بنفسج

مدارس متهالكة واختيارات ناجحة.. عن الصباحات الضاحكة

السبت 30 يناير

الخواطر هنا كثيرة، الذكريات، الماضي ومدى توافقه الحسي مع الحاضر، الطموح، حصد الدرجات، سُلم الوصول للنجمات، سقف الأهداف، الإحباط، اليأس، ومن ثم العودة للأمل، الجد والاجتهاد رغم رمادية الواقع. مضى وقت طويل ولا زلت تحت تقلبات الحالة الجوية، لكل ما سبق ذكره، مع وجود حقيقة أخفيها تارة، وأصفح عنها ساخرة في المرة الأخرى، وهي أني كنت طالبة كسولة في المدرسة، أو بالأحرى كنت ناقمة عليها، أستيقظ في الصباح وبرودة الفجر تعاقب جسدي الصغير، برعشة كانت أشبه بالعقاب الأول ما قبل الوصول للبوابة الزرقاء التي تبعث الكآبة على النفس، وتحمل أقفال معدنية خَشية هروب الطلبة، أو محاولة تسللهم في نصف الدوام الرتيب، فهذه دلالة أني لست المُجبرة الوحيدة على هذا!

صوت المعلمة العبوسة على الميكروفون يرتعد بعجرفة اتجاهنا كي نسوّي الصفوف، ثلة صغار من طلاب المدرسة الذين وصلوا البوابة بعد أن دق الجرس، كضمة ياسمين ذابلة، كانوا يلتفون حول بعضهم البعض، بعيون خائفة كاسرة، كنت أقرأها بتركيز ثاقب، في عيونهم الناعسة خشية الخيزرانة التي تحملها ناظرة المدرسة لمعاقبتهم على التأخير عن الطبور الصباحي، "أوه يا إلهي!! تَذكر هذا يبعث الألم بالنفس!".

ولأصارحكم أكثر، كنت أكره المدرسة، ويغلفني الهم في كل صباح، متى ننتهي من هذا الصرح الإلزامي لكل شيء، حتى في تداعيات الرغبة والقبول للوجوه العُبسة، وصولاً إلى الواجبات المدرسية الكثيرة، معلومات لا شغف اتجاهنا لتعلمها، فلم أختر ما أرغب أن أتعلمه.

هل هذه مؤسسة تعليمية، أم مدرسة أحداث تأديبية، تنتهج العنف كأسلوب تربوي؟ كنت أرى الشبابيك كالتي في السجن الذي لم أره قط سوى في الأفلام المصرية القديمة، إنها شبابيك معدنية مطلية بالدهان الأزرق، حتى ألوان الحجرات المدرسية مريبة تبعث الملل بالنفس، أوووه يالهذا العذاب.

ولأصارحكم أكثر، كنت أكره المدرسة، ويغلفني الهم في كل صباح، متى ننتهي من هذا الصرح الإلزامي لكل شيء، حتى في تداعيات الرغبة والقبول للوجوه العُبسة، وصولاً إلى الواجبات المدرسية الكثيرة، معلومات لا شغف اتجاهنا لتعلمها، فلم أختر ما أرغب أن أتعلمه، وأعتقد أنه حال الكثير من صغارنا في وقتنا هذا، وهذا ما يدفعني دومًا لسؤال أول طفل يذهب المدرسة ضاحكة "أتحبها؟". فيجيب: لالالالا". أبتسم، وأستعيد الماضي الرتيب برمته "لستُ وحدي إذًا!".

انتهيت من المرحلة الأصعب على الإطلاق، بنظر الكثير من الطلبة، والتي استعديت لها بقمة الإهمال والتأفف، وهي "التوجيهي". بعد هذه، اختلفت المعادلة بدرجة فارقة عما كنت عليه سابقًا، أي أن بعد هذه المرحلة، تستطيعين اختيار ما يتجه شغفكِ له، أيقضني الطموح مُخبرًا لي "استعدي لدراسة المساقات التي تحبين، لا مواد تعليمية تفرضها عليك المرحلة كباقي زملائك من ذات المرحلة، وليس الاختصاص والتوافق الفكري والإبداعي، لا رياضيات كرهًا، لا حصة علوم وجغرافيا قسرًا، أنتِ من ستختارين ما تتعلمينه، وليس المرحلة التي تختار لنا ما يتوجب تعلمه".

أذكر أني تمنيت تعلم الموسيقى، بدلًا عن إجراء التجارب على ورقة عباد الشمس، وتغير لونها من أزرق إلى أحمر، نتيجة تفاعلات لا أدري ما علاقتي بها حتى هذه اللحظة!

أضعنا الكثير من الوقت في تعلم أشياء لا تتوافق مع الطموح فينا، ولا حتى مع الميول. أذكر أني تمنيت تعلم الموسيقى، بدلاً عن إجراء التجارب على ورقة عباد الشمس، وتغير لونها من أزرق إلى أحمر، نتيجة تفاعلات لا أدري ما علاقتي بها حتى هذه اللحظة!! كم يبعث هذا السأم بالنفس حتى حين تخطر لي، وأعيد مراجعة التفاصيل المملة في داخل المختبر الممل.

نعم.. أعترف! كُنت فتاة مهملة دراسيًا لدرجة غير مقبولة، حتى ذهبت إلى المرحلة الجامعية، وهنا اختلفت تلك المهملة بشكل ملحوظ، وهذا لأني كُنت أنا من يختار ما يرغب تعلمه، الطاقات كانت عظيمة، الشوق، الحماسة مع كل إفلاقة شمس للتمهيد ليوم جديد كان يوصف "بالضاحك المستبشر".

الآن صار في متناول يداي، مساقات تتحدث عن الإذاعة والأدب، عن تاريخ الصحافة، والتحرير، والمقال، عن شغف الطفولة التي أقحمه الخجل، وقلة الثقة بالنفس، بالماضي، والذي لم تساعدني -المدرسة- من التخلص منه، بل زيادته وتعميقه. اخترت تخصص "الإعلام" مع سبق الإصرار، حان موعد إثبات الذات لكل من اعتقد أني فتاة فاشلة، نتيجة دنو التحصيل الدراسي، وخاصة ما حصدته في "التوجيهي" الذي كان على شفى حفرة من الهاوية.

بدأت أحصد سنوات الإهمال والانطفاء الذي لاحقني فترة الدراسة نتيجة الكبت للحريات الفكرية والنفسية، فكم كانت حرية التعبير؛ رغم صراخ معلمة "التربية المدنية" المتأففة العبوس القمطرير، داعية لنا لنردد خلفها "من حقي حرية التعبير والرأي" والتي لم تُطبق طوال تلك الحقبة، وعلينا وضع علامة يعجبني في الامتحان كتأييد على مناصرتنا لحق بالتعبير، حتى لا تُعنف لغبائك، بعلامة تسحق تحصيلك الدراسي، يا للحريات ما أعظمها آنذاك.

حين تمسك بكتاب عنوانه يحاكي الشغف بداخلك، ويشبه الوهب الذي تمتاز به؛ فإنك تبدع لحد اللامعقول، ستُصدم من قدراتك العقلية، فلن يكون المساق الدراسي عقابًا أو شبحًا تهاب الدنو منه، سيكون أشبه بوجبتك المفضلة التي تلتهمها بكل لذاذة، سيكون رواية حب بنهاية سعيدة، تبعث الأمل في الروح، سيُثار الشغف فيك، ستبدع، تتألق، تتفوق وتتميز إذا كان ما تتعلمه يروي ظمأك العطش، سيُوهج قنديل أفكارك الذي انطفأ من تعلم أشياء كانت بالإجبار.

عندما تكون أنت من تختار، ستضحى جميع المساقات ملهمة، حتى أنك ستنتظر انتهاء الفصل الحالي؛ شوقًا لتعلم ودراسة المساقات الأخرى، والتي تزيد من حصيلتك العلمية اتجاه التخصص الذي اخترت. أذكر في المدرسة كان لكل طالب مادة تعليمية هي الأفضل عن غيرها بالنسبة له، منهم من كان يحب الرياضيات، العربي، ويفضل الإنجليزي، أما عن نفسي، فكنت أحب حصص الرسم، والتاريخ، والنصوص، والأدب العربي. دون ذلك -لا-، وهنا كنت أفضل الذهاب لعالم فاصل عن الفصل الرتيب الذي نلتقي به كل يوم أكثر من ذواتنا.

في المرحلة الجامعية، ستكون أنت الإسناد الأساسي لنفسك، المُعلم الأول، تنفرد بعقليتك وتفكيرك، لا أحد يتشابه مع أسلوبك، حتى الكتاب الذي بين يديك، تُصيغه كم وصلتك الفكرة ليس كما عُرضت عليك، وهذا ما يجعل الطلبة يحافظون على التفوق الدراسي في ظل اعتماد استراتيجية ومنهجية "التعليم عن بعد" في جميع المؤسسات التعليمة، لتصبح واقعًا يتيح للطالب، الاعتماد بشكل أساسي على مجهوداته، وهنا يتطلب وجود "الشغف" في التعلم، الشغف الذي لا يتوفر إلا بقبولك وتوافق تخصصك.

إذ إن مدى الرضا عما تدرس سيحافظ على استمرارية التعليم، ونجاح الاستراتيجية المتبعة في ظل جائحة "الكورنا". فإذا كان ما نتعمله بالإجبار مثلما كنت أشعر في سنوات المدرسة؛ فستكون تلك الاستراتيجية مهربًا يُعلق على عاتقها الطالب المجبور على التخصص، الحُجج، مبررًا بالأقناع لتراجعه وإهماله الدراسي. وكم تمنيت ظهور هذه الجائحة وقتما كنت في المدرسة، لتخلصت من مشاهدة ما ذكرته سابقًا، فتلك ستكون المهرب وحُجة الاهمال والكسل الذي أرتع به.

في ظل هذه الجائحة التي اعتمدت هذه الاستراتيجية كصرح أساسي للتعلم، هو امتلاك "الشغف نحو التخصص، الطموح اتجاه ما أتعلمه"، ولو تحددت أسس النجاح فإن "الحُب" وحده وبمقدوره إذابة كل المعوقات التي تقف كالصخرة اتجاه النجاح رغم الظروف القاهرة.

إن هذه الاستراتجية استطاعت أن تنقذ -الشغوف والمُحب- لما يتعلمه، واستطاعت انقاذه من التراجع في التحصيل الدراسي، إذ إنه يعتمد وبشكل أساسي على نفسه في فهم واستيعاب المساق، حتى وإن كانت المحاضرات التي تقدم عن بعد باعتماد التكنولوجيا وسيلة. أذكر أني في لمرحلة الجامعية لم أسخّر جميع طاقاتي للاستماع لمحاضرة، إن كان الأسلوب الذي تقدم فيه المعلومات يخالف طاقة الجذب لدي، فكل الاعتماد على الذات في إيصال المعلومة، وفهمها. هكذا الطبيعية البشرية، فهي تنجذب لما يشابه سجيتها وشكل أفكارها ورسمِها.

لكل طالب قدرات تعليمية مختلفة عن الآخر، وبالتأكيد، فإن نجاح التعليم في ظل هذه الجائحة التي اعتمدت هذه الاستراتيجية كصرح أساسي للتعلم، هو امتلاك "الشغف نحو التخصص، الطموح اتجاه ما أتعلمه"، ولو تحددت أسس النجاح، فإن "الحُب" وحده وبمقدوره إذابة كل المعوقات التي تقف كالصخرة اتجاه النجاح رغم الظروف القاهرة، الحب والشغف يجعل من شخص لا يُتقن سوى لغة واحدة أن يتعلم خمس لغات -عن بعد- من خلال اللجوء لاستراتيجية التعليم الإلكتروني، بمقدورك أن تُتقن العزف على الآلات الموسيقية، وإثراء تلك الثقافة من خلال التعلم -عن بعد-، كذلك تعلم المقامات الموسيقية باحترافية من خلال اليوتيوب، وغيرها من المنصات التعليمية.

فهنيئًا لمن كان اختياره للتخصص الجامعي عن "حب وشغف"، فحتمًا لن توقفك الظروف ولا عثرات الزمن، فإذا انطفأ الشغف؛ سترى صرحُك التعليمي كالسجن الذي كنت أراه منذ مرحلة الابتدائية.