بنفسج

محطات: الكتابة والتخصص و"ريحة" البلاد

الإثنين 08 مارس

يقولون إن لكل امرئ من اسمه نصيب، وهذه الأحلام، كالفراشة، تحط على الزهر فتستنشقه، لا قراءةً فحسب، بل علمًا صافيًا، معرفة حقة، ومنهجية واضحة. ها هي ذي وكإني بها تقول: أتجه لمجلس العلم هذا، أتراني أنتسب إليه، هل أجدني فيه حقًا؟ أذنًا مصغية، وروحًا مستنشقة، وعقلًا منجذبًا، ونفسًا راضية؟ أتراني أحلامًا، لا بد مجربة إياها؟ ولماذا الكتابة عن أحلام، هل لأنني وجدتها ناطقة بلسان حالها، في المنشأ والطفولة، في التعليم والشغف، في الغربة والمنأى، في الأمومة والعائلة، مدونة عن نفسها، ومشاعرها، والقضايا من حولها، بحميمية صادقة، وقلم مخلص!

وإن كنت متخيلًا أن مداد الكتابة، وإلهامها، هو نتاج لحظات صفاء ذهني خالص، وتأمل عميق بينما تقضي ساعات طوال في خلوة، فأنت مخطئ! إنني متخيلة لها، تفكر في كل أوقات الصخب من حولها، في حلها وترحالها، في مطبخها بينما تطهو لأطفالها، في تعليمها إياهن أسس اللغة، في اللعب، في حكايات القصص المروية بألفة العائلة، في ضجرها من دور الأمومة والمهام المستحيلة، في كتابتها لأبحاث الجامعة ومتطلبات صفوف الدكتوراه!

| ذكريات البلاد

أحلام.png
السيرة الذاتية للباحثة أحلام مصطفى

تكتب أحلام عن امرأة عادية، ولكنها مصرة، في ذات الوقت، تخوض الكثير من التجارب لتقرر أي الطرق تسلك. عن امرأة تجد رابط المودة والذكريات بين كباية الشاي ورائحة الخبز الطيبة والوطن، تستأنس بهما، وتستشعرها، وتكتب! تعلم يقينًا أن الفكرة صيد والكتابة قيد، فتكتب عنها وعن النقاب، عن تجربتها الخاصة وتحولات مرت بها مع الوقت، فلا تترك علاقتها بالزمان والمكان مفتوحة، هكذا على سجيتها، عندما تسمح لعقلها بممارسة النشاط الفكري، فيما يعتقده البعض محاولة لإثارة الجدل. لا تأبه، تمضي واثقة، وتدعو بالثبات.

ولدت أحلام في عام 1986، في بني سهيلة جنوب شرق قطاع غزة. يعمل والدها محاسبًا، ووالدتها مدرّسة جغرافيا، سافر والداها إلى الإمارات، وبعدها التحق بهم الأبناء. لا تذكر أحلام عن طفولتها في غزة سوى مداهمات البيوت والمناوشات التي كانت تحصل بين الجنود والشبان. عاشت وتربت بين 6 أخوات وأخوين، إذ تقول: "إن فكرة العائلة الكبيرة التي ترعرعت فيها كانت سببًا في حبي للإنجاب، فكوني الأكبر في العائلة، تحمّلت الكثير من المسؤولية في تربية أخوتي وتدريسهم والاعتناء بهم...تأخذني القريحة اليوم إلى الماضي، لسبب ما أتذكر تجاربي القليلة من طفولتي في غزّة، أذكر يديّ جدّي أكثر من أي شيء آخر، لونها كلون أرضه بني أحرقته الشمس، ومعرّقة كجذور شجيرات الزيتون فيها.

ح1.png
تكمل أذكر أن علامات التعب والشقاء بادية عليها، ليست أيادٍ ناعمة ملساء، أذكر فطوره الذي عهدته، بضع قرون من الفلفل الأخضر مع قليل من الجرادة الخضراء (أو ما يسمّى بالشّبت لا الجرادة الحشرة، تخيلت من يقرأ يبحلق في الشاشة فجأة وتجحظ عيناه وهو يقرأ كلمة جرادة هنا). يفركها بأداة كيد الهاون من الخشب نسيمها "مدقّة" في إناء فخاري "زبديّة" وينثر عليها كمية وافرة من الملح ثم يغمرها بزيت الزيتون. أخذنا نحن الغزيّين المغتربين عادة تناول الأكل في "زبديّات"، نحضرها من غزّة خصيصًا حتى نعدّ فيها سلطتنا وفولنا وعدسنا. كان هناك خلاطات، نعم، وأجهزة أخرى تحل محلها، ولكن لا شيء كطعم لقمة تأخذها بيدك وتمسح بها حوائط زبديتك.

أذكر أيام الأعراس التي مرّت عليّ هناك، يا إلهي كم هي كثيرة! فالصيف كما في كل مكان موسم. كان الناس يوزعون على الحضور أكوابًا وكؤوسًا زجاجية ملونة بالأزرق والأخضر والأحمر وعليها رسوم ذهبية، مملوءة بحبات من الحلوى أو الفستق المغلف بالسكر (الملبّس)، تلفها ورقة شفافة وكأنها طبقة زجاجية ملونة تجعل الأمر يبدو ككنز ثمين بنسبة لطفلة في عمري حينها، كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، فأنا لم أدخل غزة منذ الانتفاضة الثانية، لا تسألوني لماذا، فذلك سيدفعني للحديث عن السياسة والضمائر والحقوق، وأنا كما قلت لا طاقة لي بذلك اليوم.

ح4.png
وهناك مراسم الترحيب التي كانت تتكرر كلما ذهبنا، كان هناك نوعان من البسكويت، نستقبل منهما كميات خرافية من الزائرين، كان ذلك جزئي المفضل. أكوام من كعك الشاي و "الويفر" محليّ الصنع، وليترات لا تعدّ ولا تحصى من العصير أو المشروبات الغازية، كنا أطفالًا، وكنا نلتهم تلك الكميات، ثم نخرج لنحرقها ونحترق معها تحت شمس الصيف. وما إن تنتهي إقامتنا حتى يستحيل لوننا إلى بني محروق كأهل البلاد، ثم نعود إلى خليجنا فتجلونا حوائط البيت وتشحب وجوهنا من جديد.

من المهم أن تعرفوا أيضًا أننا كنا نعود بكل ما هو أساسي لمعيشة الفلسطيني في الخارج، لا، ليس جواز السفر عديم الفائدة ذاك، بل أكياس المرمرية المجففة، والزعتر الأخضر، زجاجات زيت الزيتون المغلقة بعناية بطبقات من الأكياس البلاستيكية والشرائط اللاصقة، زبدية أو اثنتان حسب الحاجة، مغلفات الكاكاو على غير المتوقع، والكثير من حلوى جدتّي لأمي، البنفسجية، لن أحدثكم عن تلك الحلوى فهي شيء آخر لا يمت لعالم الكلمات بصلة، شيء خرافي لم أتذوق، ولا أعتقد أنني سأتذوق مثله مرةً أخرى، لا أعرف من أي كانت تحضرها، ماتت جدتي وأعتقد أن تلك الحلوى اختفت معها، على الأقل بالنسبة لنا.

ح6.png
ثم تقودني الذاكرة إلى المعبر التّعيس، ذلك الركن الكريه، مرة أخرى السياسة، الضمير، الحقوق. مشهد أتذكره في كل مرة أستدعي صورة المعابر، أختي الصغيرة في ليلة صيفية حارة، رضيعة تنتظر مع من ينتظرون بين صفوف القضبان الحديدية والبوابات الفولاذية. العرق يبلل طبقة الثياب الوحيدة التي تلبسها، أحملها فيما ينهون معاملاتنا، جنود لا يعرفون لغة الأرض، ولا لون سمائها يحددون لنا متى ندخل وإلى أين نعبر، "تعال اشرب ميّ" يقول المجند، لعلّ قلبه رق لمشاهد الصغار. كنا نحذر بعضنا من شرب المياه، "أكيد حاطين فيها سمّ، بدهم يضحكوا علينا"، أصارع الخوف، ولا ألتفت، وأتابع المسير.

تتحدثون عن الصمود والشموخ، ولكنكم لا ترون فيها شحوب كل مدينة أخرى أعياها الشحّ، وأنهكها التعب، لا ترون بشرًا لهم طبائع الناس كما في كل مدينة، لا ليسوا ملائكة ولا قدّيسين، لا ترون فيها ما رأيت. أعماكم التقديس وأرضى ضمائركم الحديث عن "شرف الأمة" الذي لابد أنه أغلى من كل هذا.

| من كلية القمة إلى الإعلام

تركت الطب غير مأسوف عليه، وظللت لأشهر، بل سنوات، أتلقى عبارات الاستنكار من الأقارب والأصدقاء ومن لا يعرفني أصلًا، كنت أجد الكثير من المتعة في ملاحظة ردود أفعال الناس بعد مشاركتهم تلك المعلومة، هناك نوع من الرضى يأتي من وراء كسر هالات المجتمع البغيضة، وأفكاره العرجاء.
 
قضيت سنوات التعليم الجامعي أتنقّل في المواد الاختيارية بين الأقسام والكليات، من تاريخ المغرب والأندلس، إلى الكيمياء العضوية، إلى إدارة الأعمال، إلى علم الاجتماع، إلى مقارنة الأديان.

ومتى بدأت أحلام بالتدوين، وأنت التي تنقلتِ بين تخصص في العقول العلمية إلى الحق الإنساني والاجتماعي، ما هذه الوثبة وإلام أفضت. تعود أحلام إلى مرحلة الدراسة الإعدادية عندما قررت أن تكون كاتبة من نوع ما، تقول: "كنت عندها أقرأ لكاتب تحت اسم مستعار عمودًا اسمه "فنجان قهوة" في جريدة محلية، وكنت مأخوذة بجودة الكتابة ورشاقتها فانطبعت في ذهني.

بعد أن أنهيت سنوات الثانوية العلمية واتجهت لدراسة الطب، استجابة لآمال والدي، قلت يمكنني أن أستمر في الكتابة، ولا بأس أن أتخذ الطب مسارًا لحياتي. قضيت في كلية الطب أسبوعين لم أفعل فيهما شيئًا سوى الدراسة والبحلقة في الكتب، والذهاب إلى الجامعة، والأكل والنوم. ترددت على مختبرات الفيزياء والكيمياء التي أفقدتني صبري تمامًا! أو على الرغم من أنني كنت أقضي الساعات المطلوبة في المذاكرة والتحضير، وشاركت في العروض التقديمية وخلافه من المقررات، إلا أنني جئت والدي وقلت: سوف أحوّل إلى كلية الإعلام.

ح3.png
اصطحبني والدي إلى مكتب عميد كلية الطب، بعد قراءة فحوى الطلب، سأل: تريدين التحويل إلى كلية الإعلام؟ فأجبته بالموافقة. وقّع على الطلب وهو يتعجب من حالة التخلف العقلي المؤقتة التي أصابتني لأقدم على فعل كهذا. وكان أبي معي يؤكد لي أنني أرتكب خطأ، والدليل هو ردة فعل العميد المستنكر لجريمتي النكراء.

يا بنتي كيف تتركين الطب إلى الصحافة؟ يا بنتي لا يهم المال المهم العلم! يا بنتي يهديك يرضيك، كان الأمر قد حُسم بالنسبة لي، ربما يستطيع أحد غيري أن يتعايش مع حقيقة أنه سيقضي 7 سنوات من حياته في تخصص لا يجد فيه نفسه، ويرمي موارده المادية في الهواء! ولكنني لم أستطع أن أتحمل الفكرة! 

استحوذ عليّ أن الأمر أشبه بسرقة، ابتزاز مادي، وأنني أولًا وأخيرًا أُستنفذ في مجال لا أفضلّه. في الحقيقة، كنت عندها على قناعة بأنني أتخذ القرار الأنسب لوالدي وليس لي فقط، وأنه سيدرك ذلك مستقبلًا بعد أن تنزاح أضواء الطب الباهرة. لأننا ننسى كثيرًا أن مسؤولية أهلنا تجاهنا لا تعني أن نستعبدهم بها.

أحلام4.jpg
أحلام مصطفى في مؤتمر مع رضيعتها ثم مع زملائها في الجامعة

بعد انتقالي إلى كلية الإعلام قضيت فصلًا استمتعت فيه إلى حد كبير بمحاكات المؤتمرات الصحفية ودراسة بعض المساقات، ولكنني في نهاية الشهور الأولى أحسست بأن الصحافة لا تأتي من الكتب ولكن هي مهنة ممارسة، وأدركت بأن رغبتي في الكتابة خصوصًا الأدبية التي أعشق، ستُفيد أكثر من انغماسي في اللغة بكل تفاصيلها. كما أنها تفتح لي باب الدراسات العليا التي أردت أن أتركها خيارًا.

علينا أن نعترف بأننا مهما شطحنا بأحلامنا المثالية بعيدًا عن واقع نكرهه، فلا بد أن نترك منفذًا نعود به إلى واقع نحبّه. تابعت بعدها دراسة اللغة العربية في مرحلة الماجستير، ثم انتقلت لنيل درجة أخرى في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وأقبع الآن في غياهب الدكتوراه اللذيذة التي أدرس فيها سرد الذاكرة، والفاجعة في روايات الراحلة رضوى عاشور.

تركت الطب غير مأسوف عليه، وظللت لأشهر، بل سنوات، أتلقى عبارات الاستنكار من الأقارب والأصدقاء ومن لا يعرفني أصلًا، كنت أجد الكثير من المتعة في ملاحظة ردود أفعال الناس بعد مشاركتهم تلك المعلومة، هناك نوع من الرضى يأتي من وراء كسر هالات المجتمع البغيضة، وأفكاره العرجاء. قضيت سنوات التعليم الجامعي أتنقّل في المواد الاختيارية بين الأقسام والكليات، من تاريخ المغرب والأندلس، إلى الكيمياء العضوية، إلى إدارة الأعمال، إلى علم الاجتماع، إلى مقارنة الأديان.

ح2.png

شاركت في الأنشطة الطلابية وترأست جمعية القسم، ساهمت في التحضير لمؤتمرات دولية، وعملت مساعدة تدريس، وجدت الوقت لقراءة كتبي الخاصة، ومشاهدة الأفلام التي أحب ومطالعة الأخبار والتفاعل معها. لا أؤمن بالتخصص الواحد، أعتبره نقمة من نقم العالم الحديث، نعم من الضروري أن يكون هناك متخصصون، ولكن لا أعتقد أن من مصلحتنا أن يكون المتخصصون عميان لا يرون سوى ما يتعلمونه من كتب التخصص، ولا يعرفون شيئًا عن ما يحدث حولهم، ولعل النظام التعليمي الذي يفرض على طلبة كليات "القمة" هذا النوع من الحياة المنعزلة هو ما نفّرني منها. تركت كلية الإعلام بعد ثلاثة أشهر.

أين ذهبت ولماذا؟ ذهبت إلى كلية الآداب قسم اللغة العربية، لأسباب يصعب حصرها. ولكن الحقيقة التي لم أستطع تجاوزها هي أن عشقي "للتعبير" هو ما كان يحركني، عشقي للكلمات ومن يحسنون استخدامها. أمرّ الآن بتجربة الكتابة الأكاديمية في مجال البحث العلمي المتحجر المشاعر، ولا أحس بنفس اللهفة، وإن كنت أحاول بغباء أن أطبع الكتابة الأكاديمية الجافة ببعض الأدب. ولأعترف بأنه أمر لا يروق للكثيرين، وينوبني بالكثير من التعديلات والتعليقات.

ح7.png
انتقلت إلى دراسة اللغة العربية، ثم الماجستير في اللغة العربية وآدابها أيضًا، حيث ركزت على الخطاب وتحليل الخطاب الروائي الإسلامي المعاصر. ودرست أيضًا ماجستير ثان تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، لأتوسع قليلًا في مجال اللغة واللسانيات وطريقة التعامل مع اللغة. أما دراستي للماجستير في الجامعة الأمريكية، فقد كانت المرة الأولى التي أبتعد فيها عن أسرتي وأكون مستقلة في بلد آخر لوحدي.

بطبيعة الحال، أي تجربة يمر بها الإنسان تغيره وتغير طريقة تفكيره، فعليه أن يستفيد منها قدر الإمكان، فأنا كنت في بيئة جديدة محاطة بأناس مختلفين عمن التقيتهم قبلًا، أدرس مساقًا مختلفًا، ومجالًا مختلفًا مكنني من الالتقاء مع شخصية هي من أكبر الشخصيات لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، الدكتور سعيد البدوي، وقد كانت تجربة مهمة. الدكتوراه كانت في علم الاجتماع والدراسات الثقافية، وحاليًا أغوص في دكتوراه ثانية لها علاقة في الدراسات الاجتماعية والسياسية.

| الكتابة في حياة أحلام

أحلام5.jpg
أحلام مصطفى مع زميلتها ثم صورة قديمة لها مع عائلتها

وكيف تكتب أحلام ومتى! إن الكتابة الجادة لا تبدأ من الوعي كما تراها، بل تأتيك الفكرة كما ينقض عليك الإحساس بالجوع، تقول: "ليست كتابتي حالمة ولا جادة، ولا أعتقد أنها فكاهية ساخرة، وإن استمتعت ببعض الكوميديا السوداء من وقت لآخر، أعتمد على مشاهداتي اليومية أو تأملاتي أو قراءاتي وأبحاثي حتى أكتب، غالبًا ما تأتيني الفكرة هكذا دون تخطيط، ليس لأنني لا أعتبر الكتابة أمرًا جادًا، بل لأن الكتابة الجادة لا تبدأ من الوعي كما أراها، تأتيك الفكرة كما ينقض عليك الإحساس بالجوع بعد يوم طويل مرهق فيأكلك من الدّاخل، ولا يختفي حتى تتعهده بوجبة "محترمة".

كما أود أن أعتقد أن تأملاتي الشخصية وخبراتي اليومية قيمة للدرجة التي يجدر بي مشاركتها مع آخرين، من باب عموم المنفعة على اعتبار أنني أحمل أمانة نشر العلم الذي تلقيته من لحظات الضياع في الملكوت التي تنتابني من حين لآخر، فينتج عنها نوع من التجليات غير معروفة الاسم، والتي أطلق عليها تجاوزًا "تأملات" على سبيل احترام الذات وتضخيم الأنا.

ح8.png

أنظر إلى صفحتي، فأجد أنني قاربت على الانتهاء، وقد كنت أحمل همّ البداية، وهذه يا سادتي هي إحدى فوائد الثرثرة والاستسلام لتيارات الأفكار الجارفة، أعتقد بأنني أتكلم أكثر مما أفكر، أكلم نفسي والأشياء من حولي أكثر مما أكلم الناس، لعلي قرأت في مكان ما أن هذه علامة من علامات الجنون، لكن لا بأس، فقد قرأت أيضًا أن الجنون ملازم للعبقرية! أراهن أنه بالإمكان أن نجد بحثًا علميًا يدعم كل فكرة تبدو حمقاء نريد أن نسوقها للناس هذه الأيام.

ما علاقة أحلام باللغة العربية؟ وكيف انعكست هذه العلاقة على طفلاتها الأربع، وهن اللوات يعشن في بلد غير ناطق بها؟شخصيًا، بدأت اعتياد استخدام الإنجليزية في البحث والكتابة الأكاديمية، ولكن أبدًا أحس بأنني أفتقد شيئًا عزيزًا، جزءًا من نفسي وأنا أستخدمها، كما تقول رضوى عاشور رحمها الله: "العربية هي وطني، العربية هي كتابي الذي تمتلئ صفحاته بموروثي، حكايتي مع الزمن، وطموحي هو أن أضيف سطرًا إلى أولئك الموجودين فيه".

يثير سعادتي وتفاؤلي أن أرى عدد الأهل الذين يهتمون بتعليم العربية لأبنائهم في ازدياد، أو ربما هي دوائري الخاصة التي توحي لي بذلك، ولكن عدد الذين يستصعبون هذه المهمة أكثر بكثير، لأن الاعتقاد السائد هو بصعوبة العملية، أو ضرورة توفير مدرسين خاصين، أو الالتحاق بمدارس ودور تحفيظ، ولكن الحقيقة أنني لم أمارس مع طفلاتي أي نوع من أنواع التلقين أو التعليم بصورته التقليدية المعروفة، لم نجلس ونحفظ الحروف ولا الكلمات، ولم نردد آيات طويلة لا تفهمها، كل ما فعلناه هو أننا قدمنا اللغة فقط، وهي كونها طفلة، فإن دماغها أشبه بالإسفنجة امتصت ما قدمناه لها حسب قدراتها.

| منهج تربية أطفالها

بنات أحلام.jpg
أطفال الكاتبة أحلام مصطفى

نظرًا لاهتمامي الخاص باللغات، وحبي لتعلمها فقط، كان لدي تصور عن طبيعة النشأة اللغوية التي سأقدمها لأطفالي قبل الزواج، ثم عزّز ذلك دراستي لطرائق اكتساب اللغة عند الأطفال خلال سعيي للحصول على درجة الماجستير في تعليم العربية للناطقين بغيرها. انعكس ذلك على ابنتي الكبرى عندما ولدت وقبل الولادة على ما أذكر. كنت أشغل خلال حملي وخصوصًا في الشهور الخمسة الأخيرة القرآن والموسيقى والأغاني والأفلام بصوت عالٍ، أو أضع سماعات الحاسوب على بطني حتى يصلها الصوت. ومن جرّب هذا سيلحظ تفاعل الطفل منذ وقت مبكر مع هذه الأصوات. تقريبًا استمعنا للعربية والإنجليزية والإسبانية والأوردو على ما أذكر.

عندما بدأت ابنتي الصغيرة الكلام بدأت، كأي طفل، بدأت بالأصوات لتعبر عن حاجاتها، أوبا: أي احمليني، أَم: أريد طعامًا، هَو: في إشارة إلى الدُّب. ثم شيئًا فشيئًا بدأت تردد بعض المفردات، وقد لاحظت أنها التقطت المفردات بالنطق الإنجليزي بداية كما كانت تسمعه في المادة التي وفرتها لها، حتى وإن سمعت مني نطقًا مختلفًا. في حدود ستة أشهر كنت قد بدأت أقرأ أجلس معها ونشاهد "حكايات القمر" على قناة براعم للأطفال (الآن مشفرة)، وكنت ألاحظ أنها تحب كثيرًا الموسيقى المصاحبة، فأستغل ذلك لننتظرها بالاستماع للقصة وأتحدث إليها عنها.

ح10.png

ثم بدأت أشتري كتب المفردات المصورة للأطفال، مثل الألوان والأشكال والحيوانات، وقد كان نشاطها المفضل أن تقرأ كتاب الحيوانات مرارًا وتكرارًا، مع تقليد أصوات الحيوانات في كل مرة، وقد كان أول ما اكتسبته القدرة على تسمية الحيوان بالفصحى وأداء صوته. وفي الألوان كنا نكرر اسم اللون ثم نبحث عن الأشياء في البيت التي لها نفس اللون (استخدام مباشر للغة)، كل هذا بالفصحى.

شيئًا فشيئًا بدأت أحكي لها قصصًا عن الحيوانات ،أختلقها، ليست الفكرة في جودة القصة أو عدمها ولكن في استخدام المعلومات الجديدة التي اكتسبتا في سياق حتى لو لم تفهم كل الكلمات. يمكن استخدام قصص الأطفال القصيرة جدًا المتوفرة في السوق أو على الإنترنت، وغالبًا ما تكون مقسمة حسب العمر. عندما بدأت ألاحظ أنها اختارت العربية الفصيحة بدلًا من العامية كلغة أم (نعم هي التي اختارت ولست أنا من فرضت عليها الحديث بها) بدأت أبادلها الحديث بها ووالدها كذلك قدر المستطاع، وغالبًا ما نخلطهما معًا.

ثم بدأت أزيد من المحتوى الذي تتعرض له يوميًا، مع بداية العام ونصف كنا نشاهد مثلًا "فقرة فافا" على قناة براعم، وبرنامج مثل الكابتن كريم، وبرنامج حروف ورسوم. غالبيتها يتوفر منها حلقات قديمة على الإنترنت أو يمكن مشاهدة بعضها على موقع قناة براعم. الفكرة في مشاهدة البرامج هي في أن تكون مصحوبة بتفاعل معها من قبل الأهل، أي نتحدث عن المحتوى، نسأل الطفل ماذا يقصد فلان بهذا؟ ماذا حدث هنا؟ لماذا حدث هذا؟ بحيث لا يكون مجرد تلقي سلبي للمادة، وهو الأمر الذي ينفر من قضية التعرض للتلفاز.

ح9.png

كما أجد أنه لا يجب السماح ببرامج أطفال مثل الرسوم التي تنتشر هذه الأيام بالموسيقى الصاخبة والمحتوى الفارغ، للأسف هي المنتشرة. لا نشاهد ولا نستخدم أي محتوى من قنوات مثل نيكولوديون، ولا إم بي سي كيدز ولا سبيستون الجديدة. فقط البرامج والرسوم التي يكون المحتوى والعرض على قدر من الهدوء والتعمق، مثل برنامج المناهل الأردني، وافتح يا سمسم الجديد، وبعض الرسوم مثل "مغامرات نور" وبوكويو" و "ماشا والدبّ"، ومؤخرًا بدأنا نتعرف على رسوم مثل: سالي، عهد الأصدقاء، وصديقي المحبب، وبانكي الصغيرة (وبطلتها فتاة مصابة بمتلازمة داون)، وفي مرحلة قادمة سنتعرف على مسلسلات مثل: بوليانا، ونوّار، إلخ من المسلسلات التي تعقد النظرة العامة للحياة وتعرض لمفاهيم متعددة باستخدام لغة عربية سليمة.

ماذا عن انتقالها وعائلتها إلى بلد ناءٍ، وعن التحديات التي واجهتها هناك؟ في البداية كنا راغبين في العيش باستراليا، فبدأنا بالبحث حتى أكرمنا الله برسالة الدكتوراه، وانتقلنا إلى العيش هناك في عام 2015. بالتأكيد، هناك العديد من التحديات التي واجهتنا منها بعد المكان جغرافيا وجهلنا المكان وثقافته وطبيعته.

ح5.png

السنة الأولى لي كانت متعبة حقًا، فعندما سافرت كنت حاملًا في شهري الخامس، وبدأت دراسة بحث الدكتوراه مع عمل وتدريب، إضافة إلى تقييم لسنة أولى من الدكتوراه، ومهمات التدريس كذلك. اجتماع كل هذه المسؤوليات على عاتقي أرهقني حتى وصل بي المطاف في نهاية السنة وأنا أعاني من الاكتئاب الناجم عن كمية الضغط الذي شعرت به. فقررت أن انفصل انفصالًا تامًا عن الجامعة، وأخذ بي الأمر ثلاثة أشهر من العزلة، عدت بها لنظامي الأسري، وبدأت أعمل على نظام الدكتوراه عن بعد دون الذهاب الى الجامعة.

إنني على قناعة تامة بأن الأسرة تعيد التوازن للإنسان، وتمنحه الاستقرار والهدوء. عدت للالتزام بالدراسة والتدريب وكتابة الأبحاث الإلكترونية والتدوين، ورويدًا رويدًا بدأت أعتاد البيئة الجديدة، وآلفها، وأحتك بالآخرين الذين يتشابهون كثيرًا مع الثقافة الإنجليزية بصفة عامة. لعل أكبر التحديات هو الحفاظ على الهوية والثقافة العربية وتعليم اللغة العربية للأطفال، فأنا أحاول دائمًا أن أتعامل وأتحدث معهم بالعربية.

درست اللغة العربية للناطقين بغيرها في بلد غير عربي، كانت تجربة غريبة لأنني كنت أتعامل مع طلاب من خلفية عربية ولا يجيدون نطقها. كانت المرة الأولى التي أحتك فيها مع أشخاص لديهم علم بالثقافة العربية ولا يجيدون نطق اللغة. أضاف ذلك في فهمي لهويتي كشخص وهوية هؤلاء الناس، هذه التجارب توسع من افق الانسان وفهمه للعالم وتوسع من تقبله لاختلافات الناس من حوله.