بنفسج

مخاريز ناعمة: "سوشيال ميديا" تنتصر لفلسطين

الخميس 03 يونيو

في السادس من أيار/مايو دقت أيادي الشيخ جراح جدران الخزّان الفلسطيني الصامت، بعد أن قامت شرطة الاحتلال الإسرائيلي بالاشتباك مع أهالي حي الشيخ جراح الموجود في الجانب الشرقي من البلدة القديمة في القدس، من أجل تنفيذ قرار المحكمة الإسرائيلية بإخلاء المنازل الفلسطينية وتهجير أهلها لإحلال مستوطنين إسرائيليين مكانهم.

هنا كانت شرارة البداية للنار التي اشتعلت في كل فلسطين التاريخية، بدأ بعدها توافد أهل القدس وفلسطينيو الداخل المحتل للتجمهر في شارع الحي لدعم الأهالي ضد المستوطنين الذين يحتمون بالجيش المدجج بالسلاح، ولكي يخففوا هذا الالتحام، قام جنود الشرطة الإسرائيلية باستفزاز المصلين في المسجد الأقصى في الجمعة الأخيرة في رمضان 7 أيار/مايو لتندلع مواجهات عنيفة استمرت عشرة أيام في أرجاء فلسطين التاريخية كلها، من رأس الناقورة إلى النقب، لتضع غزة النقاط على الحروف وترسم مشهد الكرامة الأجمل في المعركة. في مقالي هذا سأتناول كيف لعبت "السوشال ميديا" دورًا في هذه الحرب؟

خلال الأيام القليلة تحولت أنظار العالم إلى فلسطين، بعد سنوات من الغياب كأهم قضية عالمية، فبعد أن كانت عناوين الصحف والقنوات تقول الضفة الغربية في خبر وغزة في خبر آخر وأسماء مدن الداخل المحتل تطرح بالأسماء العبرية، صارت اللد الفلسطينية تطل في العناوين الرئيسية.

في البداية، كان للذراع الإعلامية دور كبير في تسيير المعركة، ولا أقصد أنها السبب الرئيسي؛ فالحروب تكون على أرض الواقع لا على الشاشات ومواقع التواصل، فهي بصدور الجند لا بأصابع المحللين والمصورين، ولكن الحروب اليوم تُصاغ بما وصلنا إليه من حداثة هذا العصر، فلم تعد تكفي الأسلحة، وإنما يلزمنا استغلال كل ما هو متاح من سياسية وإعلام، فخلال الأيام القليلة تحولت أنظار العالم إلى فلسطين، بعد سنوات من الغياب كأهم قضية عالمية، فبعد أن كانت عناوين الصحف والقنوات تقول الضفة الغربية في خبر وغزة في خبر آخر وأسماء مدن الداخل المحتل تطرح بالأسماء العبرية، صارت اللد الفلسطينية تطل في العناوين الرئيسية، والأهم أنه كان كل فلسطيني مراسلٌ حربي، فلم نحتج أو نطلب قنوات عالمية لتصدر المشهد، بل نحن من حملنا المشهد من شاشات هواتفنا وأرسلناه للعالم.

ونذكر هنا ثيودور هرتزل حجر الأساس في الحركة الصهيونية الحديثة، ولم يكن حجراً! فهرتزل كان صحفي وناشط وكاتب استطاع أن يكون النبي لفكرة إنشاء دولة لليهود في العالم، ووهب حياته للكتابة وإنشاء وعي جمعي لليهود في أحقيتهم في هذه الدولة حتى عُرف بأبي دولة إسرائيل، لذلك كانت الصحافة أول أداة استخدمته الصهيونية لهشم تفكير العالم وتدشين روايتهم.

ولأن هذا المحتل يريد أن يخلق دولة كاملة، تراه يضرب في كل المناحي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا، لربما هنا في دول الجوار يهمه وجوده كيانًا قويًا عسكريًا، لكن على مستوى العالم يهمه صورته، فهو يريد أن يقنع يهود العالم أولاً بمدى صلاحية العيش في هذه الدولة من أمان واستقرار، ويقنع العالم بمدى هو شعب إنساني يريد السلام مع دول المنطقة، لذلك تراه يخصص ملايين الدولارات على الإعلام.

لكن هذه المرة خسروا في معركة السوشال ميديا، فلقد جن جنون مسؤولون من الاحتلال، ومنهم وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ليجروا اجتماع طارئ مع مدراء شركة فيسبوك وموقع التيك توك طالبًا منهم محاربة المحتوى الفلسطيني الذي استطاع من خلاله الفلسطينيون تصدير كل ما يحدث في شوارعهم ومدنهم

ما قبل الثورة المعلوماتية والإعلامية في دول العالم الثالث، كانت حكايا هدم القرى والتهجير لا تُنقل إلا من أهالي القرية ذاتها لأهالي القرية المجاورة التي لجئوا لها، وإن سُمِعت في الإعلام تُسمَع على استحياء، وحتى بعد أن صار الإعلام العربي إعلامًا قويًا، في النهاية، انصاع للمشهد الإعلامي العالمي، وتصالح مع وجود المحتل، وصار يُسمي الشهداء قتلى، وصارت القدس العربية هي قدس شرقية فقط، وصار الأبطال إرهابيين، وصارت أخبار المواجهات والعمليات تؤخذ من الصحف العبرية مع عناوينها كعمليات إرهابية، لتُظهِر المحتل بمظهر إنساني كل همه العيش باستقرار لولا هؤلاء الفلسطينيين الغوغائيين من جهة، ومن جهة أخرى الحفاظ على معنويات شعب المحتل، والحفاظ على الصورة النمطية لهذا الجيش القوي، وأن ومقاومتنا هي نفخ في قربة مثقوبة.

لكن هذه المرة خسروا في معركة "السوشال ميديا"، فلقد جن جنون مسؤولون من الاحتلال، ومنهم وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ليجروا اجتماع طارئ مع مدراء شركة فيسبوك وموقع التيك توك طالبًا منهم محاربة المحتوى الفلسطيني الذي استطاع من خلاله الفلسطينيون تصدير كل ما يحدث في شوارعهم ومدنهم، وكيف يتعدى الجنود على العزل، والقمع الإجرامي للمظاهرات التي بدأت في حي الشيخ جراح، وعربدة الجيش في المسجد الأقصى واستخدام الرصاص والقنابل على المرابطين.

ليس فقط تصدير ما يحدث لمجرد النشر، بل كان طريقة لربط الشارع الفلسطيني والمشاعر الفلسطينية، فصور أطفال غزة تحت الركام وفيديوهات الاشتباكات في الداخل المحتل، وصور المواجهات في الضفة الغربية، استطاعت أن تجمع الكل تحت راية الوحدة، فالشارع لم يعد يتابع أخبار السياسية وينتظر السياسيين إنما ثبتت المقولة أن الشعب دائمًا يسبق قيادته وفي يده زمام الامر كله، وصار نبذ الانقسام مطلب الفلسطينيين ككل على مختلف أحزابهم.

 والأهم، لقد غيرت لنا مفهومًا عريضًا حاول الاحتلال زرعه فينا، وهو أسرلة فلسطيني الداخل وذوبان هويتهم مع هوية المحتل، من خلال التعايش الكاذب، ما جرى أعاد ترتيب العناوين من جديد وأنعش الهوية الفلسطينية بعد أن حاول الاحتلال إقناعنا بأن فلسطينية الداخل المحتل اختفت، فالصور التي نشرت والفيديوهات كانت أصدق إنباءً من قولهم.

إن ثقافة الصورة في الحرب هي الجندي المجهول في الكواليس، وهي الرسالة التي تٌحكم النتائج من خلالها، فبعد أن تكاتف الفلسطينيون كلهم استطاعوا أن يخطفوا أنظار العالم لهم، خاصة بعد موجة التطبيع التي اكتسحت الدول العربية في الفترة الأخيرة، وكيف حاولت دولة الاحتلال استقطاب وجوه معروفة من كتًاب وممثلين ولاعبين من أجل استغلال شعبيتهم لنشر فكرة أن "إسرائيل" هي دولة مسالمة ويمكن التفاهم معها وزيارتها.

يعني أن ينشر مشهور عن ما يحدث في فلسطين يعني أن تصل هذه المعلومات لملايين من المتابعين، والذين أغلبهم من الأجيال الجديدة الذين ولُدوا على دولة "إسرائيل" في شكلها الأخير، ولم يعرفوا كيف بنيت على القتل والتهجير ليخرجوا في شوارع عواصمهم منتفضين.

وهذا يدفعها لدعوة لاعب كرة القدم الشهير ليونيل ميسي ليزور حائط المبكى والاحتفال به منذ أعوام قليلة؛ هو خلق تواجد وقبول لها في كل الساحات، وما بين ميسي وعارضة الأزياء الشهيرة بيلا حديد مثلاً التي نشرت تضامنها الكامل مع القضية الفلسطينية، وغيرها من مشاهير ومؤثرين أدى إلى وجود معركة رقمية ضاغطة لتتسابق قنوات الإعلام العالمية لتسليط الضوء على ما يحدث وكشف الحقيقة، وأخذ فيديوهات حية من فلسطينيين وليس فقط المصادر العبرية.

معنى أن ينشر مشهور عن ما يحدث في فلسطين يعني أن تصل هذه المعلومات لملايين من المتابعين، والذين أغلبهم من الأجيال الجديدة الذين ولُدوا على دولة "إسرائيل" في شكلها الأخير، ولم يعرفوا كيف بنيت على القتل والتهجير ليخرجوا في شوارع عواصمهم منتفضين، فبعد أن أراد الاحتلال الكذب في قصف غزة، وقال أنه يدمر مواقع عسكرية، لكن ما نُشر يؤكد على وحشيته، فلم يقصف إلا مدنيين ومواقع عامة وأبراج سكنية.

وأيضًا ما نُشر حطم صورة المحتل أمامنا أولاً وأمام شعبه، فلم يعد المستوطن يطمئن أو يخاف أو يذهب للملاجئ من أخبار قنوات حكومته، بل من مواقع وتصريحات غزة، فقد قُهر الجيش يُقال بأنه لا يقهر. وبرز دور مواقع التواصل في يوم الإضراب الشامل الذي قرر في 18 أيار/مايو، حيث كان قرار شعبي تم تعميمه ونشره على السوشال ميديا ليصل لكل شارع فلسطيني، حتى أعلنت الجولان السورية المحتلة ومخيمات لبنان دخولها في الإضراب أيضًا.

اليوم نحن أغلقنا القنوات التي تبث الحقيقة ناقصة، وبعثنا سفراء التيك توك لينقلوا الحقيقة كاملة، وصرنا نكشف كل ما يحدث ما بين جرائمهم في حق المدنيين وقوة مقاومتنا وجدوتها. وكما قال الكاتب إبراهيم نصر الله: "مصير الحكايات التي لا نرويها أن تصبح ملكًا لأعدائنا، يجب أن لا نسمح للاحتلال أن يسرق منا الكاميرا، فمعركة الصورة معركة مهمة ويجب أن تظل الجهود في النشر والتوثيق دائمًا وليس فقط في الأحداث الهامة".