لقد كان الطبيب النّفسيّ الأمريكي جون غراي الذي ألّف كتاب: "الرجال من المريخ، النساء من الزهرة" ذكيّا جدّا في طرحه، وفي انتقائه لعنوان مماثل. فالحديث هنا، يتمحور حول هذين الكوكبين، لا من ناحية موقعهما الجغرافي وخلفيتهما الفلكية، ولا من ناحية إحصاء عدد أقمارهما، ولكنه اختصر الفكرة العامة، ووفّر علينا عناء كاملًا في فهم معادلتها.
هذه المعادلة ـيا سادة في غاية البساطة: الرّجال¹النساء، فكل صنف منهما من كوكب مختلف عن غيره في الخصائص، والتضاريس، والمناخ، ومراحل التشكّل والفناء. وهكذا الجنسان؛ شخصية الرجل مختلفة عن شخصية المرأة، لكلّ منهما دهاليز نفسيّة خاصة، وغياهب متفرّقة، ومتطلبات داخلية متنوّعة، وطريقة فريدة من نوعها في التفكير، تمامًا كالكوكبين: المرّيخ يمتلك غشاءً رقيقًا، لذلك، فهو بارد جدّا، وقد تبلغ درجة حرارته 60 درجة مئوية تحت الصفر. الزّهرة على العكس من ذلك تمامًا، كوكب ساخن، ذو غلاف جويّ كثيف، يسمح له بتخزين الحرارة التي قد تبلغ 400 درجة مئوية!
في عالم مواز، من كوكب آخر، قد يكون الأرض، لا يقصّر الرجال في الاتهام الدائم للنساء بأنهنّ عاطفيات جدًّا، وأنّ مشاعرهنّ تطغى، نسبيًا، في كلّ مجال، كما لا تقصر النساء بدورهن في اتهام الرجال بالبرودة، والجمود، وامتلاك صخرة عوضًا عن القلب! نحن لسنا هنا لتبادل الاتهامات؛ المهمة تكمن في أن نفهم أنّهما من طينتين مختلفتين، وأن تركيبهما ليس ذاته، وأن منطلقاتهما متضاربة، وعلينا كذلك، أن نتقبل هذا الاختلاف، ونتعامل معه، وفق معطياته.
| الجنسان "مميزاتهما"
يبدأ الكتاب بذكر الميزات الأساسية التي يمثلها كلّ جنس؛ الرّجال على سطح المرّيخ يهتمون بالقوة والفاعلية والإنجاز، ويعتبرون كلّ ذلك دليلًا على كفاءتهم، ووسيلة لإثبات ذواتهم، يحاولون حلّ المشكلات بأنفسهم، ويهتمون للأشياء المادية الملموسة أكثر من الأمور المعنوية، يقدسون مسألة مقدرتهم على حل المشكلات، كأنهم بذلك، يتخذون شعار: "لماذا أُشرك شخصًا آخر، بينما أنا قادر على القيام بذلك بنفسي؟".
النّساء على العكس من ذلك، يمجّدن المحبة، والتواصل والمساعدة، وازدهار العلاقات، ويسارعن في محاولة إيجاد حلول للمشكلات، من غير أن يتمّ طلب ذلك منهن، إنهنّ مبادرات بشكل أكبر، وحريصات أشد الحرص على تنمية العلاقات وتقويتها.
من هذا المنطلق، يصيغ "جون غراي" لكلا الجنسين أول قاعدة، عليهما الالتزام بها؛ يأمر المرأة بأن تكفّ عن إسداء النّصح: النصح بالنسبة للرّجل، ولو كان نابعًا عن نية طيبة، وحبّ واهتمام، إلّا أنه يستقبله على أساس أنه اعتراف بالعجز، صحيح أن المرأة تحاول المساعدة في حل المشكلة لا أكثر، ولكنه يقرأ في نصيحتها رسالة إهانة وتعالٍ، لأنه يظن أن حلّ مشكلاته خاصّ به هو فقط، ولا دخل لأي أحد آخر في ذلك.
لكن ماذا لو تطلبت المشكلة مساهمة فعلية من الطرف الآخر؟ ماذا لو كان الأمر مستعجلًا؟ هنا يأتي دور الحيل والتكتيكات "السياسية"، يشير "جون غراي" إلى إمكانية تقديمها، ولكن بطريقة غير مباشرة، كمثال على ذلك: "أنا أثق في قدراتك، ولكن ما رأيك لو نفعل كذا؟"، "فكرتك رائعة ولكن لو نجرّب كذا؟". المرأة بانتهاجها لهذه الطريقة، سوف تضمن بادئ ذي بدء عدم اتخاذ الطرف الآخر لردّة فعل دفاعية، أو استنكارية، وسوف تنجح في الوقت ذاته في توجيه اهتمامه إلى رؤية معينة لم ينتبه لها، ستضرب عصفورين بحجر، دون إراقة للدماء!
نعود إلى الرّجل، ما المطلوب منه؟ وما المشكلة التي تعانيها المرأة من أسلوبه؟ يأمر الكاتب الرّجل بتعلم الإنصات. المرأة تتحدث عن مشكلتها كمحاولة منها للإفضاء، ونفض أثرها السلبيّ عن نفسها، إنها تحاول التقرّب، تحاول الحديث بإسهاب، تحاول البوح بالمشاعر، ولا تبحث في كلّ من ذلك عن الحلول، لكن الرجل يسارع في اقتراح حلّ ظنًّا منه أنّه يساعدها، فيرتدي قبعة السيّد الخبير، ويبدأ في الحديث عن المفترض به الحدوث. وهنا، تتم قراءة الرسالة من الطرف الآخر على أنها قلة اهتمام.
فما الحلّ؟ الحقيقة أنّ المطلوب من الرجل هو أن ينتظر، وينصت، بصبر واهتمام، حتى تفرغ المرأة من شكواها، ويعود إليها هدوئها. القضيّة إذن، قضيّة أسلوب، وفنّ انتقاء الكلمات المناسبة في الوقت المناسب، بإمكان كلّ منهما الحصول على ما يريده من الآخر، لكن، هل سيتم استخدام الوسيلة المناسبة؟
| الكهف والأمواج والأحزمة المطاطية
الكهف بمفهوم أشمل وأوضح هو عزلة الرجل الاختيارية، وطريقته في الشعور بالاستقلالية والحرية، وإيجاد الفرصة لحلّ المشاكل التي يتعرّض لها من غير طلب للمساعدة. وهو مع كل ما يرافقه من ابتعاد وصمت وانسحاب عن الطرف الآخر، يوقع المرأة في تشوش عاطفيّ، مما يدفعها إلى الضغط أكثر، وتتوالى اتهاماتها للرّجل بأنه غير مهتم، وأنّه لا يقدرها ولا يقدر مشاعرها، فتأتي المشاكل بطبيعة الحال.
لا يوجد هنا مخطئ ومصيب، إنّما تتمثل القضية في سوء الفهم؛ لا يتحدث الرجل عن مشكلته، فتظن المرأة أن هناك خطبًا ما، فتلجأ إلى أسلوب الضغط، فيشعر الرّجل بمساس في استقلاليته وطريقته في حلّ المشاكل، فينتج اضطرابات عن كل هذه الدوامة. والنصيحة هنا من غير إطالة، موجهة إليك، عندما يدخل الرّجل إلى كهفه، ابتعدي عنه قدر المستطاع، دعيه يشعر بأنه حرّ، وأنه غير مقيّد بمشاعرك، لن تطول فترة مكوثه هناك، فبمجرد ترتيبه لأفكاره، سيعود من جديد إلى سابق عهده.
يعطي "جون غراي" لإيصال فكرة التقلبات المزاجية عند الجنسين، تشبيهًا للمرأة بالأمواج، وللرجل بالأحزمة المطاطية. لماذا لجأ الدكتور إلى الموجة والحزام المطاطيّ دون غيرهما؟ إنه يرى أن المرأة مثل الموجة، لأن تقديرها لنفسها يتصاعد إلى الذروة عندما تشعر بأنّها محبوبة، لكنها وفي ذروة التقدير تلك، تستحضر بعض المشاعر السلبية التي قامت بكبتها أثناء الصعود، والشعور بالفراغ وبعض الرواسب المتشكلة من ظروف خارجية، الأمر الذي يؤدي بها إلى الغرق في ظلام من المشاعر المتناثرة، فتتنازل تلك الموجة.
المشكلة المطروحة هنا، تكمن في سوء فهم الرّجل لهذه التقلبات، فهو يعتبر نفسه، لا إراديّا، مسؤولًا عنه، ويحس بأنه سبب ذلك، الأمر من ناحية ما، يبدو منطقيًا؛ لقد كانت هذه المرأة للتوّ سعيدة، فما الذي أحزنها؟! نصيحة "جون غراي" إلى الرجل هي ألاّ يحاول إصلاحها، فهو بذلك سيجعل الأمر أكثر سوء. إن أكثر ما تحتاجه المرأة في غمرة تقلباتها النفسية تلك هي الدعم والإنصات والانتباه لمشاعرها المضطربة، مهما كان الأمر –بالنسبة للرّجل- لا يستحقّ، مهما كانت المشكلة ليست بمشكلة أصلًا. إنها لا تحتاج لأن تسمع عبارات مثل "ليس من المفترض بك أن تكوني حزينة؟"، أو "ماذا دهاك، لماذا أنت متقلبة؟"، هي فقط تبحث عمّن يرافقها في رحلة النزول إلى قاع البئر، وستشعر بتحسن مجددًا.
الرّجل حسب "غراي" مثل حزام مطاطيّ. فهو يسلك في علاقته مع الجنس الآخر مراحل متمثلة في: اقتراب- انسحاب-اقتراب. انسحاب الرّجل هو سلوك فطريّ، يترجم حاجته إلى الاستقلالية، والحريّة، والانفراد بالذات والقرارات الشخصيّة.
بالمقابل، لا تنسحب المرأة إلاّ إذا كانت مشاعرها منكسرة، أو كانت غاضبة من الرجل، فتسقط بذلك فهمها للانسحاب بالنسبة إليها على الرّجل، فتظنّه قد يئس أو كره منها، وتظن أنها ارتكبت خطأ ما، فتمارس عليه نوعًا من الضغط لإجباره على الحديث، ومعالجة "المشكلة" التي هي بالنسبة إليه غير موجودة أصلًا، لأنه يحتاج إلى مساحة، لا أكثر ولا أقل!
"إذا لم يحصل الرّجل على الفرصة للانسحاب، فإنّه لن يجد أبدًا حظه في الشعور برغبته القويّة في الاقتراب.
يقول "جون غراي" عن عواقب محاولات المرأة لجذب الرجل عند انسحابه: "إذا لم يحصل الرّجل على الفرصة للانسحاب، فإنّه لن يجد أبدًا حظه في الشعور برغبته القويّة في الاقتراب. من الضروريّ للنساء أن يفهمن أنهن إذا أصررن على مودة مستمرّة، فإنه حينئذٍ، سيحاول دائمًا أن يهرب، وينأى بنفسه".
كلّ ما سبق يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: التفهّم. إذا تفهّم كل طرف احتياجات شريكه النفسيّة؛ بأن يعطي الرّجل للمرأة دعمًا، وتمنح المرأة للرجل مساحة -عند حاجتهما لذلك- فسيكون التعامل مع المشاكل التي تعترض العلاقة أسهل وأكثر متانة.
| قاموس الرّجل والمرأة: الحديث بلغتين مختلفتين
من المهمّ أن نشير إلى أن أساليب الجنسين في الحديث ليست ذاتها، وأنّ الرسالة التي تصل إلى كل منهما، غالبًا ما يتمّ فهمها بطريقة خاطئة بسبب ترجمتها الحرفيّة، أو تأويلها إلى معان سلبية. تستعمل النساء أثناء الشكوى مفردات بالاستناد إلى مشاعرها، وهي تتوقّع أن يتم فهم المعنى الخفيّ وراء هاته الجمل التي تصيغها عند حاجتها إلى الدّعم، فهي تبحث عن مشاعر، لكن، يخطئ الرّجال في عدم البحث عن مقصد المرأة الصحيح منها، وتكون إجابتهم عبارة عن معلومات، وقد ضرب "جون غراي" أمثلة لذلك، فهي عندما تقول "الكل يتجاهلني"، يجيب الرّجال مباشرة: "أنا متأكد من أن البعض ينتبه لك"، فسّر الطبيب النفسيّ هذه الحالة بقوله:
"تستطيع أن ترى كيف أن الترجمة الحرفية لكلمات النساء، يمكن أن تضلّل الرجل الذي اعتاد على استعمال اللغة كوسيلة لنقل حقائق ومعلومات فقط، ونستطيع أيضًا أن نرى كيف يمكن أن تقود استجابات الرجل إلى مجادلة". فالمرأة تحسّ بعد تلك الأجوبة بأن هناك عدم اهتمام بمشاعرها ومقاصدها، ويرى الرجل عدم وجود خطأ في أجوبته - بناء على كلماتها - فتنشأ المجادلة، التي تتضمّن أخطاء كثيرة، من هروب الرجل وقتاله، ويظنّ نفسه بريئًا، ويتهم الطرف الآخر، إلى تطويق المرأة للموقف باستسلامها بأن الرجل على حق، أو تظاهرها بعدم الغضب، كل ذلك يأتي بمشكلات كثيرة على المدى البعيد.
فالطريقة المثلى لتعامل المرأة مع صمت الرّجل هو أن تتركه لحاله، وتهتمّ بأشيائها الخاصّة حتى يستطيع شحن طاقته من جديد.
في التفاتة للعرّاب: "أحمد خالد توفيق" عن أحجيات المرأة في الكلام، يعطي قاموسًا طريفًا لبعض كلمات المرأة ومعانيها الحقيقيّة: الصورة رغم طابع المزاح الذي يسودها، صحيحة إلى حدّ كبير، إذا ما أخذنا ضرورة التأويل بعين الاعتبار.
نعود إلى الرّجل، إن أكثر ما يميّز لغته ومفردات قاموسه هو الإيجاز وطول الصّمت، الصمت في حدّ ذاته، لغة يجب أن يتم ترجمتها بشكل صحيح. لكن النساء يسئن فهمها، لذلك، يبدأن بطرح احتمالات الكره أو الملل أو وجود المشاكل، والتي تكون في معظمها لا أساس لها. ف"أنا بخير" التي يقولها الرجل، تجيب عليها المرأة بعبارات مثل: "يبدو أن هناك خطبًا ما"، أو "دعنا نتحدّث"، إنها بذلك تمنعه من البقاء في كهفه الذي يحتاجه، لأن ترجمة "أنا بخير" هي "أنا على ما يرام، وأستطيع التعامل مع ما يزعجني، لا أحتاج إلى أي مساعدة، شكرًا لك". على حسب ما يراه "جون غراي".
فالطريقة المثلى لتعامل المرأة مع صمت الرّجل هو أن تتركه لحاله، وتهتمّ بأشيائها الخاصّة حتى يستطيع شحن طاقته من جديد، ويتقبل فكرة البوح أو الحديث. مثلما تحتاج النساء إلى الرعاية والتقدير والاهتمام، فالرجال بدورهم يحتاجون إلى الثقة والتفهم والتقبل.
ختامًا،العلاقة الزوجية كتابين لفصول السّنة، ومخطئ من يظن أنها ربيع وحب فقط. لا بدّ من عناصر أخرى كثيرة تغذيها حتى لا تذبل ولا تضعف. الكتاب شائق ماتع، يحتوي على تفاصيل كثيرة، ويعدّ بحق دليلًا ناجعًا للتعامل مع الجنس الآخر، وأنصح أن يكون في قائمة قراءة كل مقبل أو مقبلة على الزواج.