس هناك الكثير من العلاجات المشفوعة بالدليل العلمي؛ لذا فإنه من المهم جدا أن نعرف نوع العلاج المقدم، وإن كان مشفوعا بالدليل العلمي أم لا، وكذلك علينا التأكد من أن تدريب مقدم الخدمة العلاجية كاف وأنه ليس مدعيا لهذه المهارات".

غ1.png
لكن هل تقومون كأطباء بحملات توعية لضرورة العلاج ومراجعة الطبيب النفسي؟ تجيب: "بصفتي الشخصية وبصفتي أيضا كرئيسة لوحدة الصحة النفسية التي تشرف على خدمات الصحة النفسية الحكومية، فأنا وزملائي لا نتوانى أبدا عن تقديم التوعية اللازمة وبلا هوادة، في كل من العمل الفردي مع الناس ومع عائلاتهم، كما نتعاون أيضا مع كافة الإعلاميين ولا نفوت فرصة الالتباسات التي تخص مجالنا المهني".

وتؤكد الدكتورة سماح أنّ النساء بحاجة لمساحة من الاستماع ربما أكثر من الرجال؛ فالنساء يتساعدن كثيرا بالتواصل، النساء بحاجة لعناية خاصة في فترات الحمل، كذلك بعد الميلاد. والتعبير الأفضل عن هذه الحاجة هو أن الأب عليه أن يحتضن الأم حتى تتمكن من احتضان الوليد. كذلك في متلازمة الدورة الشهرية، تعاني النساء من آلام وانفعالات، فهي تحتاج في تلك المرحلة إلى المساعدة وتخفيف الأعباء عليها.

بشكل عام فإن النساء بحاجة إلى أطر تساعدهن على توضيح مطالبهن، هناك فئات معينة من النساء لهن تجارب متشابهة كأمهات الأطفال الذين تم اعتقالهم، والذين يشعرون بالعجز عن حماية أطفالهن، كما يشعرن بالذنب أيضا. كذلك زوجات الأسرى اللواتي يحملن أعباء الأم الوحيدة، بالإضافة الى شعورهن بالتهديد والعجز تجاه الأفراد الذين يحبونهم، والنساء المحررات اللواتي يحتجن إلى مساعدة على إعادة الاندماج في المجتمع. وفي نهاية حديثنا، شكرت ضيفتي على إتاحة الفرصة لعمل هذه المقابلة الشيقة بالرغم من ضيق وقتها، معربة لها عن امتناني لخالقي أن جعل طرقنا تتقاطع في هذه الحياة فالتقيتها. آملة أن يجعل طريقنا معاً أطول، فردت كعادتها بابتسامة، ورحبت بالمزيد.