قد يجهل الكثيرون أن من أصعب المهام وأكثرها تعقيدًا على الإطلاق هي تربية طفل، هذه العملية تعني باختصار؛ صناعة إنسان، إنسان كامل بثقافة وأنماط تفكير، وشبكة مشاعر وأحاسيس وعادات جسدية ونفسية، وما يعتري تلك العملية من مخاطر ومشاقّ، ومجهود بدني وذهني ونفسي جبّار يتعرض له الوالدين، والأم بشكل خاص!
إن عدم إدراك ذلك ممن هم حول الأم، إما أن يكون مصدره النظرة النمطية السائدة إلى التربية بأنها فعل معتاد، متكرر، يحدث مع الجميع، وما تحمله هذه النظرة من إسقاط التجارب القديمة والأساليب التقليدية، ومقارنة صعوبة ومشقة تلك العصور مقارنة بسهولة ورفاهية هذا الزمن "المدلّع"، وإما أن يكون نابعًا من عدم قيامهم بعملية التربية أصلًا بالشكل الصحيح، وتنشئة أبنائهم بشكل عشوائي، وتركهم "للزمن يربيهم"!
وقد يكون ذلك أيضا لوجود أشخاص من العائلة يقومون بالمهمة نيابة عنهم، أو أن يكون نابعًا من تعميم تجربة فردية مرّت بمرحلة مريحة لينّة من التربية، قليلة المصاعب بسيطة الإشكالات، خالية من التعقيدات، بسبب طبيعة أطفالهم الوادعة المسالمة، غير المولعة بالتمرد أو الانطلاق أو الفضول أو الاختلاف.
في تلك الحالات، يظن الأهل أن عملية التربية التي مارسوها، هي نسخة مكررة موجودة لدى الجميع، وأنهم إذ لم يمروّا أو يلحظوا تلك المشاكل والتعقيدات التي يسمعون بها ويرونها لدى الآخرين، فسبب وجودها لدى غيرهم هو عدم قدرة هؤلاء على التربية! وأنه من حقهم تعليم وتوجيه، أو نقد وتقريع أولئك الآخرين لأنهم لم يحسنوا تربية أبنائهم.
| " ابنك مش متربي": عن الثرثرة ومتعة الانتقاد
إن من أكثر الممارسات السلبية التي نمارسها؛ انتقاد التربية، والتعليق على سلوكيات أطفال الآخرين التي ترجع إلى أساليب تنشئتهم، وإلقاء مسؤولية أية ملاحظة -لم تَرُق لنا- على كاهل الأهل، وأحيانًا نفرط في الانتقاد إلى حدّ الحكم عليهم بالفشل، وهي -للمفارقة- فضلًا عن كونها إحدى أسوأ الممارسات، أسهلها، وأكثرها شيوعًا، نرى تمارسها الجدات المخضرمات، والأمهات الكبيرات أو القرينات، بل وأحيانًا الفتيات الصغيرات اللاتي لم تسبق لهن خبرة أو تعلم!
كلهن يتناوبن على الأم المسكينة التي قد تكون قرأت كل مراجع ومبادئ التربية، وجربت كل محاولات الترغيب والترهيب الحديثة، وأنفقت كل ما تستطيع من الصحة والمال، لتنهار كل محاولاتها تلك أمام قفزة طائشة من ابنها راح ضحيتها كأس، أو مزهرية، أو نوبة غضب منه كانت نتيجتها صفعة لصديقه أو صرخة في وجه أمه.
من المؤكد أن الحديث هنا ليس عن نصيحة أمينة، أو نقل تجربة مهمة، ولا عن تصرف يستدعي التدخل أو النقد الصادق، وإنما عن عادة الثرثرة، ومتعة الانتقاد، التي خرجت عن الموضوعية والمنطق، وخرجت عن السيطرة!
| قبل الانتقاد
نحن حين ننتقد الأنماط السلوكية لبعض الأطفال، أو الأساليب التربوية لبعض الأهالي نغفل عن الكثير من النقاط المهمة
| أولها: إن عملية التربية في حدّ ذاتها ليست نمطًا ثابتًا مستقرًا، لها خصائص مشتركة، أو شكلًا معمّمًا، نستطيع من خلاله أن نحكم عليها بالصواب أو الخطأ، فهي عملية فريدة متغيرة متنوعة، تختلف باختلاف بيئة وشخصية وطبيعة وخصائص كل طفل على حدا، كل طفل، حتى ضمن حدود الأسرة الواحدة، فلا سبيل أو مجال للمقارنة إطلاقًا مهما تشابهت الظروف.
| ثانيها: إن التربية عملية غير حتمية النتائج، أي أن بعض أنماط التربية الخاطئة قد تنشئ -لظروف ما- أطفالًا صالحين، وأن التطبيق المثالي للتربية السليمة قد لا يمنحنا بالضرورة أطفالًا أسوياء!
ولذلك، قد يكون الأهل قد بذلوا فعليًا كل محاولاتهم في أن يكون أبناؤهم مثاليين، لكن بعض طبائع الأبناء قد يصعب ترويضها، فلا تظهر كل تلك المجهودات المبذولة واضحة على سلوكهم، لذلك، وجب علينا أن نكون واثقين من أن أفعال الأبناء التي تزعجنا تكون مزعجة لأمهاتهم بشكل مضاعف.
| ثالثها، والأهم: إن المبادئ التي نعمل على غرسها في أبنائنا تراكمية، يحتاج إلى زمن طويل ليترسخ في عقول وإدراك الأبناء، ومن ثم يظهر على سلوكهم، ولذلك، فإن استجابتهم بطيئة نسبيًا، قد يعتريها النسيان والملل والكسل، وتحتاج إلى تكرار متواصل، وعلى فترات طويلة.
قبل أن نجلس على مقعد الناقد، ونطلق على أمٍ حكم الإعدام تربويًا: "ابنك مش مربّى"، علينا أن نفكر في عدد السنين التي تقضيها في حرب نفسية وذهنية وجسدية من أجل أن تتقن تربية أبنائها، وأن البلاءات تتنوع، وقد يكون بلاء أحدهم في أبنائه.
حين قرأت يومًا عبارة تُنسَب لابن مسعود رضي الله عنه يقول فيها: إن من أعلام الساعة وأشراطها أن يكون الولد غيظًا، وأن يكون المطر قيظًا"، تأملت طويلًا وصفه الأبناء بالغيظ، في أيامنا المخيفة المؤرقة هذه، حيث يتراكم المجهود، فتنسفه التحديات، ونجاهد لبناء القيم فتهدمها العولمة، ونسعى لحرية الإنسان فتستعبده الحضارة، غيظ فوق غيظ، وليس لنا إلا أن نستعين -بعد أخذنا بكل الأسباب- برب قريب، حافظ مجيب، ليأخذ بصبرنا وعزيمتنا، ويأخذ بأبنائنا إلى الرشاد.